المكان دار الهلال الزمان في بداية الستينات تعرفت علي عدلي رزق الله، بدأنا نحن الاثنان العمل معا في مجلات الأطفال »سمير وميكي«، وكنت التحقت بالدار قبله بشهور قليلة، ولكني لم استطعم العمل ليس لطبيعته فقد دخلته برغبة واختيار اذ كنت حينذاك شغوفة بصحافة الطفل التي لم يكن لها في ذلك الوقت مجال، كان التليفزيون حديثا والفضائيات لم تكن ظهرت فكانت ساحة ثقافة الطفل فارغة. كان مصدر ضيقي وصدمتي انني اكتشفت ان المواد التي تقدمها المجلات اغلبها مترجمة عن مجلات اجنبية يجري تمصيرها وان علينا أن نكون ناقلين فقط. وفوق ذلك كانت قوانين الدار أشد وطأة فممنوع التحدث مع زميل وممنوع التأخير عن ساعة الوصول إلي العمل اكثر من ربع ساعة واذا زادت ولو دقيقة يخصم الربع من الراتب، ساعات العمل في الصيف 24 ساعة وفي الشتاء تمتد إلي 84 ساعة، ولما كان من الصعب بل من المستحيل تحقيق المدة يوميا فكنا نمضي في الاسبوع يوما كاملا من الصباح إلي المساء لننجز المدة المطلوبة، والحقيقة أن هذا اليوم الذي كنا نتفق عليه كان من أمتع فترات العمل قرب بيننا نحن الزملاء وخلق بيننا عشرة طيبة وذكريات جميلة لاتمحي، أسوق هذه المقدمة لأبين المناخ الذي وفد إليه عدلي رزق في بداية حياته العملية. كان لقائي الأول به في اجتماع التحرير الاسبوعي حينما اعلنت رئيسة التحرير انه قد انضم إلينا رسام جديد اسمه عدلي رزق، كان شابا نحيلا اشقر الشعر والبشرة يلبس نظارة سميكة تحجب لون عينيه خجول قليل الكلام، لم يكن مهتما بما يدور حوله من ثرثرة، للوهلة الأولي احسست بالاشفاق عليه فكيف سيتعايش هذا الحالم مع جو العمل الخانق الذي يتنافي تماما مع طبيعة الفنان، ولعل هذا الشعور ما جعلني اقترب منه ونرتبط معا بصداقة حميمة. كان العمل الفني في مجلتي »سمير وميكي« لايحتاج إلي فنانين بل كان المطلوب محبرون للصور الاجنبية وناقلون عنها ومقلدون لها. اصطدم عدلي بهذا الواقع لأنه اولا يرفض ان يكون رساما مقلدا وثانيا ان الصور كانت تعتمد علي الالوان الصاخبة والخطوط الحادة في حين كان هو يعشق الالوان الهادئة والخطوط الناعمة، فتنافر الطرفان المسئولون عن المجلة والفنان. عدلي شخصية هادئة قليل الكلام يميل إلي العزلة رغم صداقاته المتعددة، كتوم شديد الحساسية يتمتع بذاكرة قوية لاتنسي ابسط الاشياء يختزن احداث طفولته بحلوها ومرها تحز في نفسه احيانا ويرويها بسخرية احيانا أخري. دائما غارق في عالم رسوماته ينكب علي لوحته بالساعات الطوال يهدهدها ويحتمي بها مما يحيط به من صخب، يعشق الرسم بالالوان المائية يبدع في مزجها وتدرج درجاتها وانسيابها، شخصيته شخصية المشاهد المراقب المتأمل. ومع ذلك هو واقعي سلوكا ومعايشة. كنت استمتع بالجلوس اراقب خطوطه الناعمة وفرشاته وهي تمزج الالوان ودموعه وهي تنساب من تحت نظارته من شدة التدقيق والاجهاد، لم يكن يتكلم ابدا اثناء شغله مهما استثير فهو في محراب لوحته. تركت العمل في دار الهلال وانتقلت إلي الاتحاد الدولي للعمال