ولاية تكساس الأمريكية تدرج الإخوان ومنظمة "كير" على قائمة الإرهاب    أكثر من 20 إصابة في هجوم روسي بطائرات مسيرة على مدينة خاركيف شرق أوكرانيا    أحدثهم بنما وهايتي وكوراساو، المنتخبات المتأهلة لبطولة كأس العالم 2026    طقس اليوم: مائل للحرارة نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالقاهرة 28    خيرية أحمد، فاكهة السينما التي دخلت الفن لظروف أسرية وهذه قصة الرجل الوحيد في حياتها    الرئيس السيسي: البلد لو اتهدت مش هتقوم... ومحتاجين 50 تريليون جنيه لحل أزماتها    أسعار طن الحديد في أسوان مستقرة نسبيًا اليوم الأربعاء 19 نوفمبر 2025    ارتفاع أسعار الذهب في بداية تعاملات البورصة.. الأربعاء 19 نوفمبر    إسعاد يونس ومحمد إمام ومى عز الدين يوجهون رسائل دعم لتامر حسنى: الله يشفيك ويعافيك    بشري سارة للمعلمين والمديرين| 2000 جنيه حافز تدريس من أكتوبر 2026 وفق شروط    البيت الأبيض: اتفاقية المعادن مع السعودية مماثلة لما أبرمناه مع الشركاء التجاريين الآخرين    حقيقة ظهور فيروس ماربورج في مصر وهل الوضع أمن؟ متحدث الصحة يكشف    ترتيب الدوري الإيطالي قبل انطلاق الجولة القادمة    شبانة: الأهلي أغلق باب العودة أمام كهربا نهائيًا    أوكرانيا تطالب روسيا بتعويضات مناخية بقيمة 43 مليار دولار في كوب 30    نمو الطلب على السلع المصنعة في أمريكا خلال أغسطس    "الوطنية للانتخابات": إلغاء نتائج 19 دائرة سببه مخالفات جوهرية أثرت على إرادة الناخب    فرحات: رسائل السيسي ترسم ملامح برلمان مسؤول يدعم الدولة    شمال سيناء تنهي استعداداتها لانتخابات مجلس النواب 2025    "النواب" و"الشيوخ" الأمريكي يصوتان لصالح الإفراج عن ملفات إبستين    النيابة العامة تُحوِّل المضبوطات الذهبية إلى احتياطي إستراتيجي للدولة    انقلاب جرار صيانة في محطة التوفيقية بالبحيرة.. وتوقف حركة القطارات    نشأت الديهي: لا تختاروا مرشحي الانتخابات على أساس المال    مصرع شاب وإصابة اثنين آخرين في انقلاب سيارتي تريلا بصحراوي الأقصر    ما هي أكثر الأمراض النفسية انتشارًا بين الأطفال في مصر؟.. التفاصيل الكاملة عن الاضطرابات النفسية داخل مستشفيات الصحة النفسية    النائب العام يؤكد قدرة مؤسسات الدولة على تحويل الأصول الراكدة لقيمة اقتصادية فاعلة.. فيديو    مصرع شاب وإصابة اثنين في انقلاب سيارتي تريلا بالأقصر    إحالة مخالفات جمعية منتجي الأرز والقمح للنيابة العامة.. وزير الزراعة يكشف حجم التجاوزات وخطة الإصلاح    معرض «الأبد هو الآن» يضيء أهرامات الجيزة بليلة عالمية تجمع رموز الفن والثقافة    أبرزهم أحمد مجدي ومريم الخشت.. نجوم الفن يتألقون في العرض العالمي لفيلم «بنات الباشا»    في ذكرى رحيله.. أبرز أعمال مارسيل بروست التي استكشفت الزمن والذاكرة والهوية وطبيعة الإنسان    عاجل مستشار التحول الرقمي: ليس كل التطبيقات آمنة وأحذر من استخدام تطبيقات الزواج الإلكترونية الأجنبية    سويسرا تلحق بركب المتأهلين لكأس العالم 2026    الأحزاب تتوحد خلف شعار النزاهة والشفافية.. بيان رئاسي يهز المشهد الانتخابي    جميع المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026    شجار