جمال عبد الناصر الثورة هدم لنظام قديم أكثر منها بناء لنظام جديد في انتظار نماذج ثورية أخري بعد تونس ومصر وليبيا واليمن أخطر تحديات اللحظة الراهنة:برودة الحرارة الثورية وتوقف المد الثوري عندما يصدر الرأي من ذوي الاختصاص فإن الموقف يستدعي التأمل، وحين تنبعث الرؤية من أهل الذكر الفكري، فيصبح للقول قيمة مضافة، والمفكر الكبير د.حسن حنفي أحد كبار مفكرينا من حمل مشاكل التنوير والاستنارة، وقد طرح أحدث رؤية له مستلهمة الواقع والمشهد سياسياً وثقافياً واجتماعياً في أطروحته »الثورة العربية« التي احتواها مؤتمر حقوق وحريات الفكر والابداع.. تحديات الثورة والمستقبل الذي أقامته مؤخرا اللجنة الوطنية للدفاع عن حقوق وحريات الفكر والابداع بالتنسيق مع المجلس الأعلي للثقافة، وقد حالت الظروف دون القاء الدكتور حسن حنفي لبحثه وها نحن ننشره كوثيقة تحمل رؤية مفكراً فلسفيا كبيراً مشحونة بالإنارة والاستنارة 1- الإبداع الثوري. لقد اتهمت المجتمعات العربية بأنها مجتمعات تقليدية، سلفية تقدس الماضي، تغفل الحاضر، وتنسي المستقبل. في حين أن المجتمعات الغربية مجتمعات تجديدية، تسعي نحو الحداثة بل وما بعد الحداثة. تقطع مع الماضي، وتُوغلِ في الحاضر، وتسعي نحو المستقبل. وقد أثبتت الثورة المصرية، بعد الثورة التونسية في أقل من شهر، أن الوعي العربي قادر علي الإبداع الثوري الفردي والجماعي، النخبوي والشعبي، وتجاوز النماذج الثورية المعروفة، الفرنسية والبلشفية والأمريكية والصينية والتركية والأوروبية الشرقية. فلكل ثورة نموذجها الخاص، وإبداعها الأخص طبقا لظروفها التاريخية وخصائص شعبها. بل إنها نجحت في تجاوز نموذجها الذي اتبعته هي نفسها منذ أكثر من نصف قرن الثورة عن طريق الجيوش بقيادة الضباط الأحرار. فالثورة كالفن والفكر والعلم إبداع، وأهم ما يميز الإبداع: الحدس المفاجئ، وعدم التوقع، والقفزة، والجدة والابتكار. قام بها الشباب الذي لم ير في حياته ثورة علي مدي ثلاثين عاما، بل انتفاضات وهبات شعبية وقتية مثل الهبة ضد العدوان الأمريكي علي العراق، والعدوان الإسرائيلي علي غزة، ضد العدوان الخارجي وليس ضد القهر الداخلي إلا حركة السادس من إبريل لعمال المحلة الكبري ضد الفقر، واحتجاجات هنا وهناك من حركة كفاية أو حركة 9 مارس ضد القهر ومن أجل الحريات العامة. ويضم الشباب، الشاب والشابة، الطفل والشيخ الذين يمثلون جماهير الشعب وليس فقط النخبة السياسية للأحزاب علي اختلاف مشاربها واتجاهاتها، الشرعية والمحظورة. وكانت قيادتها جماعية. ولم تكن أمناء الثورة إلا بعد انتصارها من أجل التفاوض علي تحقيق مطالبها بعد تحقيق المطلب الأول وهو إسقاط رأس النظام. مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي ضمن الثورة، وتعهد بتحقيق مطالبها المشروعة، وأقنع الرئيس المخلوع بالتخلي عن الحكم حفاظا علي أمن البلاد. وقد جرت العادة علي انشقاق الأحزاب بسبب الزعامات الفردية، والصراعات الشخصية، وتسمية أجنحة الحزب بأسماء زعمائها. فالثورة ثورة الشباب، ثورة المحتجين، ثورة المتظاهرين، ثورة