الزول قفزاً باتجاه البحر مضيت، فى ذات اللحظة التى كان يقفز هو فيها لعبور الطريق بساقه التى يعرج بها، كادت سيارة مارقة مسرعة ترفعه من على ظهر الأرض وتهبط به جثة هامدة . انخلع قلبى وطار فى الهواء ثم عاد مرة أخرى إلى قفصه، ومازال يرفرف. وفى ذات اللحظة التى رأيته فيها يسير بجوارى بعد نجاته بقامته الفارعة وعمامته السودانية البيضاء الكبيرة مبتسما عن وجه أسمر طويل وفم بلا أسنان بعد أن قال : الله يخرب بيتك يا" زول " كنت هاتكلنى. وغمغم بعبارات لم أفهمها قلت له : أنت سودانى أليس كذلك ؟! قال : البطن مصرى والعقل سودانى! قلت مبتسما : ده انت معلم كبير قوى! هل تقصد أن أمك مصرية ؟! قال : لا, بل ولدت لأبوين سودانيين ولكنى أعنى أننى أعيش هنا فى مصر منذ زمن من أجل لقمة عيشى التى أسد بها جوع بطنى ، لكننى أعيش بعقلى السودانى . غريب لست أدرى كيف عرف " عبده" وأبوه أصحاب مقهى الشاطىء أننى طبيب؟!! حاولت عبثا أن أثبت لنفسى أننى غريب فانتقلت إلى مقهى آخر.. ولدهشتى لم أعامل كغريب؛ عاملونى وكأنهم يعرفوننى منذ سنوات طوال، وكأن ختم وزارة الصحة مطبوع على وجهى يصاحبنى أينما ذهبت فى الحل وفى الترحال. تلك الدهشة تعترينى دوما حين أصل إلى حدود الأمكنة: فلا أحد يجهلنى. حادثة اطمأن على أن " البطيخة " مستقرة بجوار كيس ملابسه البلاستيكى وبه هدومه المتسخة، وقف على رأس الطريق الإسفلتى الصاعد ينتظر سيارة الميكروباص ليعود إلى بيته بعد انتهاء يوميته، باغتته البطيخة وتدحرجت سريعا نحو الأسفل, وفى ذات اللحظة التى انتبه هو فيها لها هشمتها سيارة مارقة، فتفجر الدم الأحمر القانى من أحشائها وغطى الإسفلت الأسود، وقف مدهوشاً مصدوماً وكأن رأسه هو الذى تهشم!! تجشؤ كان المقعد الوثير يئن أسفل مؤخرته العظيمة وجسده الفحل السمين والذى يترجرج مع حديثه اللاهث، بينما كان وجهه الأبيض المشرب بحمرة وردية ينطق بنعمة المال السائب من حوله فى مقر عمله. وقفنا, نحن من كنا على وشك الهلاك فى مأموريتنا المقدسة للوطن المفدى, أمامه, دون أن يتعطف علينا بأن نجلس ونحن آتون من سفر بعيد، قال بصلف وعنجهية: ماذا تريدون؟! قال أحدنا: حقوقنا يامعالى الباشا السفير، خطب فينا زاعقا وأعطانا درسا رديئا فى أصول الوطنية, وزاد بأن أمنا العظيمة بقرة جف ضرعها الآن وما من حليب, ثم انتحى جانبا ليتجشأ بصوت هز أركان جناحه الفخم الوسيع. حريق تلك التى أحرقتنى وتركتنى رمادا ذرّته الريح فسكن شقوق الكون، كيف ألملم ذرات رمادى المبعثر ؟ جريمة ولد صغير رهيف حالم رأى الناس يصطادون العصافير بنبالهم القوية، صنع نبلة قوية بيديه الناعمتين واعتلى قبة السماء، طارد سرب عصافير بنبلته وتخير واحدة مزركشة بهية، سلط نبلته صوبها فسقطت دامية بين ذراعيه، انخلع قلبه من قفصه وطار فى الهواء وتركه فارغ الصدر، جلس حزينا بلا قلب يضمد جرح ضحيته،،، استجواب تحسست أذنى معالم وجهه، بدا بصوته الأجش صارما، صلد الملامح: وجه مستطيل، أنف ضخم، وجنتان حادتان، أذنان كبيرتان، عينان جاحظتان حمراوان تكادان تفران من محجريهما مع نبرات صوته, يعلوهما حاجبان كثيفان منسقان على حالهما الكثيف، شارب رمادى كث، رأس كبير بشعر رمادى مصفف بعناية. بعد أن أرغى وأزبد قال فجأة: أنت من الخونة! طار قلبى والتصق بسقف الغرفة السوداء فيما انعقد لسانى واضطرم صدرى وتلاحقت أنفاسى والتزمت الصمت خيانة تأبط ظله وتعاهدا على المضى قدما كتفا بكتف وساقا بساق وحلما بحلم، باغته ظله وسار منتشيا للأمام بينما توقف هو يعيد تفكيك وتركيب ماحدث ويتأمل الخيانة طويلا،،، اتفاق اصطدم جنونه بجنون الواقع،، جلسا معا يتباحثان على مقهى ليس أقل جنونا، توافقا واتفقا على السعى لفض الاشتباك ومحاولة عقلنة كل منهما الآخر! انشطار انشطرت ذاكرته، وقف معابثا ذلك الولد الشقى يدفعه بإلحاح لاصطحابه، بينما وقف الولد الشقى حائرا بين طفل يلهو بعصافير ملونة وكهل يلهو بسيوف خشبية! صياد على ضوء أنوار الشاطىء الكابية رأيته يمشى على صفحة البحر السوداء الذى تراجعت مياهه للخلف كثيرا أول المساء, يسير بشباكه جيئة وذهابا،،، المدهش أننى لم أندهش، فقد اعتدت رؤية القطط تلهو على قاع البحر المتراجع للخلف كل مساء،، ابتعد كثيرا عن الشاطىء بشباكه قفزا على قاع البحر حتى غاب عن نظرى فى ظلام البحر البعيد،،،ولم أندهش!! نداء البحر نادانى البحر فلبيت النداء ،، ياسيدى البحر الكبير، تركت الكون خلفى وجئتك، شربت ماءك كأسا تلو كأس ولم أرتو، زدنى ياسيدى فالحقراء من خلفى يريدوننى أن أزدرد مياه المحيط حتى آخر قطرة!،،،،،