عدتُ ثانية إلي شارع الشيخ ريحان، لأبحث عن الحارة التي يقبع بها ضريحه، والتي دخلتها وأنا مُعبئة بالحكايات التي سمعتها عن البئر الموجودة بداخله، والتي يغطسون فيها الأطفال الرضع، كي يشفيهم الله من الأمراض، في طقس يشبه طقس التعميد في المسيحية. لم أصدق نفسي حين وصلت، لم أصدق أنه هو الآخر محض بيت. بيت يُشبه البيوت الريفية. بيت له سور، لا تزال محارته صامدة، وبوابته أيضاً صامدة، والتي كانت تُشبه بوابة أي بيت عادي؛ مُفرغة ومطلية باللون الأخضر. أذكر اللون ليس لأن من البديهي أن يكون أخضر، لكونه باب ضريح، ولكن للتأكيد علي أن البسطاء ليسوا بالبساطة، أو السذاجة، التي نظنها عنهم. كان يجلس بجوار السور مجموعة من الرجال الذين يعملون في تصليح الموتوسيكلات، والذين يرتدون الزي الخاص بهم، الذي يُدعي »العفريتة». دققت النظر أكثر لأتأكد أنني لستُ مُخطئة، فوجدتُ لافتة سوداء، حسمت لي الأمر، إذ كُتب عليها باللون الأبيض طبعاً، ما يؤكد أن هُنا ضريح الشيخ ريحان، وأنه يتبع مشيخة السادة الأحمدية السلامية. وتحت اللافتة، دُون رقم موبايل لشخص يُدعي (الحاج عزت). خمنت علي الفور أنه خادم الضريح، أو مالك البيت! سألت الرجال عنه، وعن الشيخ ريحان. ضحكوا، وتطوّع أحدهم يُدعي رضا بالحديث عنهم، قائلاً بنبرة تشي بالسخرية: »مانعرفش حاجة عنه، إحنا هنا عاملين زي الإسرائيليين، والحيوانات، شوفي ابني اللي هناك دا».. »عامل زي الكلب، وتقريباً اللي خلفه كلب». »طيب، عايزة أدخل الضريح». قلتُ. فوقف رضا ليفتح لي الباب، الذي كان موارباً، قائلاً لي: »ماتخفيش هنا السمك بنحطه.. ماينزش مايه». لم أفهم صراحة، وهذا ما جعلني أتسمر قليلاً في مكاني، ربما لأخمن ما يقصده، وربما لأنني كنتُ حقيقةً خائفة. حين دخلتُ، وجدتُ علي يميني ساحة فارغة، وعلي الفور لمحتُ البئر التي يتوسطها، بدت من الوهلة الأولي بئراً مُهملة. كما وجدتُ حماماً رديئاً للغاية، حماماً ليس له باب، وعلي شمالي وجدتُ غرفة، كما يقولون »علي المحارة»، غرفة ليس بها شيء سوي الجدران. »أين الضريح إذن؟» سألتُ نفسي، وحين استدرتُ، وجدتُ ممراً في نهايته باب. مشيتُ إليه، وأنا في ذهني الصورة المُعتادة لأي ضريح. وحين فتحتُ الباب، شهقت، والله شهقت، لأن المشهد كان يفوق تصوراتي، إذ رأيت حجرة مكتملة، بها سرير، وتليفزيون، ومروحة، ومنضدة، وبعض المستلزمات التي يحتاجها أي فرد من أطباق، وملابس، وأشياء أخري متكوّمة فوق بعضها البعض، وفي وسط كل ذلك يوجد المقام، فتذكرت علي الفور مسلسل (السبع وصايا)، ورسمت في بالي صورة متخيلة للحاج عزت هذا، أنه رجل قصير وسمين، وله شارب عريض، ويرتدي قميصاً وبنطلوناً، ويتحدث بدهاء وبخبرة العارفين بالأمور. وأنا أهمُ بالخروج، لا أعرف لِمَ شممتُ رائحة الموت، والتي لم أشمها في أي من الأضرحة التي زرتها. وقلت ربما هذه إشارة أن ثمة أحداً مدفوناً هُنا. لكنني عتبت علي نفسي، وقلت في سري »يبدو أن