ميدان التحرير، ثورة الثوار، إنكارا للذات وتخلي عن الفردية إلي الجماعية بإصرار ممن فجروها علي شبكات الاتصال أولا، وعادة الإعلام في التركيز علي أحدهم بعد أن أطلق سراحه حتي يتحول إلي نجم إعلامي. وتزيد مقدمته شهرة إعلامية بأنها أول من قدمته وحاورته. وكانت الأهداف واضحة منذ البداية حتي النهاية "الشعب يريد إسقاط النظام". فالرئيس ليس فقط بشخصه بل بنموذجه ونظامه ودولته التي أسسها، دولة المال والأمن. ففي كل مؤسسة هناك رئيس مثل رئيس الدولة. يمثل القهر والظلم والفساد سواء كانت مؤسسة اقتصادية أو تعليمية أو مالية أو أمنية تشريعية أو تنفيذية. والتف حول هذا الشعار كل التيارات السياسية والفكرية في البلاد، إسلامية أو علمانية. قومية أو ناصرية أو ليبرالية أو ماركسية. وصلي المسلمون والأقباط في نفس الميدان. وحرس المسلمون الكنائس. وحرس الأقباط المساجد حتي لا يسمحوا للنظام بالقيام بلعبة الطائفية. ويجهض الثورة، ويبرر لنفسه البقاء باسم الأمن والاستقرار. تحرير المواطن كان برنامج الثورة تلقائيا، تحرير المواطن من القهر، وتعذيب أقسام الشرطة وقانون الطوارئ والأحكام العرفية والمحاكم العسكرية وقراراتها التي لا تتحمل النقض أو الإبرام، وكفاية المواطن حاجاته الأساسية من خبز وسكن ودواء وتعليم أي تحريره من الفقر والذل والهوان. وهو يري بناء القصور والمنتجعات السياحية والمدن الجديدة بالمطارات الخاصة وحمامات السباحة. تجاوزت الأيديولوجيات الليبرالية والاشتراكية، القومية والماركسية. فالواقع أبلغ من كل أيديولوجية استطاعت الثورة تحريك الملايين في مصر، من أقصاها إلي أقصاها من الساحل الشمالي إلي العريش، ومن الإسكندرية إلي أسوان، ومن الوادي إلي الواحات، وبؤرتها ميدان التحرير. وهو ما لم يحدث منذ 17-18 يناير ،1977 الهبة الشعبية ضد غلاء الأسعار عندما استعد الرئيس للرحيل إلي طهران حيث يقيم صديقه الشاه. وجسداهما مواران في مصر، في مسجد الرفاعي مع ملوك مصر، وفي طريق النصر حيث تم الاغتيال. ولم تستطع أجهزة الأمن بكل خططها الوقوف أمامها بالعصي والخوذات، ثم بالرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع ثم بالرصاص الحي وغزوة الإبل والخيل ثم بالانسحاب من الميدان وتكليف "البلطجية" وخريجي السجون وفلول الحزب الحاكم بالتصدي للثوار حتي يبدو النظام غير مستقر، وعمليات النهب والسلب ذريعة لتدخل الشرطة والأمن ورجال الجيش. وطالت المدة، وصمد الثوار في المواجهات الهامشية، يوما وراء يوم، أسبوعا وراء أسبوع حتي سقط رأس النظام بعد أسبوعين. وقد كانت الهبات تعرف في مصر بأنها لا تزيد عن يوم وليلة لغياب عصب ثوري للجسد الثوري. ويتجلي الإبداع الثوري في الطريق السلمي للثورة. فلم تصطدم برجال الشرطة وأجهزة الأمن بل هي التي اصطدمت بالجماهير الثائرة بالعنف بشتي أنواعه. في حين مارست الثورات السابقة الفرنسية العنف بالمقصلة،والبلشفية بالرصاص، والأمريكية بالحرب. فالحق هدف، والسلم وسيلة. تكفي الملايين الهادرة وقدرتها علي تجميع ملايين أخري في شتي المدن المصرية. تحتل الميدان