«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عود ريحان
نشر في الأهرام اليومي يوم 03 - 08 - 2018

أخرجت من حافظتها الجلدية ورقة كانت قد طوتها بحرص عدة طيات, فردتها أمامى, تطلعتُ إليها، أتأمل عينيها الساجيتين وقد اندلعت فيهما للحظة ملامح خوف غامض, كانت الورقة تحمل تاريخ ميلادها, كانت قد نزعتها من نتيجة الحائط, قلبت يديها وهى تقول:
أتعرف من احتفل بى العام الماضى واشترى لى تورتة؟
من؟
جارنا الساكن فى الدور الأرضى قال إنه يعتبرنى كأمه
ارتعشت وجنتى وداريت خجلى فقد جئت يومها متأخرا بعد أن أطفأوا الشموع, كانوا يغنون بمرح:
«يلا حالا بالا حيوا أبو الفصاد»!.
وكانت تبتسم, يفتر ثغرها عن سِنة واحدة بيضاء كبيرة فيها شرخ طولى واضح, أما هذا العام فقد انشغلت عنها بشئونى, ورحل جارنا إلى قريته, لكننى أذكر أننى قلت لها فى الهاتف: كل سنة وأنت طيبة بعد أن نبهنى الأكبر إلى تاريخ عيد ميلادها, وقال لى يومها إن الكلام فى الهاتف نصف الرؤية.
لا أدرى من أحضر لها التورتة يومها؟, وهل ابتسمت وافتر ثغرها عن سِنتها البيضاء الكبيرة, وهل اتسع الشرخ الطولى أكثر أم لايزال على شرخه القديم؟.
حاولت أن أتبين تلك السِنة والشرخ لكنها كانت متجهمة, وتطبق فكيها بشدة وهى تقدم لى ورقة من نتيجة الحائط تحمل تاريخ ميلادها الفائت, قالت: خلها معك لتفتكرنى.
نظرت إليها بقلق, وتناولت منها الورقة, حاولت أن أجد كلمات معبرة يمكن أن تقال فى مثل هذه الأحوال فاستعصت عليّ الكلمات.
مرت فى عينيها سحابة من دمع, وجدت الكلمات تولد فجأة على شفتى كأنها زخة مطر واحدة هطلت من ذاكرة تحاول أن تعتصر خلاصة أمر ما لتقطرها فى كلمات, وأخيرا قلت لها:
ربنا يعطيك طولة العمر.
استطاعت أن توقف سحابة دمعها, ذرت عينيها بشدة, وارتعش طرف أنفها, وشفتها السفلى معا, قالت وهى تتأمل الورقة فى يدى:
بقى على رمضان ثلاثة شهور وعلى ليلة القدر ثلاثة أشهر وعشرون يوما.
همست: أعرف, نلتمسها فى العشر الأواخر.
قالت وهى تعد على أصابع يديها, تُكتب الأعمار فى ليلة القدر, كانت جدتك تقول لى إن الأعمار تُكتب على أوراق شجر التوت فى آخر قريتنا البعيدة ولذا انتزعت منها ورقة النتيجة!, سألتها باهتمام وقد اتسعت عيناى, وما علاقة أوراق شجرة التوت بأوراق النتيجة؟, وأين شجرة التوت التى تحكين عنها؟
ابتسمت وهى تقلب يديها, وظهر شرخ سنتها البيضاء واضحا وقد انبلج منه فج نور, قالت: من ساعة آدم وحوا ما عرفوا بعض وكلها أعمار!, أما الشجرة فهى قرب بيت عمتك سعادة, أنسيتها؟, كنت أهزها لك كل ربيع, وأحضر من قطوفها التوت, ألا تذكر؟
من أوراقها الخُضر كنت تطعم دود القز, أنسيت صندوق الأحذية الأبيض الذى كنا نثقبه حتى يتنفس الدود وهو يمرح على الورقات الخُضر؟
نعم... أذكر.
والشرانق الذهبية والفضية التى كانت تخترقها الفراشات قبل أن نحلها إلى خيوط حرير, كان الزمان يسبقنا!
نعم... أذكر.
ورقة النتيجة كانت متعلقة بشجرة التوت, وكان فيها تاريخ ميلادى فعرفت أنى سأعيش عاما آخر.
سألتها: متى وجدتها؟
أمَا قلت لك فى ليلة قدر
طوت الورقة عدة طيات, ووضعتها بجوارى
احتفظ بها لتفتكرنى
قلت لها: حاضر
انشغلتُ بما قدمته لى من طعام.. مربى كانت تجيد صنعها بعد أن ترى وصف طريقة عملها فى التليفزيون, تقول الطاهية ماهرة ومذيعة لبقة بل وتغنى أحيانا وهى تصنع مربى البرتقال, تنهض بجذعها أمامى وتصفق على يديها وتقلدها:
«ياحلاوتك يا يوسف أفندى يا ابن عم البرتقان».
