تثير دائما المعارض ذات التيمة والموضوع الموحد اهتمام الساحة الفنية وتؤجج فضول المشاهدين، حيث ينصب الاهتمام حول التنوع والثراء فى تناول الفكرة الواحدة من خلال وجهات نظر فنانين من أجيال مختلفة. فى المتاحف العالمية، يسعى المنظمون إلى التجديد والتغيير فيما لديهم من مقتنيات، فيتم جمع الأعمال التى تناولت آدم وحواء على سبيل المثال عبر تاريخ الفن كما حدث فى متحف البرادو بمدريد منذ عدة سنوات. كما تنفرد متاحف أخرى بنوع فنى محدد مثل متحف الصورة الضوئية بمدينة لوزان بسويسرا أو متحف البوتريه (أو الصورة الشخصية) بلندن... إلخ، ولهذا تكون فكرة المعرض النوعى فكرة مستحسنة وخطوة فى طريق التآلف مع الفنون التشكيلية وتقريبها للجمهور من خلال التعرف على أشكال مختلفة فى النوع الواحد (المنظر الطبيعى، الطبيعة الصامتة، الجسم الإنسانى، الصورة الشخصية... إلخ)، كما هو الحال فى المعرض المقام حاليا بقاعة «أفق واحد» بمتحف محمود خليل وحرمه بالجيزة الذى يجمع 76 فنانا ليقدم كل منهم نموذجا ضمن أعماله يعكس خصوصيته فى هذا المجال الفنى ويسمح للمشاهد بالتأمل والمقارنة. وبالإضافة إلى هذا الزخم الذى يجمع بين جميل شفيق وسمير فؤاد ومصطفى الرزاز وابراهيم الدسوقى وعبدالهادى الوشاحى وبين عادل السيوى ومحمد عبلة وعمر الفيومى بالإضافة إلى أسماء أخرى من شباب الفنانين، يقدم المعرض الذى أقامه قطاع الفنون التشكيلية كتابا (كتالوج) مصاحبا عرض فيه الناقد صلاح بيصار موجزا لتاريخ الوجه الانسانى «من أعماق التاريخ إلى آفاق الحداثة» حيث استعرض فيه انتعاش رسم الوجه الإنسانى فى مصر القديمة على ضفاف النيل وفى العصر الرومانى لتمجيد شخصيات القادة والزعماء والآلهة الإغريقية، مرورا بعصر النهضة وعبر المدارس الكلاسيكية الجديدة والرومانتيكية والانطباعية والتعبيرية والسريالية، وتوقف بيصار عند أعلام البورتريه فى الفن الحديث مثل بيكاسو وماتيس ثم فريدا كالهو وبوتيرو وفرنسيس بيكون، ثم لا ينس أن يؤصل للصورة الشخصية فى الفن المصرى المعاصر من خلال أمثلة من أعمال جيل الرواد من أمثال مختار وأحمد صبرى ويوسف كامل ومحمود سعيد ومحمد حسن وراغب عياد، أو للجيل التالى لهم مثل بيكار وعز الدين حمودة وصبرى راغب وحسن سليمان وغيرهم. وتعكس هذه الخلفية التاريخية التى قلما ما يتم الاهتمام بها عند تنظيم المعارض الفنية خصوصية التناول المصرى للصورة الشخصية الذى حتى وإن كان قد تأثر مثل غيره من الفنون بالميراث الفنى العالمى إلا أنه يجد امتداده الطبيعى فى النموذج المصرى القديم وفى «وجوه الفيوم» وهى مجموعة البورتريهات التى كانت ترسم للمصريين القدماء فى العصر الرومانى (وكان يتم رسم بورتريه للشخص حتى يصاحبه مع وفاته لتتعرف الروح على أصحابها عن طريق البورتريه)، وكانت إسهامات جيل الرواد عظيمة ليس فقط فى الوقوف على فن البورتريه الغربى، بل وفى إرساء ملامح مصرية صميمة على الصورة الشخصية مثل أعمال مختار ومحمود سعيد ويوسف كامل. ومن هنا يكون التساؤل حول اختيار شعار المعرض للوحة الموناليزا لليوناردو دافنشى رغم وجود مرجعية أخرى هى وجوه الفيوم كان من الممكن أن تكون هى أيقونة المعرض وبطل ملصقات الدعاية، أو أحد أعمال الرواد المصريين التى تعد خلفية نمى وترعرع فيها فن الوجوه