الرئيسي وسط القاهرة. ثم تحاصر مجلسي الشعب والشوري ومجلس الوزراء ووزارة الداخلية ومبني الإذاعة والتليفزيون، واتجاهها في اليوم الأخير إلي قصر العروبة ومنزل الرئيس. وتعاونت الثورة مع الجيش بعد أن نزل في الشوارع لاستتباب الأمن. وقابلته بالأحضان والقبلات كما فعلت الثورة في تونس. وهربت الشرطة قصدا أو عجزا. فالشعب مع الجيش، والجيش مع الشعب. الجيش ابن الشعب، والشعب أبو الجيش. الثورة المغدورة وتجلي الإبداع الثوري أيضا في أسماء الأيام والأسابيع للثورة: جمعة الغضب، جمعة الرحيل، أسبوع التحدي، أسبوع الصمود. وتدل كلها علي العزيمة والإصرار، ورفض الحلول المؤقتة والتي تهدف إلي الالتفاف نحو الثورة حتي تحاصرها وتقضي عليها، انتقاما منها. فقد تحول الزمن إلي ثورة، وعقارب الساعة إلي مراحلها. نفسها طويل. ومازالت مستمرة حتي لا يُغدر بها وتصبح "الثورة المغدورة" كما هو معروف في أدبيات الثورات. تنتج مقومات استمرارها من ذاتها بالاعتصام والتعاون وضرورات الحاجات اليومية تطوعا وتبرعا بالطعام والدواء بالماء والعلاج في مستشفيات ميدانية بأجهزة طبية حديثة لعلاج المصابين وإنقاذ الشهداء. شعاراتها تجذب الانتباه "الشعب يريد إسقاط النظام". وتثير الخيال بدلا من الشعب يطيع النظام ويستكين ويخنع له. والأشعار الشعبية تطلقها أفواه الشعراء الشعبيين. المسرحيات الوقتية عن الظلم والقهر والفقر يمثلها سكان العشوائيات. والأغاني التلقائية تطلقها الحناجر في مجتمع عرف الأناشيد الصوفية والموالد الدينية. فالفن من الشعب وله. واليافطات المرفوعة عليها شعارات خلاقة "ارحل يعني أمشي، هو أنت مابتفهمشي". والرسوم وراء الكلمات والأقنعة والأردية والدمي كلها تمثل كارنفالا للثورة بدلا من الإعلام الرسمي الحكومي الذي مازال يُسبح بحمد النظام المتساقط. وتتجلي روح الشعب الخلاقة في النكات الشعبية، وروح الفكاهة التي لا تفارق المصريين في أحلك اللحظات. ووراء ذلك كله تصدح الأغاني الوطنية من سيد درويش تستعيد ثورة ،1919 ومن الأغاني الوطنية في الستينيات لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ عن الشعب والوطن التي كانت تغني لثورة 1952. وكذلك أغاني أحمد فؤاد نجم "يا مصر قومي وشدي الحيل". وترفع صور عبد الناصر تطل علي الملايين، فروح مصر الوطن تُبعث من جديد في جسد مصر الذي أوشك علي التحلل. هذا هو الإبداع الثوري الذي سيظل ساريا في روح مصر حتي تعود مصر إلي عزتها وكرامتها ومركزيتها في المنطقة بعد أن بدأت إسرائيل تلعب دورها، وتخشي يقظتها من السلام الذي فُرض عليها، وسيناء منزوعة السيادة، وفلسطين ولبنان تحت الاحتلال. 