جماعي.. حادثة عنف بين جنود الجيش الإسرائيلي ووقوع إصابات    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    أسامة كمال: الجلوس دون تطوير لم يعد مقبولًا في زمن التكنولوجيا المتسارعة    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    أحمد الشناوي: الفار أنقذ الحكام    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    تحريات لكشف ملابسات العثور على جثة شخص في الطالبية    أحمد فؤاد ل مصطفى محمد: عُد للدورى المصرى قبل أن يتجاوزك الزمن    جامعة طيبة التكنولوجية بالأقصر تطلق مؤتمرها الرابع لشباب التكنولوجيين منتصف ديسمبر    فضيحة الفساد في كييف تُسقط محادثات ويتكوف ويرماك في تركيا    زيورخ السويسري يرد على المفاوضات مع لاعب الزمالك    مشروبات طبيعية تساعد على النوم العميق للأطفال    طيران الإمارات يطلب 65 طائرة إضافية من بوينغ 777X بقيمة 38 مليار دولار خلال معرض دبي للطيران 2025    وزير المالية: مبادرة جديدة لدعم ريادة الأعمال وتوسيع نظام الضريبة المبسطة وحوافز لأول 100 ألف مسجل    فيلم وهم ل سميرة غزال وفرح طارق ضمن قائمة أفلام الطلبة فى مهرجان الفيوم    هيئة الدواء: نعتزم ضخ 150 ألف عبوة من عقار الديجوكسين لعلاج أمراض القلب خلال الفترة المقبلة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    هل يجوز أداء العشاء قبل الفجر لمن ينام مبكرًا؟.. أمين الفتوى يجيب    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    الشيخ رمضان عبد المعز يبرز الجمال القرآني في سورة الأنبياء    التنسيقية تنظم رابع صالون سياسي للتعريف ببرامج المرشحين بالمرحلة الثانية لانتخابات النواب    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: مقارنة المهور هي الوقود الذي يشعل نيران التكلفة في الزواج    كيف يحدث هبوط سكر الدم دون الإصابة بمرض السكري؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفيل والفراشة
نشر في أخبار الأدب يوم 19 - 02 - 2012

كانت محاولة اجتهاد من اجل الوصول إلي "هذه النقطة التي يقف فيها الكائن عندها علي بعد شعرة رقيقة من الفناء والذوبان في الفراغ.. وهي النقطة في نفس الوقت التي يبدأ الكائن عندها في لم أعضائه وأجزائه ليؤكد وجوده المتفرد.."ملامس المكان
امه كانت تحكي له عن "خششبان".
الأمير الطفل الذي كان ابوه الملك يخاف أن يلدعه عقرب فأخفاه داخل صندوق من خشب وصنع له ثقبا ينظر منه علي العالم.
تركت امه حكاية الطفل الذي كتب عليه أن يقضي طفولته داخل صندوق من خشب.. وينظر للعالم من ثقب صغير.. ويري الكائنات وهي تمر امامه بسرعة لا يستطيع توقيفها.
يتماهي السيوي مع خششبان ويتمني لو تتوقف تلك الحركة او تهدأ قليلا.. كي يتأمل المشهد.. او علي الاقل يفهم شيئا ما.
النظر من ثقب الباب يحول العالم الواقعي إلي خيال.. وفانتازيا عند الامير المحبوس في بيت الخشب
وهذا ما يفسر وجود كائنات غير منطقية في الطفولة.. تجسد المخاوف من شياطين وعفاريت.. وجنيات.. عالم اخر تعيش فيه كائنات لا تنتمي إلي الذاكرة الواقعية.. سحالي وثعابين.. وكائنات تخرج من مخازن بصرية تفتح فجأة.. وتخلق مسارا لحياة أخري في اللوحة.
اللوحة هي مكان الترتيب الجديد.
