علي المريخى لحكاية الفنان علي المريخي عن مدرس الرسم مذاق خاص إذ إن حكايته لها دهشة الابتعاد عن المدينة، تلك الحكايات التي دونها بمذاقها الأول محتفظا بطزاجة الحكي إذ يقول: لا أستطيع أن أجزم بالتحديد متي تسرب إليّ ذلك الشغف الكبير بالرسم. لكنني متأكد أنه كان في مرحلة مبكرة علي المدرسة حيث كان (أبي الشيخ عبد الله المريخي) مدخنا قبل ذهابي إلي المدرسة الابتدائية وكانت مراقبتي له في ذلك الوقت تبدأ عند آخر سيجارة من علبة سجائر ال Box فيقوم بفرد العلبة والرسم علي ظهرها المقوي فألتقطها بعد ذلك مستمتعا بتتبع انسيابية خطوطه البسيطة المعبرة برسوم الحيوانات أو أشخاص أو غيرها من مفردات محيطة بنا. في نفس الوقت كان أخي (عبد الكريم) قد أصبح خطاطا محترفا نراقب كيف يتمرن فيرسم الحروف الجميلة بكل أنواع الخطوط وأظل مستغربا لماذا يحيط هذه الحروف بنقاط ودوائر وخطوط مما كان يجعلني أدركها كرسوم حيث لا معني للحرف دون وجوده في كلمة بالنسبة لي في ذلك الوقت . من هنا تسرب إلي ذلك الحب للخط العربي وأجدته وحظيت بجائزة امتياز عيد العلم من محافظة أسوان في المرحلة الثانوية عن إجادتي لمختلف الخطوط ثم انقطعت صلتي تماما بالخط العربي ولم أستخدمه إلا بعد ذلك بسنوات حيث كنت مضطرا لعمل اللوحات الدعائية بالجامعة ونشاط الأسر حيث كنت أقوم بالإخراج الفني للمجلات الماستر الجامعية لكنني لم أستخدمه في لوحاتي التشكيلية إلي الآن. أعود إلي المرحلة المبكرة والتحاقي بالمدرسة الابتدائية بقريتي في 1970 وتعلقي بمادة الرسم بفضل الأستاذ سعيد الذي كان معتدا بنفسه برغم سماره الداكن وقلة وسامته إلا إنه كان مرسوما تماما بطوله الفارع وشياكة ملبسه وثقته بنفسه واعتداده بالرسم واهتمامه بمتابعة كل منا بنفسه وقدرته علي التقاط الرسوم المميزة، وكان قد لوح بكراستي أمام زملائي في الصف الثالث الابتدائي مؤكدا تميزي حتي أنهم استسلموا لذلك وأصبحوا يتبادلونها بينهم لمعرفة كيف حدث ذلك . عندما غادرنا الأستاذ سعيد لم يعد بالمدرسة مدرس متخصص في مادة الرسم غير أن القدر جاء لنا بالأستاذ جمال كامل الذي كان له من اسمه حظ كبير شكلا وموضوعا فهو متميز في الرياضيات والرسم والموسيقي وبارع في المراوغة في كرة القدم. بالطبع كان هذا المعلم كنزا بالنسبة لي لا أمل من متابعته وترقبه وهو يلعب الكرة ويعزف الاكسليفون والأكورديون والطبلة غير أن تركيزي الأكبر كان من التلصص عليه وهو يرسم خصوصا أن مسجد قريتنا قد تم تحديد حوائطه الخارجية لتصبح (مصيصا) بدلا من القشرة الطينية - وكان المصيص (الجبس) أبيض ناصعا وذا ملمس رقيق مغر للرسم عليه فكانت رسوم مدرسي هذا تملأ الحوائط الخلفية فأظل ساعات محاولا نقلها ومدققا بتفاصيلها مقلدا لها علي نفس الحوائط وفي الخفاء حتي لا يراني عم (حلبي) حارس المسجد فتكون كارثة.. الغريب أن ذلك أهلني فيما بعد للعمل مع عم (جابر) النقاش كرسام للحوائط في موسم الحج والأفراح في إجازات المرحلة الثانوية. كان كنزي الثمين إذن في المرحلة الابتدائية وما قبلها إذ إن انتقالي إلي المدرسة الإعدادية كان سلبيا إلي حد كبير لعدم استقرارنا في مدرسة واحدة وحيث إن مدرس الرسم (الذي كان أول خريج من الفنون الجميلة في ذلك الوقت بالمدينة) غير قادر علي التمييز بين رسوم التلاميذ ورسوم أولياء الأمور فكان لزميلي الذي يجلس بجواري النصيب الأكبر من التشجيع رغم وضوح أن الرسوم كانت لشخص كبير ولم تكن له. هذه السلبية من مدرس الرسم جعلتني أركز كل اهتمامي متوجها صوب مدرس اللغة العربية الأستاذ محمود عبيد ابن قريتي والذي كان يتمتع بخط رائع حتي إنني قبيل حصة الخط العربي كنت أقوم متطوعا بمسح السبورة بعناية كبيرة وأقوم أيضا بنفسي بمحو الخطوط بعد انتهائه خوفا من مسحها بغلظة وحتي يتبقي في خيالي أثرها بعض الوقت . في الصف الثالث الإعدادي كنت قد انتقلت إلي مدرسة جديدة كانت مختلطة وكانت بها غرفة مخصصة للرسم حيث كان الأستاذ ( لمعي نصيف) كشكولا فنيا متنوعا يعلمنا كيف نستغل كل خامة نقابلها من جذوع الأشجار حتي بقايا الأقمشة وغيرها من الخامات. في المرحلة الثانوية بدأت أتعرف مباشرة علي المرسم.. هذه الجنة التي كانت تحتوي كل ما نحتاجه من حوامل للرسم إلي ألوان زيتية وأوراق وطمي أسواني والأهم مدرس يترك لنا الحرية في التعامل مع المرسم وكأنه حجرتنا الخاصة مما زاد من عشقنا للمكان وكان احتكاكي الأول بمن يعشقون الرسم من زملاء المدرسة فبينما كان ملعب المدرسة ملجأ لمعظم الطلبة في حصص التربية الفنية والألعاب، كان المرسم هو الملجأ لعشاق الرسم الحقيقيين القلائل حيث تعرفت علي صديقي الفنان (محمد الجنوبي) قبل أن نلتقي بعد ذلك بسنوات في معرض مشترك كان أول معرض يقام في الشارع بكورنيش النيل بأسوان بعنوان "أشياء قديمة »صالحة لإثارة الدهشة»" في عام 1993.