2- تحديات الثورة. إذا كان الإبداع الثوري هو الثورة إيجابا فإن التحديات الثورية هي الثورة سلبا. وتعني مخاطر أو عقبات أو موانع أو محاذير الثورة. إذا كان الإبداع الثوري هو مصدر الثقة بالنفس والفرح، فإن تحديات الثورة هي مصدر الحزن والتخوف. وإذا كان الإبداع الثوري قفزة إلي الأمام ،فإن تحديات الثورة خطوة إلي الوراء لإعادة النظر في سرعة القفزة والعوائق التي قد تقف أمامها. تهدئ من سرعتها أو توقفها وربما تحيلها إلي قفزة مضادة إلي الوراء. فقد نشأت من خلال كل الثورات ثورات مضادة. فالثورة حركة ومسار. تحتوي علي تناقضها الداخلي، الشد والجذب، الفعل ورد الفعل. وهناك عدة تحديات للثورة أهمها: 1- التناقض بين الثورة والجيش. وتحول الجيش من حامي الثورة إلي نقيضها. صحيح أن الجيش من الشعب ولكن قد يكون ولاؤه مازال للنظام السابق. فالرئيس السابق رئيس المجلس الأعلي للقوات المسلحة. وولاء الضباط بعضهم لبعض جزء من سلوك الجيش، الرئيس السابق، والنائب السابق لرئيس الجمهورية، ووزير الدفاع، ورئيس الوزراء، خاصة لو كانوا أبناء دفعة واحدة أو تربطهم صداقات خاصة. فهم رفقة سلاح، في الحرب والسلم، باللباس العسكري واللباس المدني. هم زملاء وأصدقاء. يتزاورون ويمارسون الرياضة. ومن ثم تفقد الثورة ميزة لها وهي الثورة السلمية، بأقل قدر ممكن من الخسائر مقارنة بتاريخ الثورات. وهو ما بدت تباشيره يوم الجمعة الماضي مساء عندما انطفأ ميدان التحرير، وخرج ملثمون مع الشرطة العسكرية لضرب الثوار بالهراوات الكهربائية والعصي لإخراجهم من الميدان وتعقبهم حتي الميادين المجاورة. والصراخ يعلو. وهل يكفي اعتذار الجيش للثوار بعد ذلك من عدم التكرار، وانقلاب الجيش علي الثورة؟ 2- الالتفاف حول الثورة من الجيش وامتصاص غضبها بمسكنات وقتية وتحقيق جزئي لبعض المطالب الثورية مثل إيقاف العمل بالدستور، وتعديله جزئيا في بعض بنوده، وحل مجلسي الشعب والشوري، والقبض علي بعض رؤوس الفساد، والإفراج عن بعض المعتقلين، وتغيير بعض الوزراء. والمسار مازال طويلا، حل الحزب الحاكم، إلغاء قانون الطوارئ، الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين، تكوين حكومة ائتلافية ليس بها أحد من الحكومة السابقة، وضع لجنة لكتابة دستور جديد، تكوين مجلس رئاسي حتي يتم انتخاب الرئيس القادم، محاكمة شاملة لرؤوس الفساد بما في ذلك الرئيس السابق وعائلته، تغيير القائمين علي المؤسسات الصحفية. وحجة الجيش: رويداً رويداً، الإصلاح البطيء خير من الثورة الهوجاء ، وماذا يضير الصبر ستة أشهر بعد الصبر أكثر من ثلاثين عاما؟ الشباب متهور ليس له تجارب سياسية سابقة، ولا يعرفون كيفية تسيير أمور البلاد. في حين أن الضباط أكبر سنا وأكثر خبرة في إدارة الشئون العامة. 3- شهوة الحكم عند العسكر معروفة في تاريخ الثورات منذ نابليون. وهو ما تثبته أيضا ثورة يوليو 1952 عندما اختلف الضباط الأحرار بعد طرد الملك، والتحول من الملكية إلي الجمهورية، وحل الأحزاب، وتحقيق أهم مطالب الثورة، هل يبقي الجيش في الحكم أم يعود إلي الثكنات ويسلم الحكم إلي المدنيين؟ وانتصر فريق بقاء الجيش في الحكم حتي تتحقق مبادئ الثورة الست. وبقي الجيش في السلطة علي مدي ستين عاما وخلال ثلاث رؤساء من الجيش. فالجيش هو مفجر ثورة يوليو، وهو الضامن لثورة يناير 2011. والسلطة لها إغراءاتها: الزعامة، والعظمة، والصدارة، والقيادة أولا ثم المال والنهب والفساد والثروة ثانيا. فأين ذلك من مطالب الثورة، الحكم المدني؟ 