أو كما يقول السيوي:
..الرسم فن مكاني.. علاقة الفنان بالمكان.. لكنه لا "يستطيع تحويل المكان الي مشهد.. المكان اكبر: اضواء ..اشكال.. ايقاع.. حدود.. هندسة.. طبيعة.. واللوحة هي مكان سترتب فيه أشياء.. يمكن أن ترفض أن تكون اللوحة (نافذة) تطل منها علي العالم.. وتعتبرها (سطحا) يحمل علاقتها.. اللوحة هي مجال لحركة أشياء لن تلغي بعضها.. المكان هنا عكس الزمن الذي جسدته الميثولوجيا اليونانية في "كرونوس" الاله الذي يلد أطفالا يلتهمها.. أو الثعبان الفرعوني الذي يأكل ذيله.. اليوم يأكل أمس.. هذه فكرة الزمن.. الاختفاء بينما المكان هو التجاور الذي يسمح بالنفي والالغاء.. عندما تولد في مكان تتسرب حكاياته وتتحول الي ذاكرة لا تمحي غالبا.. يستدعي المكان ايضا أشخاصه.. درجات الضوء الواصل اليه.. روائحه.. عواطفه..".
تعود ملامس المكان وشحناته إلي اللوحات في حياة جديدة. أماكن جديدة. يتبعثر ايقاعها بين السفر والاقامة.
ابتسامة الصور
في الصور القديمة يبتسم عادل السيوي كما يفعل الناس عادة امام الكاميرا.
لم تكن صور فردية.. كانت وسط تجمعات في مصيف عائلي.. أو اصدقاء في نزهة مفتوحة.. أو بين وسط الفن التشكيلي في قاعة عرض.
خفتت الابتسامة في صور احدث رغم ان مساحة " البهجة" اتسعت.
ابتسامة السيوي قناع ربما.. يخفي نظرته القلقة إلي نقطة بعيدة.
أو هي وسيلة لابعاد الصورة عن عالمه الداخلي.
يريده بعيدا.
مثل محميات نادرة وسط طوفان من الصور القياسية يجتاح العقل والحواس. المشاعر والأفكار.
الذات محاصرة في غرفها الصغيرة "تستقبل" عالما مكتملا لا يعتني بهذه الذات ونظرتها للعالم.
الابتسامة هي جدار العزلة الشفاف في مواجهة.. "نفايات يومية تحاصرنا.. تحتل حجراتنا.. لا تترك لنا مساحات للتأمل..".
يبدو عادل السيوي غريبا وهو يتحدث عن مشاعر العزلة
فهو ملتصق جدا بمدينته (القاهرة). شوارعها. تاريخها. طريقه اليومي من البيت الي المرسم. مغرم بحكايات عمومية. وحكايات خاصة بأشخاص الشارع الذي يعيش فيه والمحلات والأشجار.
نخرج من بار "استوريل" بعد منتصف الليل نكمل كلامنا حول الصراع بين العلامة والحكاية..علامة الفنان والحكاية المكتملة من حوله.. ووسط الكلام يرفع يده ملوحا لحارس السيارات.. ثم يتوقف وينظر من بعيد: "شارع جميل جدا" مشيرا الي شارع هدي شعراوي الذي يخترق قلب القاهرة وكان تقريبا ملك شخص لبناني.. يحكي عنه.. السيوي.. ويشير الي بنايتين غريبيتين عن المعمار الجميل للشارع "هذه عمارة الستينات...الوظيفية السخيفة".. ثم يتوصل الحديث عن العلامة والحكاية.
هكذا وسط محيط الحميمية والرغبة في الانتماء الي عالم مكتمل حوله.. يبدو البحث عن العالم الداخلي هو السؤال.
يطفو كأنه ميناء مدفون.
مثل الذي شاهده اونجاريتي، شاعر ايطاليا الكبير، في الاسكندرية.. "عندما تصفو مياه البحر.. تظهر ملامح الميناء القديم، المدينة التي كانت هناك قبل ان يجيء الاسكندر الاكبر..".
هذا الظهور المحير حفر اخدودا عميقا في ذاكرة اونجاريتي: ميناء مغمور، عالم خفي مدفون باكمله، ولكن مشاهده تطفو احيانا وتتكشف علي نحو مكتمل في حضورها وتصبح بذلك قريبة جدا وبعيدة..".
انها "تجربة مكتملة.
مكان قائم في النسيان، ولكنه هناك ولن يموت ابدا، ستعاود تجاربه المنسية الطفو وتعلن عن حضورها اللحظي ثم تنسحب مجددا الي مكمنها الابدي..".
هذا ما كتبه السيوي عن ميناء اونجاريتي المدفون.. ويصلح بشكل ما لمقاربة تجربته.