فأضحك, هى كانت منظرة على يوسف أفندى ولا على ابن عمه؟
ضحكت فاستبانت السنة الكبيرة الوحيدة البيضاء فأطمئن على فج النور الطالع من الشرخ الطولى الذى أصبح من ملامحها المميزة.
وأملأ فمى بمزيد من اللقيمات الغارقة فى مربى البرتقال.
أشارت إلى حافظتها التى بليت قائلة: أريد واحدة مثلها, بثلاثة جيوب وكلهم بسوست حتى لا تسقط منها النقود, وأنا فى السوق.
قلت لها: حاضر.
عادت لتقول: حافظة بلون أسود.
سألتها: ممكن بلون بنى أو زيتى؟
قالت: كل هدومى بعد المرحوم والدك سوداء.
غيَّرى... مرة أسود, مرة بُنى.. مرة زيتى.. مرة أبيض
عادت لتقول: لم أنم ليلى, رأيت الحبايب كلهم فى المنام, جارتنا سماسم التى توفيت العام الماضى كلمتنى وقالت لى إن جارتنا عزيزة اتصلت بها وقالت لها انها تتصل من دكانة عم سيد لأن تليفونها مقطوع منه الحرارة.
قلت: لكنى أذكر أن عزيزة هى الأخرى قد توفيت من زمن فلماذا تشتكى من قطع الحرارة؟, عم سيد وحده هو العائش, شفته الصبح.
حدقت فى عينى بشدة, وقضمت أفكارها, خبأت دهشتها ثم قامت فأحضرت ألبوما صغيرا احتفظت به تحت وسادتها, ناولتنى إياه.
قالت: تفرجت على صور الحج؟
وهل فى الألبوم صور الحج؟
اتسعت عيناها, عادت سحابة الدمع إلى الظهور, تناولت الألبوم, وبدأت تتفرج معى على الصور واحدة.. واحدة.
أشارت إلى قبة المسجد النبوى الخضراء, وهى وأبى وأختى الكبيرة بملابس بيضاء مخيطة وقد تمتعوا بعد الإحرام, وقدموا الهدى إلى أهله.
قالت: هذه القبة الخضراء هى ما بقى لى من الدنيا, أتأملها فكأنى فى روضة من رياض الجنة., ابتسمت.. وجه أبيك مثل القمر ليلة تمامه, كان فى عزه.
انحنت على صورته وقبَّلتها, همست: يا حبيبى.
خُيل إليّ أنها همست قائلة: جيالك ياحبيبى.. لم أكن متأكدا وخفت أن ينصرف هذا إلى ما يشبه النبوءة, هل عليّ أن أنتظر ليلة القدر, أن ألتمسها فى العشر الأواخر بعد ثلاثة أشهر وعشرين يوما لأذهب إلى هناك حيث شجرة التوت بجوار بيت عمتى سعادة, وأقطف ورقة توت؟, ورقة نتيجة من روزنامة كاملة بدأها آدم وحواء بعد المعرفة؟.
جيالك ياحبيبى.. ارتعدت وأنا أرى سحابات الدمع تجول فى عينيها, عادت تقول: سماسم كان وجهها كالبدر يشع نورا ووعدتها فى المنام أن أبلغ الأعطال كى يعيدوا الحرارة لتليفون عزيزة فربما يتصل بها أولادها!.
قلت لها بدهشة: وهل ماتت ناقصة «عمر»؟
قالت: لا أحد يموت حتى يستوفى رزقه, وعمره, لكن هى «غايبة وملائكتها حاضرين».
بناتها ما قصرن, حطوا لها كل ما تحتاجه أقراص الشُريك المخبوزة, والشال الكشمير الذى تحبه, وعود ريحان تعشق عطره, وأولادها الصبيان قالوا إلا الذهب, لا الحلق ولا الخاتم ولا الأسورة خافوا عليها من حرامية الموتى.
سألتها: وكانت تريد معها الذهب حلق وخاتم وأسورة!!.
قالت وهى تبتسم: طول عمرها عايقة ومضايقة.
ضحكنا معا طويلا حتى دمعت عيوننا.
صمتت فجأة وهى تقول: بناتها يرونها فى الحلم تعطيهن خبزا وعسلا
ويقلن لها «والله إن ما جيتوا زى عوايدكم, والله إن ما جيتوا زى عوايدكم ياغاليين زى عوايدكم لنعيش العمر حزانى لاجل خاطركم ».
