الشاب النحيل يبتسم وهو يزيل الشعر عن جسدى بماكينة دقيقة وحانية، كنت ارتجف ليس من البرد، أغسطس لم يرحل بعد، بل قلبى كاد يطير منى للمرة الأخيرة، لكننى أمسكت به حين هاجمتنى عيونهم بالرجاء: لا تمت يا أبى. كنت مجرد عصا يستندون عليها أو رأى لا يؤخذ به، ومجرد أمل بعيد فى رأب الصدع. سألنى الشاب النحيل وكانت الإضاءة خافتة لا أعرف لماذا؟ هل الطائرة بدون طيار تعرف العدو وتصيبه بامتياز. وواصل بدهشة: كيف؟ ابتسامتى ميتة، كانت يد ابنى تضغط على يدى، تقوينى، هو شعر فى لحظة لا تتكرر بأننى سأموت حالا. جرى بى العامل فى طرقات المستشفى محمولاً على كرسى ذى عجلات، فيما زوجتى وبناتى يلهثن خلفى، ثم وقف الشاب فجأة أمام باب مهيب، قالت أن قلبها سيتوقف، دفعنى الشاب النحيل دفعة قوية، استقر بعدها الكرسى المتحرك بين الأطباء الذين لم أر ملامحهم، ولم يسألنى أحدهم قبل حقنة «البنج» التى ستسيطر عليّ لمدة سبع ساعات: ما اسمك ومن هم أولادك؟ هم لا يعرفون اننى كاتب، مغمور نعم، لكننى مولع بكتابة القصص، واننى حلمت بأننى سأغير العالم، نعم العالم، افريقيا وآسيا على وجه خاص. لم أر أى طقس من طقوس التخدير، لكنهم فتحوا صدرى بمنشار فطارت كل الأحلام والعصافير التى خبأتها لأكثر من ستين عاماً، وصرت قلباً فى كف طبيب. ها هى العصافير تطير وتحط على شجرة وتختفى بين خضرة أوراقها. هل أمست الدنيا يا حبيبتى؟، يدها صغيرة وباردة ووجهها شاحب، هزت رأسها نفياً. شهقت ثم قلت: أنظرى .. الشجرة كثيفة الأوراق، على فرعها يجلس الجنى، الذى لم ألحظ رجليه، لكننى لا أعرف هل كان يغنى أم يعزف؟ سألتها هل الجنى يغنى أم يعزف! لم يصدقنى أحد أنا من أرى الجنى الذى خرج من كم جلباب أبى، فاهتزت الشجرة بعنف، تناهى لسمعى صوت موسيقى تخرج من النهر، وطار ورق الشجرة الأخضر باتجاهنا، صحت: الأوراق تطير بعنف تجاهنا، أوراق الشجرة غمرتنا. لم أستطع أن أحمى ابنتى من هجوم الأوراق الحادة، ولم آخذها فى حضنى لضعف ذراعيّ، فجرت، وظلت تبكى تسعين يوماً بالتمام والكمال، وانا – كلما تيسر- أهمس لها: لم أخدعك كان جالساً على الشجرة.. فقط لا أعرف هل كان يغنى أم يعزف؟ كانت تطعمنى بيدها وتبكى رغم أنها بالملابس الرسمية، والأطباء حول سريرى ينظرون فى غيظ، أما كبيرهم فينظر متوتراً، أعرف أنى رفضت إجراء العملية وفتح صدرى وتغيير شريانى وصمامى، أعرف أننى عاندتهم بضغط الدم، والارتعاشات التى كانت مثل زلزال، ولما انتصروا عليّ رفضت أن يلموا جروحى، فدفعت كل ما أملك من دم فى نزيف متصل، وكادت تولد صرخات وعويل فى المستشفى. لابد أنها أطعمتنى بيضة مسلوقة وكوب لبن لأن الطبيب ابتسم أخيراً، ولابد أنه ربت على رأسى وألقى نظرة أخيرة على صدرى، والأنابيب الرفيعة التى نبتت على صدرى وواحدة من رقبتى، وحد هدوء مفزع على المكان الأبيض، لا أعرف كيف ركبت السفينة ثم غطست فى البحر وملأت زجاجة بالماء المالح حتى تغسل أختى عينيها بماء مالح فيختفى إحمرار جفنيها الذى لازمها حتى ماتت، وكنت