الخرافات أثرت عليكِ». رجعتُ إلي الرجال، وسألتهم عن الحاج عزت، قال الرجل المتطوع بالحديث عنهم إنه يجلس هناك -وأشار بإصبعه- علي القهوة، وطلب من أحد الصبية، أن يذهب، ويناديه. انتهزت الفرصة لأسألهم ثانية عن هوية الشيخ ريحان، أكدوا بحسمٍ أنهم لا يعرفون شيئاً، وأنه هُنا من قديم الأزل. وأن الحاج عزت ورث عن عائلته خدمة الضريح. قال رضا: »أوعي تصدقيه في حاجة.. دا ممكن يقولك إنه ابن الشيخ ريحان». وراح يُقهقه. أتي الحاج عزت، مُحطماً صورتي الذهنية عنه، كما فعل من قبله الضريح، أو المقام، إذ كان رجلاً طويلاً، ونحيفاً، وعجوزاً للغاية. يرتدي جلباباً، ويتعثر في مشيته، وتنبعث من فمه رائحة الموت! كانت له عينان مربكتان، عينان لا تنظران إلي شيء محدد، لدرجة أنني كدتُ أسأله: »هل تراني؟». قلت له في البداية، إنني أريد أن أعرف من هو الشيخ ريحان، فقال لي بنبرة المسئول المُنشغل دائماً: »عدي عليا يوم الجمعة، أكون جبت الورق اللي فيه كل حاجة عنه». فقلت له بذات النبرة: »لا.. أنا مش فاضية يوم الجمعة». تنهد، أو بالأحري، نفخ في وجهي. وقال: »تعالي ورايا، بس ماتخفيش». لم يكن يعرف أنني قد سبقته، وتعرفت علي المكان. اصطحبني إلي الداخل، ووجدته يرفع غطاء المقام، ويجلب من تحته الورق الذي يثبت أحقيته بخدمة الضريح، بعد الست ظُهره، أخته، قلت له: »انت بتضحك عليا بقا». لم يرد، فخمنت أنه لم يسمعني، وعرفتُ من الأوراق أن اسمه عز، وليس عزت، عز الدين محمود محمد، وأن الضريح خاضع للمجلس الأعلي للطرق الصوفية، وأنه قد سبق واشتكي للمجلس، الذي رفع بدوره الشكوي إلي محافظة القاهرة، من قيام جمعية (تنمية المجتمع لأبناء حي الشيخ عبد الله الخيرية) - والذي أخذني ليُريني إياها والتي تقع خلف الضريح علي ناصيتي عطفة الشيخ ريحان وعطفة العجمي- بتغيير معالم الضريح واستخدام جزء من أرضه، بمعاونة عضو مجلس المحافظة، »في أنشطة لا تمت للتصوف بصلة». ظل يقول لي كل دقيقة: »ها، لقيتي مكتوب إيه». كما ظلت عيناه لا تنظران إليّ. ثم أردف: »الضريح موجود منذ 250 عاماً، وورثت خدمته عن جدودي وإخوتي، أما أنا فموجود هُنا منذ عشر سنوات، ولديّ حُجة بالأرض.. هذا بيتي، لقد رممته علي حسابي، فقد كان هذا السور علي وشك الانهيار، وأنا من بنيت هذه الغرفة الفارغة لأنام فيها، وحين وجدتُ أن الجمعية تريد أرض الضريح الذي تُقدر بستة قراريط دخلت وأقمتُ بجوار الشيخ ريحان، لأحتمي به». - طيب يا حاج مين الشيخ ريحان دا؟ - يووووه.. قولتلك ماعرفش شعرت بخيبة أمل، ولم يكن الرجل مُبالياً بي، بل رأي فيّ فرصة لا تعوض لأن يقول من خلالي، إن أرض الضريح ملكه، طالباً مني أن أصوّره بجوار الضريح، وأن أصوّره وهو جالس علي السرير، وهو واقف بجوار البئر. وطلبتُ منهُ بدوري أن أصوّره وهو جالس بجوار الباب الخارجي. وحين خرجتُ، وجدتُ الرجل الحشري، الذي كانت هيئته مثل هيئة القراصنة، يضحك ببلاهة، ويسألني: »ها قالك إيه؟».