انتبهت على غنائها, وعدت أسألها باهتمام: وهل تأتى مثل عوايدها؟
بصت فى عمق عينى, وانفرج فمها عن آهة, وبان الشرخ الطولى فى سنتها أكثر عمقا كأن عمره بلايين السنين من أيام آدم وحواء.
قالت: يمكن تكون حضرت فى شكل طائر, نبات, زهرة, عود ريحان.
ثم عادت تغيم عيناها بسحابات الدمع تُقبِل صورة أبى وهى تقول: «هو غائب وملائكته حاضرين», ثم غنت بصوت رائق: «شرارة طارت ع النوار / وشرارة طارت ع النوار / هجرت فرشى ورحت مع الرايحين ناقصين أعمار».
نظرت إلى وجهها كان يأتلق كالبدر, وفج النور بدا ساطعا, وكان غناؤها حلوا يشبه غناء عروس وكأنها فى ريعان شبابها لا تزال.
عادت تقلب فى ألبوم الصور وأشارت إلى إحداها: أرأيت هذه الصورة كنت صغيرا على كتفى, وكان أبوك يُقبِلك, وقد أتى لك بدودة كبيرة من التريكو طويلة ومحشوة بالقطن, كنت تحبها كثيرا لأنها تشبه دود القز, وانتظرتَ أن تُخْرج من فمها حريرا فلم تفعل, كان كل جزء فيها بلون, ظهرها أحمر, ووجهها أصفر, وفمها برتقالى.. أتذكرها؟
قلت: نعم
كانت تطاردنى دودات القز التى ربيتها صغيرا, والدودة الكبيرة التريكو, وأنا أحاول أن آخذ سنة من نعاس, وهى جالسة إلى جانبى, أسندت رأسى إلى مسند الكنبة فهزتنى برفق: تشرب شاى؟
حاولت النهوض بينما كانت خيوط بيضاء من حرير, وأخرى مُذهبة على فمى أنفثها برفق, وأتلوى فى مكانى, وقد نبتت لى آلا ف الأرجل الصغيرة المخشوشنة, اقشعر بدنى لمصيرى المؤلم ونهايتى المرتقبة كدودة قز تخلى عنها الربيع, واعدها ثم خاتلها ولم يأت.
ثرتُ على نفسى, وحاولت النهوض ثانية واشرأب رأسى إلى أعلى بينما زحف كيانى الأبيض بلا معنى على الكنبة, تصاعدت رائحة القرنفل, سألتنى أن تضع لى واحدة أخرى, أبوك كان يحبه كثيرا, عادت تُقبل صورته وهو يحملنى, وأظنها قالت هذه المرة: ياحبيبى
دون أن تعده بأن تلحق به.
شربتُ الشاى, ووقفت تودعنى على باب البيت, قلت لها أن تدخل لأن الليلة شديدة البرد, لم تبال, وأحكمت طرحتها البيضاء على رأسها, ووقفت تلوح لى.
فى الطريق استولى عليّ خوف غامض, دود القز, ودود التريكو, ودود الأرض, ومصيرى المؤلم, كل شيء يحاصرنى, وكل اختياراتى محدودة.
وقعت عينى على حافظة جلدية فى فاترينة زجاجية أمام أحد المحلات, أشرت إليها للبائع واشتريتها لها, نظرت فى ساعتى, كانت عقارب الساعة الخضراء تشير إلى منتصف الليل, وعقارب أخرى كبيرة الحجم كانت تقترب لافتراس قدمى, انتبهت إلى قطع فى حذائى وأدركت أن النعل سينقسم إلى نصفين, خفت أن تتسلل العقارب بين النعلين ثم تصل إلى لحمى.
تذكرت أبى, وكيف نزلنا به أنا وأخى وأولاد خالى الذكور إلى هذا البئر العميق, رفع اللحاد بابه, ونزلنا, وسدناه الأرض التى فرشوها بالرمل, مددناه, وكانت ثمة قطة قد نزلت معنا وقبل أن نخرج من المقبرة خرجت قبلنا, استطاعت القطة أن تنزل معنا, بينما ردوا أمى عن النزول, قالوا لايجوز ذلك للنساء, وإذا أصرت ستلاحقها أرواح شريرة تقض مضجعها, ومخاوف مؤلمة ستعمل أظفارها فى أعصابها فقبلت أمى أن لا تنزل معنا إلى المقبرة على مضض, وجلست تحتضن الملاءة التى كانت تغطيه, وهى تهمس بكلمة واحدة: ياحبيبى.