من الثقل الي الخفة
"هل تستطيع لوحة متواضعة البوح بكل هذا الحزن الذي اشعر به لانني يوما ما سوف اموت، كما تموت كل الكائنات امام عيني لحظة بلحظة، كما مات الاصدقاء والناس الذين احببتهم وودت لو استبقيتهم لنضحك ونتكلم ونتشاجر ونحب معا؟".
السؤال هو السطر الاخير في ورقة عثر عليها عادل السيوي صدفة في اوراق رحلته الايطالية.
الورقة عنوانها: "الدهشة امام الموت ومحاولة استجواب الطبيعة.." مكتوبة بماكينة طباعة قديمة في 12 يونيو 1984 بميلانو.
السؤال تلخيص لاحدي جولات القلق بدأت بما يشبه القرار: "...اتجه بفكري الآن الي هجرة الموضوع بشكل كامل، ومحاولة تصوير كائن او مجموعة كائنات من الطبيعة تتشابك مع بعضها في علاقة من الترابط والتضاد في نفس الوقت".
ورسم عادل بالفعل في هذه المرحلة لوحات نبات الصبار ولوحة عن الماعز الهارب والاشجار.. ووقتها كان يعتقد ان "جسم الانسان لم يعد يشكل لي المنطلق الرئيسي بل اتسعت رقعة الكائنات التي اتعامل معها من اسماك وقطط وكلاب وفواكه واشجار وصخور..".
كانت محاولة اجتهاد من اجل الوصول الي "هذه النقطة التي يقف فيها الكائن عندها علي بعد شعرة رقيقة من الفناء والذوبان في الفراغ.. وهي النقطة في نفس الوقت التي يبدأ الكائن عندها في لم اعضائه واجزائه ليؤكد وجوده المتفرد..".
كانت ورقة ميلانو عنوان شك والحاح لاسئلة وجودية تدفع اللوحة باتجاه "ثقل" فكري يري الانسان مشروع معاناة دائمة في اتجاه نهاية مؤلمة.
سؤال يضع اللوحة امام الوجود والعدم.
والفنان هنا مشغول بسؤال التعبير (البوح): هل يمكن ان تغير اللوحة قوانين الحياة والموت؟
الشغف هنا لم يكن الكشف والتعري للاقتراب من العالم غير المرئي من ذات الفنان، ذلك العالم السري البعيد.
في اللوحات الاولي كان عادل يبحث عن "المشهد الكبير".
فراغ متسع تبدو فيه الكائنات صغيرة هائمة.. الآن رحلته اقتربت من هذا الكائن الصغير. احتل اللوحة. سيطرت حكايته علي الفراغ وفتحت افق المراوغة الي الحد الاقصي.
لم يكن مهتما في اللوحات الاولي بالجسم كموضوع للتأمل ويحكي: "..رسمت وسط البلد.. وغرفة علي البحر.. كنت اريد ان تعبر الفراغات نفسها عن شيء منها.. فكرة المكان او المنظر.. بعد ذلك حين انشغلت بالوجه أي جزء من الجسم ركزت معه... الان انا مهتم بالجسم كاملا.. ليس ضائعا او مهروسا داخل فراغ.. بالعكس جسم متماسك وقوي ومنتصب.. من الجسم نخرج بافكار حول الدنيا.. والجسم نفسه موضوع للتأمل.. انا اعتقد ان هذا ما اذهب إليه الان.. اعادة تأمل في موضوع الجسم.. ولا اتوقع ان يقول لك الجسم ما في الروح.. اتعامل مع ان المرئي هو المدهش.. الدهشة في ان تراه كما هو لا باعتباره يعبر عن شيء ابعد منه او كرمز اجتماعي.. انا مشغول الان بالكائن كما هو".
معرضه الشخصي الاول افتتحه راغب عياد في اتيليه القاهرة(1980).. وضم رسومات السنوات الاولي بداية من 1974.. حيث سيطرت الرغبة في التعبير عن مشاعر فضفاضة ونساء النوافذ وابواب البيوت المحيطة ببيته...علامات علي رومانتيكية مبكرة.
تختلف بشكل كبير عن مشاعر اخري ظهرت في المعارض التالية.. ظهر فيها تأثير "العجنة في ماكينة التشكيل الاوربي...".