على وشك الغرق استطاع جواد بنى اللون أن ينقذنى، ولما وقفت على التل رفرفت فوقى الطيور شرسة وطيبة، أدهشتنى جنينة العنب التى لعبت فيها بعد أن تركت ذيل جلباب أمى، وبعد أن غافلت الحارس المسكين أدهشنى ألوان العنب، عنب أحمر، وأزرق، وأخضر، و أصفر، العناقيد الحمراء تنفرط أمامى، العناية المركزة تغوص فى إحمرار، ثم تنزل بحركة بطيئة عناقيد العنب الصفراء، جلست على سريرى، نصف قرن وأنا يعذبنى حبى لعنب فى الجنينة، أو على التعريشة فى مدخل بيتنا القديم الذى بحثت عنه تحت الوسادة، فلم أجده، بكيت على صدر زوجتى وهى ترتعش وسألتها أين «الرموت» أريد أن أجد بيتنا القديم، قالت لى إن عفريت الحواديت أخذه وطار. هبت رائحة اليوسفى نفاذة، وقعت ثمرة يوسفى فى الطبق الصينى الذى على طرفه وردة فى طريقها للذبول، رفضت أكل الثمرة. تحت عنقود العنب الأكبر من جرس الكنيسة أخذتنى اللهفة، وجعلتنى أنظر ملتاعاً فى كل اتجاه، لو غابت عن موعد زيارتى ستغيب أبدا، ولن يستطيع أبى بكل معرفته وقوته وغموضه أن يعيدها إليّ، حاولت التذكر بصعوبة ملامحها، رأيتها تجرى باتجاهى فرحة كطفلة نحيلة بيضاء ورأيتها مشتاقة للحظة أمان كأم عجوز سيهجرها أولادها بعد موتى، لطمت وجهها فانتفضتُ، واعتبر الأطباء هذا معجزة فتركوها بجوارى فى العناية المركزة لمدة عشرين دقيقة كاملة فيها تذكرت الخوف الذى طال حياتنا، وقلت أنا العجوز سأموت اللحظة لأنها فوق احتمالى، تركتنى وسافرت، سافرت وتركتنى، بكت وسافرت، ورجعت لأنها تخشى أن أموت وحدى. خلف النعش سيضرب الجميع كفاً بكف عجباً من أمر عجوز صعد التلال، وحلم للحوارى والمهمشين وأحب الغجر، وأحب الوطن فعاش فزع الاعتقال فى الليالى الطويلة، وجرى، جرى حتى مات! وسيندهش ابنائى لأن أباهم تحدى ريحاً عاتية وحاول الصعود للشمس فى توقيت غبى. مسحت بيدى شعرها الأبيض، هدأت وفرحت وأشرق وجهها كشمس صغيرة، سألتنى إلى أين؟ أمسكت بيدها وكدت أقبل يدها، همستُ: أريد السفر. نزلت دمعة مسحتها بظهر يدها، شدتنى إلى صدرها كطفل، شممت رائحتها، طبطبت على ظهرى، وهى تدندن أغنية لفيروز حتى دخلنا شجرة كبيرة، فى جذعها دائرة مفتوحة على هيئة باب، شعرت بفرح مفاجئ بالدنيا. عندما اشتقت إلى ابنتى وخفت عليها لأننى أعرف أنها الآن تعد الكفن والشيخ وتكتب على الفيس بوك أننى مت، وأنها فى حالة من الهلع يدفعها لتمزيق فستانها، أرسلت لها ورقة استدعاء، أشرت لهم أريد ورقة وقلماً، وكتبت اسمها، فجاءت تطير تائهة تضرب صدرها، فقد ظنتها لحظة الوداع الأخيرة. حول سريرى ثلاثة أطباء، أحدهم فى غاية الدهشة، والثانى يعض شفته السفلى وهو يتمتم: كيف رجع للحياة؟ والثالث كان مجهداً ومسح فى عرق جبينه بين لحظة وأخرى، وكنت غارقاً فى ملابسى الزرقاء الخفيفة كأننى فى زرقة بحر دافئ، والبنات يتقافزن بفرح طفولى وكن يغنيين أغنية استعصى عليّ فهمها، سألت الطبيب عن الأغنية، هز رأسه ومضى. صرت وحيداً، مشكلتى أننى لا أعرف هل أتألم أم لا؟ كنت مستسلماً للموت، وأنا أرنو بشغف للحياة، وقبل أن أغفو غرد، سمعت تغريده مؤكداً، رحت أبحث عنه بعينى، حاولت عبثاً أن أرفع ذراعى للممرضة لأسألها، وادركت إلى أن اسئلتى باتت كثيرة كطفل، لفوا صدرى بالحزام الأبيض العريض، وأحسست بشدة الحزام تلمنى وتطمئننى، تمنيت الموت وأنا بينهم، ألوح لهم بيدى وأمشى، لكننى لا أستطيع أن أرفع يدى للممرضة، غرد مرة أخرى، هو إذن طائر يلعب معى، أو روح طائر أحببته ورعيته على سطح أمى، كنت أصعد على درجات السلم الخشبى إلى السطح، أحمل الماء وأصبه فى الأوعية، افتح العشش، فينطلق البط والدجاج والديك الرومى، وأدخل فى دفء العشة وأجمع البيض الساخن فى سلة صغيرة من الخوص، وكنت أمسك بيدى صغار الطيور وأحس دفئها فى صدرى، صدرى الذى فتحوه ليفتشوا عن عمرى وأسرارى وعقائدى وأحبابى ورفاقى، اطمأن الطبيب وابتسم حين وضع قلبى على الميزان مقابل الريشة، لم يطب قلبى، وأقسمت له: أننى لم أؤذ أحدا، واننى أحببت النهر الذى يجرى أمام بيتنا ولم ألوثه أبدا، اعترف أنى اسأت قليلاً، ومن أكرهه لا يستطيع أن يخمن أننى أكرهه، أبداً لم أحاول جرح الآخرين، وبعضهم رأى أن هذا ضعف وهوان، أحببت تغريدته وبحثت عنه بعينيّ فى أرجاء الغرفة الواسعة البيضاء، فنادى عليّ: أنا هنا. كان واقفاً على حامل المحاليل، وكان الأقرب لشرايينى ولم أره! وحين رأيته ابتهجت، ألوانه تحمل لى الشمس والقمر والنار والسحب البيضاء، انتفض قلبى، وطبطبت عليه، خفت أن يموت بفرحته، غرد، أعرفه، قرأت عنه فى القواميس، ورأيته فى الصور الملونة، طائر صغير فى حجم عصفورة .. رأيته فى أحلام يقظتى.. طائر الحسون. قال: نعم أنا طائر الحسون. اعتدلت فى جلستى طار وحط على السرير أمامى، تقافز كطفل يرقص على إيقاع غامض، لم أستطع أن أمد يدى لأمسكه، لم يكن يراوغنى، إنما يغرد أجمل ما سمعت من ألحان، تنصت، بدأت أفهم تغريده بل اكتشفت أننا أصحاب من زمان، رأيته مرة على شجرة بونسيانا، ومرة فى عين أمى، ومرة واقفاً على الكتاب الفخم المفتوح أمام أبى، وأبى خلع نظارته يحدق فى لون لا أدركه. عرفتك، هتفت، اهتزت الممرضة فى نومها ثم رجعت لنوم عميق. قال الحسون: جئت لك من آخر الدنيا. قلت له: الدنيا صغيرة جداً.. انظر هذه العناية المركزة كل الدنيا من أحلام وفرح وموت وحياة وعنب وشجر، وموتى يقبلون رأسك ويمضون فى خفة، غرد هز رأسه تجاه الباب، رأيتها تدخل من الباب، لم تفتحه لكنها دخلت، أختى التى أعرفها، هى فقط أكثر جمالاً فى فستان أبيض ذى ذيل طويل مثل ملكة، عندما اقتربت منى حاولت أن أمد يدى، ابتسمت ابتسامة مكسورة، تشى بملامح ألم تحملته طول عمرها، عطرها يفوح برائحة الحناء، مدت يدها على رأسى، كنت مشتاقاً لسماع صوتها فهى ماتت من زمان وصوتها مات من زمان الزمان. هل كان ممكنا يا طبيبى أن آخذها فى صدرى. غرد الحسون، روحى تهيم بألوانه، وشعرت بدفء فى ليل حالك، ابتسمت وهى تتراجع للخلف لتخرج وتبدل فستانها فصار جلبابا أعرفه ذا لون أخضر، والعقد يتلألأ على صدرها، لمت شعرها، تتراجع، خائفة