مصطفي رحمة وسط لوحاته يقول الفنان مصطفي رحمة: أن نشحذ ذاكرتنا ونعود لأيام صبانا وقت اكتشفنا صدفة أن لدينا موهبة الرسم، فلم تكن قد تحددت بعد معالم مايطلق عليه موهبة، فالكلمة نفسها لم أفهم معناها إلا بعد مرور وقت ليس بالقليل، كأن يقولون فلان موهوب، نعم، ولكن هل خُلقنا جميعاً بها، مؤكد كثيرون يولدون بها، وقد تذهب حال فيما لو لم يقيض لصاحبها اهتمام حتي تكتمل الموهبة لديه ويحظي بخصوصية يتفرد بما ليس عند آخرين، تماماً مثلما هي كلمة مُحترف، فلم أكن لأدرك أن للرسم احترافا يتكسب منه الناس، كذلك أغلب الفنون حتي تصبح وحدها تشكّل مصدر دخل يتفاوت بمستوي المنتج (اللوحة) والتي لها مقتنون يقدرونها حق تقدير فيما لو ممهورة بإمضاء فنان كبير و مشهور. وعمل الفنان مصطفي رحمة كثيرا في مجال رسومات الأطفال من خلال عمله في مجلة ماجد، ذلك قبل أن ينتقل إلي مجال التشكيل وتنتقل رسوماته إلي عوالم الكبار.. وربما كان في اقترابي من مصطفي رحمة محاولة للاقتراب من عوالم رسامي الأطفال والعبث في صندوق طفولتهم.. إذا يستعيد رحمة ذكرياته قائلا: أذكر أنني لم أكن لأدرك أنني موهوب إلا بعدما وجدتني أرسم علي كل فضاء أجده أمامي ويصلح للشخبطة في البيت، رسمت علي حائط البلكون الصغير جداً والذي لا يتسع إلا لشخصين، رسمت علي ظهر دولاب ملابس أبي وأمي، وعلي الشبابيك، أحياناً كانت تستهويهم تلك الأفعال قائلين لمن يزورنا إن بإمكاني رسم الزائرين، وأفعلها ويغضب الزائرون خاصة عماتي اللاتي لم يرق لهن رسمي ويغضبن، دخلت المدرسة فكان أن أظهرت مواهبي، وكان لدينا مدرس دمث الخلق، كان عيبه إنهاء الحصة في عجالة، فلم يفدني كثيراً، فقط كان يبهرني عندما يصنع تماثيل صغيرة تشبه بعضها بمادة طينية رأس نفرتيتي غالبا، وقبل أن يأتي رجعيون بتحريم التماثيل حتي كليات الفنون جميعها، الغريب أنه رافقنا كل السنوات الدراسية بالابتدائي، فقد كنت بمدرسة تدار بتوجيه من الناظر وحده الذي هو صاحبها أيضاً وإن كانت زوجته هي الناظر الحقيقي، فهي من تهيمن علي الموقف جميعه ولأنها كانت تصغره بسنوات، وكنت غالباً أتحصل علي نتائج متدنية بالوسائل التعليمية خاصة بكراسات العلوم والجغرافيا والتي لم أرسم فيهما ولو رسمة واحدة، لا رسوم خرائط ولا علوم ولأني كاره لهما ولما يسمي بوسائل تعليمية، فكثيراً ما نهرت أولادي أيام كانوا صغارا لمطالبتهم لي رسم خرائط ووسائل تعليمية أخري بدفاترهم، متصورين أنني وبما أنني أعمل رساما فسهل أن أرسم عنهما، وحدث أن قال أحد المدرسين لابني "أليس والدك فلان الرسام الذي يعمل بمجلة كذا؟ "، وكانت المجلة وقتها قد حازت شهرة كبيرة بأغلب البلاد العربية، "ماذا لو رسم لنا عددا من اللوحات نوزعها علي بعض فصول المدرسة؟"، ذهبت بنفسي إلي المدرس غاضباً وشددت عليه أن لا يفعلها مرّة أخري، فكان أن شددوا علي إبني أن يرسم كل مايُطلب منه. كنت قد أحببت الرسم بعدما عرفت مجلة سمير وأنا صغير فقد كان بها عدد لا بأس به من الفنانين، وقد توفر لي أعداد ألا كثيرة بالإضافة لمجلات أخري فقدتها كلها يوم ثار علي أبي يوم خزلته بمجموع سيئ كنت قد تعودته! وفي مرحلة مابعد الابتدائي بسنوات من خلال مجلة صباح الخير والتي كان أخي الكبير يأتي بها كل أسبوع، كان بها عدد كبير من الرسامين ممن أصبحوا نجوما بعد ذلك وإن كانوا حققوا نجومية امتدت عدة عقود، حتي انهار فن الكاريكاتير تماماً ولم يعد هناك نجوم، وكانت مدرسة روز اليوسف تتميز عن أغلب المطبوعات وقتها بتنوع في أسلوب كل رسام، وكنت مفتونا بحجازي وإيهاب شاكر واللباد، الذين أصبحوا أصدقائي فيما بعد، بل شاركني حجازي العمل بمجلة ماجد بأبوظبي فكنا معاً يومياً ولمدة سنتين، وقد شاءت الأقدار أن أكون مجندا بالجيش بإحدي المؤسسات العسكرية بالعباسية، فكنت أتردد علي الدور الخامس الخاص بمجلة صباح الخير، وإذا صادف ورأيت حجازي مثلاً كمن رأي حسين فهمي مثلاً، وإن كانت قيمة حجازي لكبيرة عندي خاصة بعدما أصبحنا أصدقاء.. أتذكر أن حجازي أسر لي ذات مرة بعدما خصصنا مبلغ ثلاثمائة درهم للصفحة أي 450 جنيها وقتها بمجلة ماجد، إنهم كانوا يتقاضون عشرة جنيهات للصفحة بحسب تسعيرة وضعتها مديرة تحرير مجلة سمير! أتذكر أن الأستاذ حسن فؤاد شجعني حتي ألتحق بالمجلة، وعندما طلب مني رسم 200 اسكتش يومياً زوغت منه، ولم أعد للمجلة. ومما أذكره أن درجاتي كانت متدنية بالحساب (الرياضيات) فكان من أبي أن أحضر مدرسا كي يشرح لي كيف هو الحساب، الذي ولن أخفي عليكم فحتي هذه اللحظة عندما أخضع لعملية حساب بالضرورة لشراء شئ مثلاً، تسبب لي إشكالية وكأنه لوغريتم وليست عملية حساب بسيطة، وجاء المدرس الذي كان مظهره وملبسه يشجعان علي رسمه، كان يضع طربوشاً غير نظيف علي رأسه وبوجهه شارب صغير يشبه شارب هتلر، وتعتلي أنفه نظارة من تلك التي يضعونها علي أرنبة أنوفهم، ويرتدي بالطو لونه كاكي علي ما أذكر فوق جلباب، وفي زيارته التالية رسمته وأخفيت الرسم داخل دفتر التمارين ونسيته، بعدها أخذ الدفتر معه للبيت للمراجعة والتصحيح، ولم أره بعدها علي الإطلاق، سألني والدي عنه مرّات عدة، أنكرت معرفتي، قرر والدي الذهاب إليه لمعرفة سر امتناعه عن الحضور، جاء والدي من عنده، وما هي إلا سويعات وتلقيت علقة، فأبي لم يكن عنيفاً، ولكنه كان يرميني بأي شئ تطاله يده وأنا وحظي فيما ستطاله يده في كل مرّة.