في 1985 اشترك عادل في معرض مهم بفلورنسا لكل الفنانين الاجانب المقيمين في ايطاليا.. كان خجولا من لوحاته كما قال لي.. ولم يقدم الا 3 لوحات صغيرة لامرأة ترتدي القبعة.. والمفاجأة ان لجنة التحكيم طلبت مقابلته بينما هو من فرط الخجل لم يحضر المعرض وسافر الي فينيسيا.. وكانت هي "اول مرة اشعر بتقدير بعيدا عن دائرة العلاقات الشخصية..".
المرأة وقبعتها كانت غريبة بعض الشيء علي لوحات تلك المرحلة التي كانت فيها الاجساد متآكلة وسط الفراغ.. رومانتيكية جديدة عبرت عنها كلمة "عاطفية.. اخجل منها الآن" كتبها عادل السيوي في كتالوج المعرض الذي اقيم باتيليه القاهرة وافتتحه حسن سليمان.
لوحات قاتمة.. تأثرت بحركة فنية تسود المصورين في شمال ايطاليا وخاصة ميلانو هي التعبيرية المتوسطية.. امتزجت فيها تعبيرية نيتشويه الحضور الدائم للموت والألم والعذاب (القريبة من فلسفة نيتشه).. بتقاليد المتوسط واحتفاليته وحسيته.
الاجساد في هذه اللوحة متآكلة في الفراغ.. اقرب الي كائنات تريد التماسك لكنها تتفكك.. العلاقة مع فراغ اللوحة اصبح اكثر توترا.
هذا التوتر الدرامي خفت في لوحات 1987.. وبدأت الخفة في الظهور مع المعرض الكبير الذي اقيم في قاعة "مشربية" حينما كانت مديرتها كريستين روسيو.
معرض مشربية كانت التقديم الكبير للسيوي (كفنان من مصر) في القاهرة.. وعلي المستوي الشخصي انهي تقريبا فترة شتات بين مصر وايطاليا استمرت عامين.. اما علي المستوي الفني فكانت اول اعلان عن التخلص من الثقل الوجودي.. والاتجاه الي الخفة متأثرا بايتالو كالفينو ولوحة ماتيس "بهجة الحياة".. ايضا بدرس بورديجا الذي قال له "لماذا لا ترسم لوحات تشبهك"
رسمت لوحات "نافذة علي البحر" بعد عشاء تحاورا فيه (السيوي وبورديجا) عن المسافة الذي يصنعها التورط في شكل ما "كنت وقتها اريد ان ارسم اشياء فتخرج علي السطح اشياء اخري..".
لكن في لوحات "النافذة.." ظهرت الكائنات خفيفة كأنها تستعد للطيران.. والفراغ اتسع ليطل علي عالم خلف النوافذ المفتوحة.. (بحر وغابات ومدينة).. وظهرت لاول مرة وجوه من العائلة والذكريات.. "كنت احاول ان اجعل هذه الغرف تتسع، وتدعو من يشاهدها للدخول، وكانت النوافذ هي فرصة تلك الغرف في الاتصال بالعالم،
اتسع بعد معرض مشربية دائرة العرض من بيروت 1993 (حيث بدأ البورترية في الظهور للمرة الاولي) ثم باريس وبرشلونة و نيودلهي وبرلين والمكسيك وجوهانسبرج ونيويورك.. وفينيسيا."
الفيل والفراشة
الفيل يبدو بالنسبة للسيوي وكأنه قطعة من الارض اتخذت شكلا مهيبا وتحركت.. هناك شيء ما يجذبه في هذا الكائن الكبير. الثقيل. القديم.. رمادي مثل الطين والارض... تجذبك حركته الواثقة بلا لهفة، التصوير بثقل تقاليده وطول تاريخه وسكونيته يبدو كصديقنا الفيل، وما "يشدني فيه هو قدرته رغم ثقله وقدمه علي التحرك داخل مساحات ضيقة واكتشاف امكانية دائمة لوجودة داخل تقاليده ومرجعياته
الفراشة علي الجانب الآخر، بخفتها المدهشة وتحولاتها، بالوانها المكثفة ورقة تكوينها، وطيرانها المهزوز انجذاب آخر يشد عين السيوي "تتنازعني الرغبة في هذا التجوال الحر، وهجرة الاماكن المعتادة، حضور عارض مختصر وكثيف في الوقت نفسه"
ربما لا يمكن الاستغناء عن هذين البعدين، محاولة التواصل مع غناء قديم، والرغبة في الخروج دائما الي أماكن اخري، وربما هجرة خارج المجال بأكمله، يميل السيوي الي اكتشاف امكانية ما لهذا الفيل ان يواصل حركته، ولكن طيف الهروب والقفز خارج الدائرة هاجس لا يمكن التخلي عنه.