4- سقوط رأس النظام دون جسده. فمازال النظام السابق قائما في مؤسسات الدولة، الحزب الحاكم، الإعلام، المجالس المحلية، المحافظون، مباحث أمن الدولة، أجهزة وزارة الداخلية، أصحاب الشركات الكبري. وهم ليسوا مجرد فلول النظام السابق. بل لديهم في بعض المواقع السلطة الفعلية. ويصعب علي من بيده السلطة أن يتركها طوعا. وهم الذين بدءوا منذ أيام الثورة الأولي بالاعتداء عليها إما بالطريق التقليدي، العصي أو بطرق عير تقليدية منذ الانسحاب من الميدان وترك المجال للمخربين، وخريجي السجون للتدمير والنهب لتشويه الثورة أو للملثمين، أفراد الشرطة بملابس مدنية للعدوان علي الثوار كما حدث ليلة واقعة الجمل والخيول. ومن هذه الفلول يُعيد النظام السابق تنظيم صفوفه للقيام بثورة مضادة باسم الأمن والنظام. 5- وقوع تناقض بين الثوار أنفسهم. فهم فصائل متعددة. تجمعوا من خلال وسائل الاتصال الحديثة دون معرفة سابقة أو تجربة سياسية مشتركة. وحدتهم الثورة. واتفقوا علي مطالبها. وانضمت إليهم أحزاب المعارضة القديمة التي كانت تنظيمات هيكلية بلا جماهير شعبية. وجدت في الثورة ضالتها. والثوار لا تنظيم جامع لهم. يتحدث باسمهم، ويعرض مطالبهم. وأحزاب المعارضة مازالت تبحث عن السلطة وتقوم بالحوار مع الجيش لتحديد حصتها من السلطة. فهي أقرب إلي السلطة منها إلي الثورة وإن كان علي مسافات مختلفة. فإذا كانت الثورة طريقا إلي السلطة في البداية فإن السلطة قد تكون طريقا إلي الثورة في النهاية "إن الله يزغ بالسلطان ما لا يزغ بالقرآن". وقد ينشأ صراع بين المنهجين المعروفين في كل ثورة. إصلاح أم ثورة؟ ثورة جزئية أم شاملة؟ ثورة تدريجية أم فورية؟ ثورة حتي النصر أم ثورة انتصرت؟ 6- بالرغم من وضوح مطالب الثورة المبدئية العشرة الأولي وتدوينها وإرسالها إلي المجلس الأعلي للقوات المسلحة باعتباره الأمين علي الثورة إلا أن الثوار قد يختلفون علي المدي الزمني لتحقيقها، علي الفور أم علي التراخي بتعبير الفقهاء في أداء الواجبات الشرعية، كما قد يختلف الثوار علي الأولويات في تحقيقها، إقالة الوزارة بوجوهها القديمة والتي حلف رئيسها الولاء أمام الرئيس السابق أم إلغاء الأحكام العرفية والإفراج عن المعتقلين السياسيين؟ هل تشكيل لجنة لكتابة دستور جديد يعطي الشعب حقه في الحرية السياسية وتشكيل الأحزاب واختيار الرئيس أم الاكتفاء الآن بتعديل بعض المواد المقيدة للحريات والتي تجعل مدة الرئاسة بلا حدود، وتعطي الرئيس سلطات مطلقة وتجعل الترشيح للرئاسة شبه مستحيل لصعوبة تحقيق شروطها المفصلة علي الرئيس السابق وابنه؟ وقد يختلف الثوار علي تشكيل الحزب أو الأحزاب الجديدة، اسمها، برامجها، أهدافها فتتفتت الثورة الموحدة في الأهداف. برودة الحرارة الثورية بفعل الوقت، وتوقف المد الثوري بفعل الزمن. فالثورة حياة، تولد وتنمو وتخبو. وتلك طبيعة الطاقة تتولد في مكان وتتسرب ثم تتولد في مكان آخر. قد يحدث ملل من التجمع في ميدان التحرير. فيفقد الدافع علي الذهاب إليه وشد الناس. وقد يتعود الناس عليه فيصبح جزءا من حياتهم اليومية لا استثناء فيه. قد يغرق الناس في مشاغلهم اليومية ويتكيفون معها. يفوقون من الحلم، ويعودون إلي الواقع. وينتقلون من الخيال إلي العالم المرئي. وتتحول الثورة لديهم إلي حلم وخيال في البداية والنهاية. ولا يبقي منها إلا شعرها وفنها وأدبها، ذكريات تستدعي إذا ما تأزم الواقع من جديد، ويبحث عن حاضره في ماضيه. 