بصفة عامة. تعلل مقدمة الكتالوج اختيارها بأنها «أيقونة الصورة الشخصية على مر العصور وهى أشهر لوحاته كما تعد أيضا أشهر لوحة عالمية على الإطلاق فى فن الصورة الشخصية». فقد رسمها الفنان الإيطالى ما بين 1502 و1506 وهى صورة شخصية لزوجة السيد فرانشسكو دل جيوكوندو، وصارت اليوم إحدى المرجعيات المهمة لعصر النهضة أى أنها شعار لنهضة جديدة وانعكاس لرغبة النهوض فى أزمنة التردى. غير أن ما غاب عن المقدمة المصاحبة للمعرض وعن الحس التنسيقى للأعمال المعروضة (حيث هناك فن قائم بذاته خاص بالتنسيق المتحفى واتباع رؤية محددة فى عرض الأعمال الفنية) هو هذا الفارق الكبير بين البورتريه كصورة شخصية لشخص بعينه له وجود حقيقى حتى وإن أبدع الفنان فى إضفاء عناصر متخيلة على اللوحة وبين «الوجوه» التى تعتمد على رسم وجه من صنع الخيال يسمح للفنان بتكثيف معان شتى وموضوعات مختلفة فى الوجه الإنسانى. فإذا كانت براعة البورتريه تكمن فى قوة تعبيره عن تاريخ الشخصية وانفعالاتها ومشاعرها من مجرد ملامح الوجه ونظرة العينين، فإن فن الوجوه موضوع أشمل يضم البورتريه ضمن ما يضم، يطلق العنان للخيال بعيدا عن المعايير الموضوعية، أى أن فن الوجوه هو تقطير للحياة. فالمثال الواضح على هذا الاتجاه فى رسم الوجوه الذى يستمد قوته من الاستعارة والمجاز، نجده فى أعمال عادل السيوى الذى قطع مراحل فنية مختلفة فى فن الوجه مستندا فى العديد من أعماله على الملامح الأفريقية والمساحات الطولية العملاقة التى تسمح له عن طريق خطوطه التجريدية أن يعكس فى حيز الوجه نفسه حياة صاحبه. أو كما اختار عمر الفيومى أن يتخذ من بوتريهات الفيوم مصدرا له يلهمه ويضفى عليه فى أعماله الروح المعاصرة. وفى معرض «وجوه» يقدم الفيومى أيقونة نسائية لا تخلو من حسية، بينما يعمد الفنان فرغلى عبدالحفيظ إلى مغازلة الحس الشعبى والفطرى، فيقدم لوحة أكريلك بعنوان «عروس النيل» يغمس فرشاته فى ألوان شعبية زاعقة ويقدم خطوطا تحاكى الفنان الفطرى ليراهن على السهل الممتنع أو كيف ينسى الفنان الرؤية الأكاديمية ليقدم الفطرة الخالصة؟ أما الفنان عصام معروف فيقدم لوحة يجدر أن نطلق عليها اسم ذات الوجهين، إذ يصور وجها ثنائيا يجمع بين فتاة سافرة وأخرى ترتدى الحجاب ليجسد من خلالها حالة الازدواجية التى لا تصيب فقط المجتمع والمعايير العامة بل داخل الشخصية الواحدة. ومن المفاجآت التى يقدمها معرض «وجوه» هو عرضه أعمال فنانين لم نعهدهم فى لوحات البورتريه مثل لوحة محسن شعلان أو محمد رزق، بينما الفنان جمال عبدالناصر الذى برع فى تقديم الوجه المشوه جماليا فى خامات بسيطة، يقدم هنا عملا نحتيا من البرونز لوجه غير منتظم الملامح طحنته الأيام وأنهكه التمرد. وتكمن فى النهاية أهمية المعرض فى كونه تدريبا للمتلقى على ولوج الأساليب المختلفة من مجرد التعرف على الوجه الإنسانى، وتدريب لفنانين لم نعهدهم من رسامى البورتريه أو رسامى الوجوه، حيث لجأ بعض الفنانين إلى الحرف العربى بديلا لملامح الوجه، يعتمد عاطف أحمد على قصاصات لصفحات الدعاية والإعلان لتكون خلفية لصورة فوتوغرافية لفلاحة مبتسمة تحيل المتلقى بالضرورة إلى النزعة الاستهلاكية التى تمكنت من حياة البسطاء أيضا، بينما تحول «وجه» محمد عبلة إلى حروف عربية عنوانا للهوية.