تجذبه عبارة محمد علي كلاي العبقرية في علاقته بخصمه، " سأدور حوله كفراشة والسعه كنحلة"، "اتمني رغم صعوبة الطموح لو أن تكون هذه علاقتي بالعالم من خلال لوحتي".
أرواحنا متصلة الوجوه في مقبرة
هذه تجربة مهمة لم يكن هذا عنوانها لكنها تلخص الجو العام لفكرة جديدة في العرض مستوحاة من المقبرة الفرعونية.
بدأت الفكرة بورشة في بينالي الشارقة كتمهيد لمشاركته الاولي في بينالي فينيسيا (1997).. عندما جرب عادل امكانية ان يجهز غرفة كاملة من الوجوه.. كيف تحولت المقبرة الي لوحة؟
صنع عادل غرفة بمدخل ضيق ومخرج ضيق ايضا.. مقبرة لكن بدون الحس الجنائزي.. رسم الوجوه علي المرايا.. ليشعر المتفرج عندما يتحرك امام الوجوه أن شبحه يتحرك بدوره خلفها.. المتفرج هنا داخل الحكاية.
الحكاية هنا، وكما يقول عادل في "ذلك العدد المهول من الوجوه.. في مقابل رغبة البني آدم أن يبقي واحدا.. ويتفرد.. ولهذا كتبت جملة ليقرأها المشاهد قبل الدخول الي ذلك التعدد المهلك لوجوه منفردة..
"ارواحنا متصلة"
الرسم بالجسد
لم يكمل عادل السيوي الطريق للسينما بعد عامين في معهد ايطالي كان يدرسها كانثربولوجيا. اي وسيلة للتعرف علي الشفرات الجماعية للثثقافة والتعبير.
لم تنقطع احلامه في السينما.. عمل مديرا فنيا لفيلم "يا دنيا يا غرامي" من اخراج صديقه مجدي احمد علي.. ولديه حلم كبير باخراج فيلم سينما علي هواه وبدون خضوع لاية شروط. مكافأة مجنونة علي مجهود السنين..
يرتبط الجنون بالسينما.
لكن في لحظات عمله الاولي وجد السيوي بينه و بين السينما مسافة تفصله عن الصورة.. فهو يحب الصورة علي طرف اصبعه. لا وسيط بين جسمه وبين جسم اللوحة. كأن اللوحة امتداد لجسده. لا هواء بينه وبينها. كأن جسمه يتمدد.
لا يرسم عادل السيوي بعينه او بيده.. يرسم بجسده
وهذه مرحلة وصل اليها بالخبرة والتجربة وهي بالنسبة له موديل التحرر.. والتوافق المريح مع اللوحة.
لم يحدث هذا الا مع المساحة الكبيرة.. فيها يكون الجسم هو الفاعل.. "توتراته.. وصعوده وهبوطه تشارك في الرسم.. بل هي التي ترسم.." يحكي عادل "بدأت هذه المرحلة مع "الوجوه".. ولم تكن هذه الطريقة تصلح قبلها.. لانني اردت الوجه الذي يخرج من المجال الي مساحة صرحية تمتصك.. ليس مجرد وجه انت معه في علاقة نسبة وتناسب.. علاقة ندية.. الوجوه هي التي جعلتني احب تلك المساحات التي تسمح لي بالدخول فيها وجسمك يدخل فيها.. وبدرجة ما تضيع.. واداء جسمك يؤثر علي اللوحة.. جسمك هو الذي يقرر.. وحركته وتوتره الذي لا يمكن ان يساوي اي توتر جسدي آخر.. هنا لا الافكار ولا القواعد ولا القوانين.. انه جسمك الذي يعمل...".