8- الثورة هدم لنظام قديم أكثر منها بناء لنظام جديد. والهدم سهل، والبناء صعب. قد تؤدي الثورة إلي فراغ إداري نظرا لغياب المؤسسات. ويتعطل الإنتاج. ويفرح العمال بالاستيلاء علي المصانع، والفلاحون باسترداد الأراضي، والطلبة بالسيطرة علي مجالس الكليات والجامعات كما هو الحال في الأغنية الشهيرة لإمام ونجم "عمال وفلاحين وطلبة". فقد دقت الساعة. وهل حصيلة الثورة هو الفراغ الثوري؟ وتكون فرصة للثورة المضادة للانقضاض علي الثورة التي لم تتحول إلي كيان ثوري. وهو إشكال في كل ثورة، التحول من الثورة إلي الدولة. فكيف تواجه الثورة هذه التحديات؟ الوحدة الثورية. طالما تشكك القُطريون في الوحدة العربية، ورفعوا شعارات "مصر أولا"، "الأردن أولا"، "الكويت أولا" وكأن الوحدة العربية ضد المصلحة القُطرية، والمصلحة القُطرية ضد المصلحة العربية. ونسي هؤلاء أن الوطن العربي في المشرق قد استعمر بعد أن خسرت تركيا الحرب العالمية الأولي وعقدت اتفاقية سايكس- بيكو علي تقسيمه. في حين أن المغرب العربي كان قد احتل منذ القرن التاسع عشر، الجزائر في 1830 ثم تونس والمغرب وموريتانيا، ومصر في 1882 والسودان معها كما أنه تحرر معا منذ ثورة مصر 1952 ثم العراق 1958 ثم اليمن 1964 ثم الجزائر 1965 بثورات الضباط الأحرار. وبعد انحسار المد القومي الثوري بعد وفاة عبد الناصر منذ 1970 وحتي الآن علي مدي أربعين عاما، وانقلاب حركة التحرر العربي إلي نقيضها بالنسبة للاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية قامت الشعوب العربية الآن بتعديل مسارها التحرري الأول لتصححه بداية من تونس، الشرارة، ثم مصر البركان، ثم ليبيا الزلزال. وتردد صداها في المغرب العربي أولا في الجزائر والمغرب وموريتانيا ثم في المشرق العربي في اليمن والأردن والعراق والبحرين، وفي منطقة الخليج، عُمان والكويت بل وفي الجزيرة العربية بأشكال شتي. الوحدة العربية حقيقة موضوعية من المحيط إلي الخليج بصرف النظر عن كيفية تحقيقها وعن أشكالها. كانت جزءا من وحدة أعم، الوحدة الإسلامية حتي العهد العثماني. ثم انفصلت بعد الحرب العالمية الأولي. ووقع العرب في أتون الاستعمار الغربي المنتصر بالرغم من وعد القوي الغربية المنتصرة بالوحدة والاستقلال. ما يحدث في قُطر يؤثر في القُطر الآخر سواء في حركة الجزر إبان الحقبة الاستعمارية أو في حركة المد إبان حركات التحرر الوطني في الستينيات أو في حركة الجزر الثاني منذ السبعينيات حتي الآن عندما انقلبت الثورة المصرية علي نفسها من داخلها، من الاشتراكية إلي الرأسمالية، ومن القطاع العام إلي القطاع الخاص، ومن التحالف مع الشرق إلي التحالف مع الغرب، ومن القومية العربية إلي القطرية، ومن الانتماء إلي العالم