حكايات محدودة تراكمت عبر الزمن هي التي تجمع بين الرسام والمترجم، الأول فنان كبير فعلا وناجح ومتحقق ولم يستند إلي أي سلطة في حياته، يعيش بين فرشاته وألوانه، والمترجم رجل وقور، يهتم بملابسه «المستوردة» وهيئته أمام الآخرين أكثر مما ينبغي، يلتقيان في مرسم الفنان في الزمالك مرة كل أسبوع «الأربعاء علي الأرجح»، المترجم يحب النميمة، وينقلها أسبوعيا طازجة إلي صديقه، الذي يعرفه منذ أواخر الخمسينيات، هو من عائلة كبيرة في الفيوم، ولا يكف عن الحديث عنها وعن مآثرها مع أي شخص وفي أي وقت، ويتحدث كثيرا عن والده الذي كان ضابطا في الحرس الملكي، ويحتفظ بحكايات من طفولته لا تدهش أحدا، الرسام لا يذهب إليه أحد إلا بموعد مسبق، وعادة لا يقابل شخصين في وقت واحد، والمترجم - مع التقدم في العمر - بدأت تتضح كراهيته تجاه الجميع، هو يري أنه كان مرشحا لوزارة الثقافة وغدر به أصدقاؤه الشيوعيون، ويحكي عن اتصالات تمت مع مسئولين كبار في السبعينيات، والرسام يكون في أحلي حالاته وهو يتحدث عن الشعر والسينما والمسرح والرواية، ويريد أن يتعرف علي العالم بإخلاص. والمترجم فقد الاتصال بكل أصدقائه لأنه اعتبرهم تخلوا عنه، ولكنه ظل حريصا علي الذهاب إلي «البن البرازيلي» في شارع سليمان باشا في الثامنة صباحاً، هو يقرأ «الأهرام» فقط وغير مقتنع بصحف أخري، وتظهر شراسته عندما تكون في المكان امرأة، يتحول إلي شخص عدواني ويقول كلاماً نهائياً ولا يقبل الجدل، الرسام بدأ يضيق به، خصوصا بعد أن طلب منه أن يرسم والده راكبا حصانا وهو يرتدي البدلة الميري وعلي صدره النياشين والأوسمة، المترجم جاء له بأكثر من صورة لوالده وهو يركب أحصنة في أماكن مختلفة، الرسام يحاول الاعتذار لمدة ثلاث سنوات، والمترجم مستعد لدفع أي مبلغ يطلبه الرسام، في اللقاء الأسبوعي بينهما لم يعد المترجم بمفرده في المرسم، لأن معجبات الرسام وتلاميذه أصبحوا حاضرين، ويتعاملون مع المكان كأنهم أصحابه، والمترجم صار أكثر عنفا ويشعر بالوحدة، واحدة من الشاعرات قررت أن «تشتغله» خصوصا بعد أن عرفت أنه صاحب ذوق قديم وأنه لا يعرف ما يحدث من ثورة في الشعر المصري بداية التسعينيات، كانت تهاجمه بدلع فيحمر وجهه ويرتبك، وبسببها عاد إلي التدخين، والرسام يتفرج، وفي كل مرة يحدثه - وهو ينصرف - عن ملامح والده الصعبة والتي تحتاج منه وقتاً إضافياً، والمترجم يقول له «ليس صحيحا أن كل ملامح الأتراك متشابهة»، والرسام يؤكد علي كلامه، في إحدي المرات ذهب المترجم إلي المرسم وكان عند الفنان الكبير ضيوف من أمريكا، جاءوا لترتيب معرض له في نيويورك، كانوا ثلاثة رجل وامرأتان، عرفه عليهم وأشاد بصداقتهما وبتاريخهما معا، والمترجم عاملهم باعتبارهم جواسيس وكان صفيقا معهم، أخذه الرسام من يده وخرج به وقال له كلاما، بعد يومين اتصل به، وكانت المرة الأولي في علاقتهما يتصل به في بيته، وقال له إنه رسم والده وإنه لا يريد منه فلوسا، وقبل أن يقدم له اللوحة شتمه بصوت خفيض علي ما قاله لضيوفه، المترجم كان مبتسما وفي عينيه لمعة انتظار طفولية، وعندما خرج الرسام باللوحة وثبتها علي الحائط، بكي المترجم بكاء حارا، وقال له: «ماذا فعلت بأبي؟».. الرسام أشعل سيجارا وصب كأسا لنفسه ونظر إلي السيارات في الشارع.. كل ما فعله، أنه رسم والده بكامل هندامه، ولكنه استبدل الحصان، بحصان أطفال من خشب.. خرج المترجم حزينا، وانقطع الخيط بينهما.. حتي عندما مات الرسام لم يحضر صديقه.. العزاء.