العرب اشرف علي اصدار مجلته الشهرية ونشرته اليومية، كان الاتحاد وقتها - في منتصف الستينات - يقوم بدور سياسي عربي كبير مقدر، وتحت ستار النشاط العمالي كان الرئيس عبدالناصر ينفذ منه إلي حركة الجماهير العربية والقوي الشعبية العربية الناهضة، لذلك كانت مجلته مجلة عربية سياسية ذات توجه عمالي. لم تنقطع صلتي بعدلي رزق الله بتركي دار الهلال بل بالعكس توطدت وتوثقت صلاتنا اكثر ساعد في ذلك ان مقر الاتحاد كان في ميدان باب الحديد (ميدان رمسيس حاليا) وكان طريق عدلي ذهابا وايابا فكان دائما ما يأتي لزيارتي اما متبرما غاضبا أو لشرب فنجان من القهوة في هدوء قبل ان يصل إلي »دار الهلاك« كما كنا نطلق عليه بدلا من دار الهلال. ان جيلنا هو جيل شباب الستينات، كنا جميعا محدودو الدخل ولانسعي وراء المال، عرفني عدلي بعدد من اصدقائه كتابا وفنانين وكان مكتبي ملتقي هؤلاء، كانوا كتابا شرفاء لاينتظرون عائداً مادياً كبيرا من كتاباتهم، وقد استطعت بفضل هؤلاء ان اصدر المجلة بشكل جيد بقليل من الأعباء المالية، في يوم زارني عدلي ومعه شاب هاديء من حديثه ادركت انه شديد الايمان بالحركة العربية والوحدة العربية التي كانت حلم جيلنا، واتفقت افكاره مع اهداف المجلة وأصبح من الكتاب الدائمين تناقشنا كثيرا اتفقنا واختلفنا ولكن في نهاية المناقشة كنا نصل إلي وفاق، في يوم دق تليفون مكتبي كان المتحدث عدلي واخبرني انه قادم لزيارتي تصورت انه يريد شيئا فاخبرته باني مشغولة الآن فهل هناك شيء مهم فضحك واجابني بنعم.. جاء عدلي وقال لي باقتضاب وبشكل تلغرافي سريع انه يرشح طارق زوجا وانه قال له نفس الكلام، وقد كان.. سافر عدلي إلي باريس، لم يكن دافعه بحث عن شهرة أو جمع لمال وانما رغبة في المشاهدة والتعليم والانفتاح علي الفن العالمي، لذلك رجع إلي مصر حين بدأ يحصد ثمار نجاحاته، فاعماله تعرض في قاعات الفن بباريس ويقوم بتدريس الفن في جامعات فرنسية، أي انه اوشك ان يعد فنانا داخل اطار حركة الفن الغربي، وهنا وقف عدلي وقفة مع نفسه، ادرك انه يثبت ذاته في أرض غير أرضه وبلد غير بلده وناس غير ناسه فقرر العودة وأدار ظهره لكل المغريات. عرفت عن عدلي الكثير، فكثيرا ما حدثني عن طفولته وأسرته وهموما وطموحاته، ولكن الذي حجبه عني انه كان يتعاطي الأدب ويمارس الكتابة سرا لذلك كانت المفاجأة التي اذهلتني عندما قرأت كتابه »الوصول إلي البداية« وهو عن سيرته الذاتية، ان عدلي ليس رساما فحسب بل له قلم مبدع، فهو يقول علي سبيل الاستشهاد: »لوحتي هي اللون وانعدام اللون/ الصلابة والأثيرية/ الجسدانية الحسية والطهر أيضا/ الانتشار والكمون/ التفتح والالتمام/ التدفق والانحباس/ الصلابة والسيولة/ النور والقتامة/ الهمس والصخب/ الصمت والايقاع العالي/ البهجة والحزن/ اللذة والألم/ صدقوني اذا قلت الاحادية تقتل/ الاحادية موقف رومانسي ساذج من الحياة وفي الفن أيضا/ اكره الموقف الأحادي في الفن وفي الحياة«. هذا هو الفنان عدلي رزق الله كما عرفته.