الثالث، أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، إلي التحالف مع أمريكا وإسرائيل، ومن التحالف مع إيران مصدق إلي معاداة إيران الثورة. وأثرت عزلة مصر في محيطها العربي. فاندلعت الحرب الأهلية في لبنان. وتفتت الصومال. وانقسمت السودان إلي شمال وجنوب. وتم العدوان علي العراق واحتلاله مع مخاطر تقسيمه إلي دول ثلاث، كردية وسنية وشيعية. ونشبت حرب أهلية في اليمن بين زيديين وحوثيين، شماليين وجنوبيين. واشتدت المشكلة الطائفية في مصر ذاتها حقيقة أو افتعالا، واقعا أم من تدبير السلطة لتبرير قانون الطوارئ وسيطرة الأمن، وضرورة مطاردة كل معارضة باسم الإرهاب. لم تستطع الثورة أن تتحول إلي دولة، وانقلبت من التحرر إلي القمع، ومن الدفاع عن أمن الوطن إلي المحافظة علي أمن النظام. واختفي الشعب المقاتل والمقاوم للاستعمار لصالح الزعيم والقائد والرئيس. يبقي إلي الأبد دون تداول للسلطة. وتنضم إليه عائلته وأصهاره وأصدقاؤه وأصحابه. وشلته تساعد في الحكم وتسيير الأعمال وقمع المعارضين. فالمال والسلطة والأمن شيء واحد. لأن المطلب واحد وتتمثل الوحدة الثورية العربية هذه المرة في وحدة شعاراتها "الشعب يريد إسقاط النظام". سري الشعار سريان النار في الهشيم في كل الثورات القطرية مع تعديلات للتكيف مع كل قطر. المطلب واحد، تغيير النظام المتمثل في رأسه بعد أن أصبحت المؤسسات الدستورية شكلية مزورة. وظيفتها التبرير وليس النقد أو التشريع. تجمع علي مطالب واحدة في الحرية والكرامة والعزة والمواطنة وحقوق الإنسان أولا ثم في العدالة الاجتماعية وحق العمل ضد البطالة، وحق السكن ضد الإيواء في النجوع والعشوائيات، والحق في الحصول علي نصيب عادل من الدخل القومي ضد الثراء الفاحش لطبقة الحكام والكسب غير المشروع بكل طرق الفساد والتهريب. توحد العرب في حقبة ما قبل الاستعمار. وتوحدوا في حركات التحرر الوطني. والآن يتوحدون في حركات التحرر الشعبي. وتتوحد فيها كل الطوائف والأعمار والتيارات السياسية والقوي الاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والجماهير التلقائية التي اكتوت بالفقر والبطالة والتشرد والإهمال والتهميش والاحتيال بالوعود الفارغة التي لم تتحقق. والكرامة في الداخل لا تنفصل عن الكرامة في الخارج. فطالما قيل :إن العرب ظاهرة صوتية. لا يحسنون إلا الأقوال والخطابة دون الأفعال والتغيير. وطالما شعر العربي أنه لا يستطيع أن يرفع رأسه بعد أن كان شعاره "ارفع رأسك يا أخي". فقد قبل العدوان علي حرياته في الداخل، واحتلال أراضيه في الخارج. لذلك فشلت المفاوضات بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني، بين يد دنيا ويد عليا، بين نظام لا يمثل شعبا، وُجد منقسما علي نفسه، ونظام ديموقراطي يقوم علي التعددية الحزبية وتداول السلطة. وتنتشر صورة "العربي القبيح" في العواصم الأوروبية في حياة البذخ والترف ومباهج الحياة والشعوب العربية في مجموعها دون خط الفقر. وقد سمح ذلك للقوي الغربية بتقديم مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي يقوم علي