ربما بعض القراء الكرام كانوا يتوقعون أن سطور هذا الأسبوع سوف تحكي الحكاية التي أشرت إليها في نهاية مقال الأسبوع الماضي، وأنني سوف أجاوب اليوم علي سؤال: لماذا كان الفشل الذريع (والهروب جريا) هو مصير تلك »العملية الثورية» التي حاولت مع حفنة من الفتية الثوريين القيام بها، ذات ليلة باردة من عشرات السنين، في جراج أتوبيسات النقل العام بمنطقة المنيب؟ الحقيقة أنني ادخرت هذه الحكاية لسلسلة حكايات من زماني، ربما أسميها »ثوريو الجيزة القدماء».. أما الحكاية التي ستقرؤها حالا فهي عن العبد لله شخصيا، إذ اكتشفت قبل أيام (للمرة الألف علي الأقل) دليلا جديدا يؤكد حقيقة مرة بقيت سنين طويلة أقاوم الاعتراف بها علنا.. إنها باختصار، قدرتي المتواضعة جدا علي التعامل مع منتجات الحداثة الرقمية، بالذات. وأبدأ الحكاية بالاعتراف الأصلي والأساسي وخلاصته، أنني أمضيت أغلب عمري موهوما بأن المولي تعالي حباني بمواهب عقلية استثنائية تسمح لي باستيعاب أصول العلم واكتساب الخبرات »التقنية» بسرعة، ولا مفر الآن من الإقرار بأن لا دليل ولا أصل لظني هذا سوي أدلة عبيطة وقديمة من نوع ولعي وأنا مازلت في المهد عيلا باللعب في الأجهزة الكهربائية والميكانيكية وتخريبها بذريعة اكتشاف العلاقات بين أجزائها ومكوناتها، غير أنني لم أكمل أبدا في هذا الطريق بل هجرته مبكرا تاركا عليه عشرات الأشياء الخربانة بعدما انتقلت للسير علي طريق، بل طرق أخري. يعني مثلا، لعبت في الموسيقي زمنا، وحكيت علنا ذات مرة كيف أنني كنت ضمن عشرات يرزعون رزعا مزعجا علي مثلثات معدنية في فريق المدرسة الموسيقي، ثم سرعان ما هجرت الموسيقي إلي اللعب في الألوان والطين الصلصال وبقيت هكذا من المرحلة الابتدائية حتي التحقت بكلية الفنون الجميلة التي غادرتها لأسباب تفطس من الضحك قبل أن أكمل السنة الأولي الإعدادية، وإن لم أنس أبدا ما كنت أراه أبرز انجازات هذه المرحلة وأقصد به ورقة رسم امتحان القدرات الذي نجحت فيه وأهلني لدخول كلية الفنون، فقد كان الامتحان مكونا من جزءين أحدهما يتعلق بمهارات الزخرفة وجماليات العلاقة بين الألوان، والثاني اختبار قدرة الطالب علي التقاط صورة معينة تنقل بالرسم إحساس الحركة، وكان الموضوع المطلوب رسمه في هذا الجزء من الامتحان عبارة عن مشهد من داخل صالة معرض تشكيلي. ومازالت ذاكرتي تحتفظ بلذة طعم ذلك الشعور الفائض عن الحد بالرضا عن النفس بعدما انتهيت من رسم هذه اللوحة، إذ استعرضت فيها ما كنت اعتبره ثقافة بصرية وتشكيلية فظيعة ونادرة، وقد تعمدت بذل مجهود كبير جدا في توضيح معالم الصور المعلقة علي جدران المعرض المرسوم ولم تخالجني ذرة شك واحدة وقتها أن تلك الصور ستلفت نظر أساتذة الفنون الجميلة الذين يقيمون قدرات الطلبة وأنهم سيعجبون أيما إعجاب بأن هذا التلميذ الصغير يعرف لوحة ال»جرنيكا» لبيكاسو لأنني حاولت تقليد شيء منها في إحدي اللوحات المشعلقة علي الجدران، وكذلك لوحة محمود سعيد الخالدة »بنات بحري».. إلخ!! كنت مملوءاً ومنتفخاً جداً بمشاعر الفخر لدرجة أني أوهمت نفسي وأنا أرسم لوحة الامتحان أنني أعيش أجواء متتالية الموسيقار الروسي العبقري موديست مسورسكي المسماة »صور في المعرض» التي رسم فيها بالموسيقي تفاصيل لوحات في معرض لواحد من أصدقائه التشكيليين.. مع أنني وقتها لم أكن أعرف جملة لحنية واحدة من هذه المتتالية الرائعة، فقط كنت قرأت عنها من دون أن أسمعها، ثم اكتشفت بعد ذلك بسنوات أن بعض مقاطعها ظل صناع السينما المصريون يستعينون بها كخلفية موسيقية في عدد لا يحصي من أفلامهم. كنت متخما بغرور المراهقين فلم أدرك ولم أفهم أن مسوريسكي حين أبدع موسيقي »لوحات المعرض» رسم لوحات فنان واحد ولم يجمع كما حاولت أنا بين »جرنيكا» بكاسو و»بنات» محمود سعيد، من دون أن أشعر بأي قلق أو تأنيب في الضمير!! و.. أختم بأن إعجابي الشديد باللوحة التي رسمتها في امتحان قدرات الثانوية العامة قادني للذهاب إلي أستاذ من فريق المراقبين في اللجنة وسألته بسذاجة مفرطة: هل يمكنني استعادة لوحتي بعد انتهاء تصحيح الامتحان وظهور النتيجة؟ رد الأستاذ عليَّ بصبر وحنان شارحا استحالة تحقيق هذه الأمنية.. آنذاك لم يكن هذا المدرس الطيب الصبور غريبا ولا نادرا.