ينقل الجسم ايقاعه الي اللوحة.. تنفتح" قناة بين جسمك وتوترك الي اللوحة".
لا يرسم السيوي اسكيتشات وينفذها في اللوحة الكبيرة.. الاسكيتش مجرد خربشة لاكتشاف الفكرة وتحضيرها ثم بعد ذلك: "المغامرة كاملة" كما يسميها او الرسم بكل طاقة الجسم.
الجسم هنا هو الذي يرسم.. ليس مجرد ناقل للفكرة الموجودة في الاسكيتش الصغير.
الجسم بقوته وعنفوانه.. وبضعفه وهفواته.. بمشاعره وانتباهه.. بعافيته ومحدوديته لكن هذا لا يتم دفعة واحدة.
في مرحلة البناء الاولي ترسم اللوحة شبه كاملة. يسيطر الوعي بدرجة كبيرة.. تصعد فيها الكائنات الي السطح ويكتمل حضورها.
لكن المرحلة الثانية هي هدم هذا الاكتمال.. اللا وعي يستيقظ وتبدأ محاولات العثور علي "علامات" الفنان
علي تلك النقطة البعيدة من عالم غير مرئي.
الطاقة الحسية توجه الخبرات الي شيء غائم.. تسير خلفه.. تقاوم الخبرة.. وكلما ضعفت مقاومتها اقتربت اللوحة من الجرح السري الذي تحدث عنه جان جينيه في كتابه عن مرسم جياكوميتي.
ذلك "الجرح المتفرد، المختلف بالنسبة لكل واحد، المختفي او المرئي، الذي يكنه كل انسان في نفسه ويحفظه في داخله، ويرتد اليه حينما يريد مغادرة العالم في عزلة مؤقتة، إلا انها عميقة".
مسافة.. مع الكلام
"..اريد ان احدثك عن شيء.."
استوقفني السيوي في نهاية جلسات الحوار.
كان مشغولا وقتها بالتفكير في مشروع بينالي فينيسيا (2009).. ويميل الي اكتشاف تلك الصروح اليومية التي يحاول بها المصريون انتزاع بهجة ما من التعب اليومي.
تكلمنا عن الفكرة. كانت في اولها، وشاهدت اسكيتشات وتخطيطات يلتقط فيها القدرة والحيوية المرحة في مواجهة واقع قاس.
عالم مرئي كامل عصي علي التحول إلي مفردات لغوية.
لغة الكلام بعيدة إلي حد ما.. او كما قال لي وهو ينظر بعيدا الي لوحة او الي مكان الرسم في القسم الثاني من المرسم :"اشعر بمسافة مع الكلام...".
ويصمت.. ثم يكمل: "..كما حاولت ان اصنع مسافة مع الفن والوطن والذكورة وكل المسلمات تقريبا.. اعتقد انه من الضروري الاعتراف بان هناك مسافة بيني وبين الكلام..".
ويحكي: "..اميل الي تفسير انتحار فان جوخ.. بانه كان بسبب دفع جوجان له لان يتكلم.. فان جوخ كان يرسم لانه لا يتكلم و عندما تكلم لم يعرف كيف يلتئم مرة اخري..".
الكلام هو افشاء ما للعالم الداخلي.
والعالم الداخلي يراه السيوي "شفاط كبير للعالم الخارجي.. تدخل معه مشاعر وذبذبات وصور لا حدود لها.. وتخرج عبر شحنات عاطفية وواعية الي اللوحة.. تعبر عن قوة العالم الداخلي..".
وهذا يصنع مسافة حقيقية مع الكلام. "مسافة تبدو قدرا بالنسبة لي..".
اشك دائما في ان الكلام موصل جيدخاصة في علاقته بعالمي الداخلي.. كان رودان يتصور ان ريلكه سيكتب افكاره كما يتخيلها هو.. ولكن الشاعر كان يبحث عن مسافة لفاعليته هو بين تلك الافكر والكلمات، تمرس كل منهما خلف قلعته، فحدث الصدام وابعده رودان عن ورشته، بعد زمن من الفراق تصالحا.. يظل النحت رغم التصالح فعل وتظل الكلمات وثيقة الصلة بالمسميات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.