عند خروجنا أشار اللحاد إلى آنية الصبار الخضراء, وبعض آنية الورد البنفسجية, وإلى ملابس منشورة تتدلى من إحدى البلكونات تقطر ماء خفيفا على الأرض, وقال: كما ترون تُربته ونس, وليلته بيضاء, والملائكة تحفه.
بينما كان أولاد اللحاد يلعبون الكرة بجوار المقبرة, ويتصايحون, كانت الكرة تصعد للأعالى تمس حبال الغسيل ثم تنزل على الأرض منداة, وكانت امرأة اللحاد تكنس غرفتها بالجوار, وقد فتحت بابها فرأينا طقم الأنتريه الأسيوطى وبجواره سرير عليه ملاءات مزركشة بورد كبير الحجم, قبضت أمى بيدها على ريحانة من ريحانات المكان, اقتنصتها من آنية الورد, تصاعدت رائحة شوربة عدس, وأطعمة شتوية أخرى.
أغلق اللحاد باب المقبرة, عدنا بعد أن أودعنا أبى حفرة!, عدنا لنمارس حياتنا, فقط تزورنا سحابات من الدمع, وذكريات بعيدة
برق بارق فى خاطرى, سيفعلها وهى وحدها الآن. انقبض قلبى وقد اكتشفت أنى نسيت ورقة النتيجة التى تحمل تاريخ ميلادها والتى طلبت منى الاحتفاظ بها فاستوقفت تاكسيا, وعدت إليها،
طرقت الباب, عرفت صوتى, فتحت الباب وهى تسألنى لماذا عدت؟
قلت باقتضاب: نعلى تمزق فى الطريق فلم أستطع السير.
ذهبت تبحث لى عن خف لأرتديه, أحضرت عدة أخفاف كانت لأبى, قلت لها وصوتى يكاد يختنق:
نسيت الورقة.
حدقت فى عينى وهى تحبس دمعة فى عينها
قالت: أية ورقة؟
قلت وصوتى يرتعش: ورقة عيد ميلادك.
ترددت قليلا ثم أخرجتها من تحت مفرش المنضدة, كانت الورقة مبللة, وكانت عيناها ترتجفان ببقية سحب الدمع التى لم تهطل.
قدمت إليها الحافظة الجلدية الجديدة وأنا أقول: لقد عدت من أجل أن أعطيها لك فقد تخرجين غدا إلى السوق.
تساءلت: عدت من أجلها؟ أم عدت لأن نعلك مقطوع!
همست: عدت لأسباب كثيرة, وأظننى لن أعود إلى نوبة عملى الليلة.
لماذا؟
سأخبرك لاحقا
أغلقتُ النافذة, وتفحصتُ مغلاقها, أحكمتُ رتاج النوافذ كلها, طلبتُ منها بعض الملابس القديمة التى لا تحتاجها, حشرتها تحت أعتاب الأبواب, غلبت عليها دهشتها وهى تسألنى ماذا أفعل؟
قلت: سأخبرك فيما بعد.
دخلت إلى حجرة أبى, وبحثت عن نبوته الذى كان لايزال فى موضعه المعتاد, ورفعته عاليا.
قلت لها: اذهبى لتنامى فقد سهرت طويلا
قالت: وأنت؟
سأرابط أمام البيت
لمَ؟
لا أجد بى رغبة فى النوم.
توالت سحابات القلق والدمع على عينيها دون هطول, رابطت أمام البيت أتفقد النوافذ, والأبواب والجدران, أحكم الحراسة على أمى, أكفر عن ذنبى لأنى نسيت عيد ميلادها ذات يوم, لن أدع له منفذا, لن أدعه يدخل بيتنا ثانية, ولا أن يحملنا على الخروج إلى هناك, لا لن يخاتلنا ثانية, ويدفعنا إلى هذا الحوش البعيد, ونعود وبكفنا عود ريحان وحيد يذكرنا بالأحباب, بلحظة الغياب.
أقمت الليل على بابها, غافلنى النوم فنمت, أيقظتنى يد فى الصباح, تذكرت أننى حلمت على بابها بأبى, كان وجهه كالبدر فى ليلة تمامه, وكان قد مد يده لى بعود ريحان, وقطعة كبيرة من الشُريك وكأنها أنضجت للتو, كنت لا أزال أنفث من فمى خيوط الحرير البيضاء والذهبية, وأشعر بآلاف الأرجل المخشوشنة من تحتى, وظهرى نفسه يستطيل بشكل عرضى, يستحيل إلى فقرات ناعمة, أتلوى, وأتحرك ببطء, مددت فمى إلى قطعة الشُريك, وأنفى إلى عود الريحان محاولا ببركة أبى أن أعود إلى بشريتى, وأن أتخلص من مصيرى المؤلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.