أن تهزنى أنفاسها، لم تفتح الباب وخرجت. حط الحسون بجوار أذنى وأخذ يغنى وأخذت أغنى، وقلبى ينساب فى الدفء مثل قارب أبيض صغير على مقدمته طائر الحسون يغرد.. ويغرد.. ونمت. هى الليلة الأولى التى عرفت فيها أننى نمت، فى الصبح كان الطبيب ممسكاً بكوب ماء، حاول عبثاً أن يعلمنى الإمساك بالكوب وتقريبه من فمى لأشرب، التدريب الأول لعودتى للحياة، حاول ابنى ان يلف يدى حول الكوب لأقربه من فمى، لا أعرف الطريق إلى فمى، كنت فجأة انهض من جلستنا حول الطبلية، أترك الأكل، وأعب الماء المبترد من القلة الفخار، ثم أجرى للخلاء وشجرة الزنزلخت، ووابور الطحين، والنهر والطيور والنبات الصغيرات، وأطل بدهشتنى واقفاً على حافة النهر لأننى لا أعرف إلى أين تذهب المراكب. همست فى أذني: قم .. لنا .. من أجل خاطرى .. من أجل بناتك .. أمسكت بيدها بقوة حتى لا تفلت أو تضيع أو تهرب أو تسبح فى فضاء. على الجدار الأبيض طفحت وجوه الأطفال تحمل ملامح أصحاب طفولتى ورفاق صباى، قلت لها: تفرحنى أشياء بسيطة وعندى قناعات شتى، ضغطت بيدى على يدها النحيفة العجوز فامتلأ وجهها بهجة، وأخذت تطارد الأوزات، تعدو خلفهم فتثير الأجنحة خفيف التراب على وجهى، فيما هى تعدو بفرح صبية خلفها، حتى طارت الأوزات فى سماء زرقاء لها لون البحر، أمسكت بها حتى لا تختفى خلف الأوزات وهتفت أحياناً الفرح يؤدى إلى التهلكة. وصار لون الجدار أزرق، ورأيتنى أتقافز خلف تحوت الطائر الأبيض الرقيق الذى تجاوز عمره آلاف السنين، ثم بدأ يجرى ويهم بالطيران، فأجرى وألهث خلفه، أجرى، فأعطتنى الممرضة حقنة، وأنا أدعك رأسى بيدى، قلت: أريد ابنتى. كنت أريدها لأهمس لها بسر، لم أستطع نطق اسمها، حاولت الإشارة، لم يفهم ابنى، فطلبت ورقة وقلماً، احضرها ابنى الذى طار من الفرح بقوة ذاكرتى، كتبتُ اسمها بخط واضح، وتحته كتبت رسالة قصيرة باللغة الإنجليزية، لم يفهمها أحد، ولم أفهمها أنا فيما بعد، الرسالة مكتوبة بخط جميل ليس مثل خطى. جلست بجوارى، ربتت على كتفي: ماذا تريد يا بابا؟ سعدت بكلمة بابا فقد ذكرتنى بأشياء حلوة، لكننى تغاضيت عن سعادتى، وقلت: أنظرى، وأشرت على الجدار الأبيض، سألت باستغراب: ماذا؟! قلت: المراكب .. المراكب، أشرعة بألوان مختلفة .. لون الفرح، ولون الحزن، ولون الإنكسار ولون النجاح، أنظرى وتمضى مسرعة بشكل لافت .. أنا فى هذه المركب ذات الشراع الأبيض .. تمضى مسرعة .. لاترتعدى، لن أذهب إلى الغرب حيث الموتى، لا .. رأى الطبيب قلبى نظيفاً .. وأنا سمعت الحسون يغنى عن المجهول.. أنظرى .. المراكب فى سباق والنهر يفيض، وتدفع أمواجه الضعيفة الماء تجاهى أنا الضعيف الذى أتهجى الحياة .. أمسحى وجهى، الماء يبللنى .. وبدلة العمليات الزرقاء خفيفة مثل كفن ناعم.. أزيحيه عنى. أمسكتْ الفوطة وجففت وجهى وملابسى الزرقاء، فشعرت بالدفء، غطتنى، فشممت رائحة الحسون، الذى تقافز على صدرى المثقب بالأنابيب والخراطيم. قلت له: احذر .. فغرد قائلاً: لاتخف سأعلمك أغنية جديدة.