يتوقف عادل السيوي فجأة وسط الشارع ليحكي حكاية. المارة يتابعون الراوي والمستمع بفضول.. فالقاهرة لم تعد مدينة تأمل.. أصبحت عجولة.. رغم شيخوختها المسيطرة.. وإرهاقها العنيف.. مساحات الحكي والراحة والتأمل نادرة.. وتستحق الدهشة.. فمن يستطيع توقيف إيقاع مدينة تسير بجنون وقسوة؟ السيوي مشغول بعلاقته مع القاهرة. يستجمع الآن حكاياته الخاصة عن القاهرة في كتابة لايعرف إلي أين تقوده.. فهي مدينة يحكمها تناقض كبير.. بناها الموحدون (سلالة الفاطميين).. بما يمثل ذلك من رغبة في انضباط علي ذبذبة واحدة منتظمة.. لكن علامتها الرئيسية مازالت هي الأهرامات التي بناها الوثنيون.. متعددو الآلهة. «نحن هنا.. لن نغادر». يقولها وسط جُمل طويلة عن أسي المدينة.. يعلن قرارًا ربما يطمئن به نفسه.. ويجدد اختياره الإقامة في مصر رغم أنه يمتلك فرص الخروج.. علي الأقل إلي إيطاليا التي عاش فيها سنوات طويلة وحصل علي جنسيتها «لكن هناك شيئًا ما غامضًا وسحريًا يربطنا بهذا المكان..» كما يقول في واحدة من رحلاتنا إلي أو من مرسمه في شارع هدي شعراوي.. بقلب القاهرة. «هذه نصيحة حسن سليمان.. قال لي إذا أردت الحياة في القاهرة.. لابد أن تعيش في وسط البلد.. حتي لو في غرفة واحدة.. وفعلا شعرت بعد أن انتزعت مرسمًا في قلبها، بأنني أقيم داخل الحكاية و.. مكان التسكع.. المقاهي.. المطاعم.. السوق.. محال قديمة.. وحركة أتوبيسات.. كل ذبذبة المدينة مركزة هنا.. وتخترقك بالكامل بلا رحمة..» حسن سليمان هو واحد من حراس القاهرة. مصور من جيل قديم. و«أسطي» من أسطوات الفن، كما يحب عادل أن يصفه مختارًا تعبيرات دقيقة إلي حد ما. يوم موت حسن سليمان اتصل بي.. كنت خارج القاهرة. أبلغني الخبر. كانت مشاعره خليطا من افتقاد شخصي وخسارة عمومية، ظل عادل يجول وحده في شوارع «وسط البلد».. يتنقل من مقهي إلي زقاق يقابل شخصيات بالصدفة.. وفي الخلف نداء إلي شيء عميق لكنه غامض. شيء داخلي يخصه ربما أكبر مما يخص الموت. عادل السيوي ولد في سنة ثورة الجنرالات علي النظام الملكي (1952) عندما كانت القاهرة الأوروبية ( قاهرة حسن سليمان) علي وشك الاختفاء.. قاهرة السيوي الأولي (قاهرة الستينيات) كانت مليئة بحيوية مختلفة عن الأربعينيات. هو الآن يعيش قاهرة ثالثة. تختلف عن قاهرة النوستالجيا. وعن قاهرة الشباب. قاهرة يعبرها كل يوم من بيته (في المهندسين) إلي مرسمه (في باب اللوق).. متابعًا الشجر.. والتفاصيل والحكايات.. يبحث عن شيء يخصه وسط طوفان يطيح بكل الثوابت.. تبدو الناس في رحلته اليومية كأنهم خارجون من معارك قديمة. غرباء. يسكنهم عنف وبدائية. تحركهم طاقة خفية لبناء حياة خارج المنطق. كتبت هذه الكلمات في بداية نص طويل اسمه «الفراشة والفيل» عن عادل السيوي أحد أهم الفنانين التشكيليين في مصر الآن.. وأعيدها اليوم احتفالا بمعرضه الجديد «حكايات السيوي».. في قاعة أفق واحد بمتحف محمود خليل. في لوحات المعرض لا يخفي عادل السيوي غرامه بالحكي.. في لوحات تكشف عن ذاكرة شخصية تريد التحرر حتي من حدود اللوحة.. ليترك بصمات خفيفة علي جدار القاهرة.. تلك المدينة الساحرة والمرعبة في آن واحد.