الحرية والديموقراطية والتعددية السياسية مفروضة من الخارج بعد أن عجز العرب عن تحقيقها من الداخل. تونس- مصر- اليمن- ليبيا ومع وحدة الشعارات التي تعبر عن وحدة المطالب التي تعبر بدورها عن وحدة التجارب تتعدد النماذج الثورية. فالشعوب العربية متعددة الخصائص والطباع بالرغم مما يجمعها من قواسم مشتركة، اللغة والثقافة والتاريخ والأهداف. ظهر حتي الآن نموذج تونس- مصر، الثورة السلمية في غالبها مع مئات من الشهداء من فعل شرطة النظام السابق. فهي سلمية مقارنة بتاريخ الثورات منذ الثورة الفرنسية حتي الثورة الليبية. وهي ثورة الشارع بالآلاف في تونس، وهي ملايين بالنسبة إلي عدد سكانها، وملايين بالنسبة إلي مصر، شباب ورجال وأطفال وشيوخ ونساء، ثورة الجماهير التي طالما تحدث عنها الفلاسفة. ساندها الجيش الذي رفض إطلاق النار علي الشعب، فالجيش جيش الشعب. ليست مهمته مهمة الشرطة، الأمن الداخلي بل الأمن الخارجي. تتأرجح بين الإصلاح التدريجي، فمن صبر عشرات السنين فلا ضير عليه أن يصبر عدة أشهر حتي لا تقع الدولة في فراغ بانهيار النظام السابق قبل بناء النظام الجديد أو الثورة الفورية، فمن صبر عشرات السنين لم يعد قادرا علي الصبر أكثر من ذلك. ولم ينته النظام القديم. فمن بيده السلطة والمال لن يتركهما بسهولة بفعل ثورات الجماهير العاطفية الانفعالية الهوجاء. ومازالت فلوله تعيد تشكيل قواها من رجال الشرطة السابقين ومديري الشركات وأعضاء الحزب الحاكم والمرتزقة باسم البلطجية وخريجي السجون. وهناك أيضا النموذج اليمني الذي يريد إسقاط النظام سلميا بالرغم من الخوف من الحراك الجنوبي وركوبه موجة الاحتجاجات الاجتماعية العامة في كل ربوع اليمن من أجل إعادة الانفصال. وهو نموذج العراق والجزائر وموريتانيا. ويدخل في هذا النموذج المطالبة بالملكية الدستورية. الملكية حق الأسرة الحاكمة. والدستور حق الشعب في البحرين والأردن والمغرب وعُمان وشبه الجزيرة العربية من خلال نشاط العلماء الإصلاحيين الذين تعترف الدولة بحقهم في التعبير عن الرأي. وتحاول تنفيذ مطالبهم. وهناك النموذج الليبي الذي يقاوم الثورة بالعنف، القصف الجوي، والدك بالمدافع الثقيلة، والزحف بالدبابات والمدرعات والمصفحات مع الاستعانة برشوة القبائل والمرتزقة من الدول المجاورة. هو نموذج الحرب الأهلية عندما ينقسم الجيش علي نفسه. قسم مع الثورة وآخر مع النظام. هو النموذج الذي يجعل للحكم الأولوية علي حياة المواطنين. إما الحكم وإما القتل. إما الحاكم وإما الدم. هو النموذج الذي يعطي الذريعة للتدخلات الخارجية من خلال مجلس الأمن أو محكمة الجنايات الدولية أو القوي الكبري بالتدخل العسكري المباشر باسم المحافظة علي الأرواح. ولا يدري النظام المتهاوي أنه ساقط ساقط. إنما القضية هي المدة الزمنية والكلفة البشرية. وقد تأتي نماذج أخري كلما اندلعت الثورة من قطر إلي قطر، وكلما اكتسب الثوار من خبرات ثورية، وكلما أظهروا إبداعاتهم الثورية. فالثورة حركة ومسار ليس لها نموذج أيديولوجي سابق. بل تفرض نموذجها كلما كانت تفاعلا مع الواقع والتاريخ.