يبدو أن استغراق الفنان فى عالمه، وتأمله لواقعه، سيظل أحد أهم أسباب النجاح، والموصل الجيد لإنتاج الفنان إلى متلقيه، خاصة إذا كان هذا العالم الذى ينتمى إليه عام وعادى، يحتك به المارة، ويعرفون أبطاله، كما هو الحال مع الفنان الكبير عادل السيوى والذى استهل العام الجديد بمعرض مهم فى قاعة «أفق واحد» بمتحف محمود خليل. المعرض الذى افتتحه الفنان محسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية، وحضره مجموعة كبيرة من الكتاب والفنانين، كان مبهرا لكل الحضور، اختلطت فيه الفانتازيا والواقع بانسيابية شديدة، كان سببها عفوية التفكير، والاستسلام للشطحات، وإطلاق العنان للرغبة فى استدعاء أشخاص، وأحداث، أغلبها حقيقى، عاصره الفنان وتعامل معه بنحو أو آخر، بل إن بعضها جاء فى شكل مداعبة وشغب. نجد ذلك فى لوحة «عصام محروس وقارئ الطالع» التى تذكر فيها السيوى عصام صديقه القديم الذى توفى صغيرا، وكان يعمل حلاقا، فصوره وهو يمارس مهنته، ويحلق لشخص ما، هذا الشخص هو نفسه قارئ الطالع، بطل إحدى لوحات الفنان عبدالهادى الجزار، فى تصوير خفيف الظل لإحدى حالات تواصل الأجيال والمدارس المختلفة. أيضا استدعى الفنان شخصيات سينمائية معروفة، مثل أبولمعة والخواجة بيجو، وطعم اللوحة بأيقونتين صغيرتين ترمزان للدين الإسلامى والمسيحى، فى إشارة إلى زمن كان يسمح بالاختلاف، وقبول الآخر، فارتبط هذان الاسمان ببعضهما البعض، وحققا نجاحا ساحقا، وأصبحا كيانا واحدا، رغم أن أحدهما مصرى مسلم، والآخر مسيحى نصف أجنبى، وتختلف شخصية كل منهما عن الآخر كليا وجزئيا، صورهما السيوى فى لحظة حميمة، وقال إنه أراد إلقاء التحية على هذا الزمن غير المتعصب. نساء عادل السيوى هن الأم، والأخت، وبنت الجيران، واللعوب «زوبة» التى تتباهى بجسدها، متعمدة إغراء شباب المنطقة، اهتم بهن قاصدا التحية، ورصد لقطة غابت عن ساحة النقاش فى السنوات الأخيرة، وتاهت فى ظل جادلات فرضية الحجاب والنقاب من عدمها، لقطة السيدة المصرية القوية، المسئولة، المتحاملة على نفسها، القادرة على الضحك فى ظل ظروفها الصعبة، هذه القدرة التى يندهش لها السيوى، يقول «أردت تحية السيدة المصرية الواقفة فى مواجهة أعباء الحياة، والتى نسيناها فى ظل اهتمامنا بالقضايا الجدلية». المعرض لا يربطه موضوع ملموس معين، الرابط الوحيد بين الأعمال وبعضها هو الفنان الذى يقف وراء هذه الحكايات.. حكايات أسرته فترك لها نفسه، وخضع لرغبتها فى الخروج، ورغم أنها حكاياته الخاصة، إلا أن كلا منا يستطيع أن يستقبلها بطريقته، لأنها كما قلنا.. عادية، ولكن هذا هو الفن الحقيقى، الذى يستطيع رصد العادى، وتسليط الضوء عليه، فيلفت الناظر، ويستوقفه، ويجعله يتأمل يومياته، وعن هذه الحالة يعبر عادل السيوى فى مقدمة الكتاب الذى يحوى نسخ الأعمال، يقول «أحاول على مدى ثلاثة أعوام أن أحكى حكاية تتكشف كلها فى لمح البصر، لتحيلنا بعد ذلك إلى غياب ما: وقائع وأبطال ولحظات وتفاصيل أخرى تخفيها عنا، ربما أعادتنى كل هذه التفاصيل للسير فى الطرق القديمة». ورغم عدم وجود هذا الرابط، إلا أن الزائر يشعر بانسجام وتناغم، قد يكون سببهما بجانب جمال اللوحات هو الصدق الشديد، والاستسلام للشطحات الإنسانية، الحالة التى وصفها السيوى فى جملة معبرة، قال «كنت سايب نفسى للحكايات». أعماله جمعت بين الحقيقة والحلم، فنجد مثلا لوحة «السماء فوق إمبابة»، والتى يظهر فيها الكوبرى الجميل الذى يربط بين حيى إمبابة وروض الفرج، حرص السيوى على تصويره بلونه القديم قبل أن تمتد له يد مهندسى الحى لتشويهه، يظهر الكوبرى ومن بعيد يقف شبح نابليون بونابرت، ينظر للجسر القديم بحنين، ساهمت فيها ألوان السماء الضبابية، وانعكاساتها فى ماء النهر صاحب المحبة الخاصة لدى أبناء إمبابة، ينظر نابليون وكأنه يتذكر أيامه الخوالى، عندما قامت معركة الأهرام بين الجيش الفرنسى والمماليك فى ميدان الكيت كات. أسماء اللوحات وقفت على الحد الفاصل بين المباشرة وعدم الفذلكة، فكلها بسيطة، تحمل قدرا من الوضوح الدال على المحتوى، فتقرأ عنوان «الدابة المهولة» وتنظر إلى اللوحة فتجدها فعلا مهولة، والأمر نفسه يتكرر مع لوحات مثل «الخياطة»، «العناية بالأظافر»، «بروفيل أسود»، «العناية بالقدم»، وغيرها من.. حكايات السيوى.