ترددت كثيراً، لا دهشة في هذا، فأنا دائماً مترددة، رأيت صورته علي صفحات موقع الفيس بوك، وأنا مدمنة فيس بوك، تشككت هل هي صورته أم صورة أحد يشبهه؟ حتي كان ذلك اليوم، عندما وضع صورة قديمة له بوصفها بروفيل جديدا لصفحته، إنه هو، إنها صورته، كان قد كتب معلقا علي الصورة: اهذه صورتي منذ ثلاثين عاماً». نعم من ثلاثين عاماً، كان لقائي به، اخترقت عيناه دمي، واخترقت عيناي قلبه. كنت طالبة في الصف الثالث الإعدادي، وكان هو مدرس الرياضيات الشاب، شكله مختلف عن باقي المعلمين، أتابعه أثناء الحصص، تكاد لا تنزل عيناي من عليه، وعندما يواجهني أشعر بأن عينيه تضحكان لي، تبتسمان وتقولان لي: اانظري وتأملي، ملي عينيك منيب. كنت أنظر إليه في تحد، وقد شعرت بأنه مرحب بهذا التحدي. ولعل هذا الذي جرأني، لكي أكتب له رسالة صغيرة علي منديل ورقي أرجواني اللون وأضعها بين صفحات دفتر الواجب. كان الفصل كله يعلم أنني أحب مدرس الرياضيات، لم أكن أخشي أحدا، كنت علي استعداد أن أقول ذلك أمام العالم كله. سحب المنديل من الدفتر ووضعه في جيبه وظل ابتسامة تكلل شفتيه، وكنت أخشي أن يحرجني، أن ينهرني أمام الفتيات وخاصة اللاتي يعرفن قصتي. لم يقل شيئاً، كنا عادة نقف خلفه أثناء تصحيح الدفاتر نكاد نلمسه من الخلف بصدورنا النزقة، ولكن من حسن الحظ، في هذا اليوم لم يكن أحد خلفه وإلا رأي المنديل والرسالة، وضع الرسالة في جيبه، وعاد في اليوم التالي وكأن شيئاً لم يحدث، كدت أجن، ألا يعيرني اهتماماً ولكن ابتسامته لي وتقبله الرحب لسهام عيني الناعستين، جعلاني أشعر بالطمأنينة، في نهاية الحصة أشار لي وقال أن أتبعه، سرت خلفه بلا وعي، قال ونحن نتمشي في الطرقة وسط الطالبات والمعلمين والمعلمات: - أريد أن أتحدث إليك. سكت، توقف بعد أن ابتعدنا عن صخب الطالبات في أقصي الطرقة المطلة علي الفناء الممتليء بالفتيات اللاهيات بالطعام والضحك واللعب، قال: - أنت فتاة صغيرة وأنا معلمك.. ومع ذلك صدقيني لا أستطيع أن أتقدم إلي أهلك، فأنا فقير، بالكاد أجد قوت يومي، لا يغرك منظري. أذهلني هذا الرد، لم أكن أفكر في الزواج، ولا خطر ذلك في بالي، أنا أحبه، أحب مدرس الرياضيات لا أكثر. لم أجد شيئاً أقوله، ربما كنت أريد أن أسمع المزيد منه، لأعرف إذا ما كان يحبني أم لا؟. طال مد الصمت، ثم قال في تردد بدا في ابتسامته الحزينة وصوته الخفيض: - ليس لدي القدرة لكي أتقدم إليك، أمامي سنوات طويلة. شعرت أنه يعاملني وكأنني زميلة له لا تلميذة، شعرت بأنني كبرت وكنت قد كبرت فعلاً، لقد قلت له كل ما أريد في رسالتي وقرأ فيها كل حرف يقول أحبك أحبك، لم يعطني الرسالة، واحتفظ بها، فسعدت بذلك، لم أطلبها منها، لم أكن أخشاه، كنت أحبه، لا أعرف كيف انتهي اللقاء، لكننا افترقنا علي صوت الجرس، لكي تبدأ الحصة الخامسة، وليدخل الجميع الفصول، المعلمون والطالبات. الآن وأنا أري صورته الشابة، أتأمل تفاصيل وجهه، إنه هو، مدرس الرياضيات الوسيم، إنه شخصية مشهورة ومعروفة. كيف الالتقاء به؟ كتبت له بعد تردد أطلب صداقته، استجاب بعد ثلاثة أيام عشتها في قلق مشوب بالندم، إنه ليس مثل الآخرين مجرد أن ترسل له فتاة أو امرأة تطلب صداقته يستجيب علي الفور، يبدي إعجابه بكل السخافات التي تنشرها علي صفحتها، أخيراً استجاب لطلب الصداقة وصرت من دائرة أصدقائه، صديقته علي الفيس، أتابعه وأتابع أخباره، مرت شهور وأنا مترددة، هل أكتب له، هل أطلب رقم التليفون؟ لكن ماذا أقول له وهل يتذكر ما حدث بيننا من ثلاثين عاماً؟ هل سيعرفني؟ أخيراً كتبت وأرسلت عبر الماسينجير: - ممكن أتكلم مع حضرتك. - ممكن، تفضلي مرحباً بك. -.... - سنة 87 - أهلا بك. معقول.. أرسلت له صورته الشابة، كنت قد نسختها من علي صفحته واحتفظت بها، صورة لشاب يرتدي تيشيرت أبيض في لبني ويمسك بقلم ويضع يده علي خده، قلت بعد أن وصلت الصورة: - دا شكل حضرتك أيامها. - تمام. كانت أياماً جميلة. - فعلاً. حضرتك كنت لسه خريج جديد. - نعم. - كنت بسأل عن حضرتك علي طول. -.... - وكان نفسي أشوفك. - الله يخليك. وحضرتك، أين تعملين الآن؟ - في قسم التوريدات. كذبت عليه هذه المرة. فأنا لا أعمل في قسم التوريدات، أنا أعمل مدرسة لغة إنجليزية، صمت ولم يرد. فأكملت، وأنا أقول الحقيقة هذه المرة: - في المجمع التعليمي. فقال في براءة: - إن شاء الله في أول زيارة للمجمع سأري حضرتك. - كنت عايزة آخد رأي حضرتك في موضوع. - تفضلي، تحت أمرك. - لي بنت في الصف الثالث الإعدادي وتحب معلمها، لا أعرف ماذا أفعل معها؟ لم يرد، طال الصمت، فأكملت: - أنا قلت حضرتك بخبرتك أكيد مرت عليك حاجات زي كده. عند ذلك أسرع بالرد: - مرت علي حاجات زي كده فعلاً، وحل المشكلة في إيد المعلم. - كيف؟ - عليك أن تلتقي المعلم وتقنعيه أن يبتعد عن البنت بشكل لائق دون أن يجرح مشاعرها. - هوحضرتك حصل معاك - شخصياً -- شيء مثل هذا. - تقريباً. - وماذا فعلت؟ - تحدثت مع الفتاة وقتها علي ما أتذكر. - طيب. حضرتك مازلت تتذكرها؟ - كانت بنت جميلة. واسمها علي ما أتذكر سلوي. كانت كاتبة رسالة علي منديل ورقي معطر وسط الكشكول. لا أتذكر الرسالة ، لكني أتذكر جيداً جمال عيني الفتاة ونظرات الحب المشعة في عينيها. - أنا هي. - معقول. - نعم. - هذه الدنيا الصغيرة جداً. نعم هذه الدنيا صغيرة جداً. - ليس لي بنت في الصف الثالث الإعدادي، لكنني كنت أريد أن أعرف إذا ما كنت فاكرني أم لا؟ فقال بعد تردد، لعله ذهل من هذه الحقيقة. - تمام، لا أنسي المشاعر النبيلة. هل كانت مشاعره نبيلة حقاً؟ لكن أي نبل يقصد؟ النبل عندي هوأن يكون قد أحبني مثلما أحببته لا بل عشقني مثلما عشقته. تري لو رآني الآن وأنا أجر خلفي أربعا من البنات، تركهن لي زوجي هجرا، أو من كان زوجي، لأنني لم أنجب له ولدا يحمل اسمه، ماذا سيفعل؟ هل سيظل يحبني؟ هل تصمد مشاعره النبيلة؟ وهل تصمد مشاعره النبيلة إذا عرف أنني قضيت ستة أشهر في مصحة نفسية قبل طلاقي بأيام قليلة؟ لا أظن. لكن سيبقي حبي له حتي الموت، ولكي أحتفظ بهذا الحب، لن أسمح له برؤيتي، لن ألتقي به، علي الرغم من رغبته في ذلك - وإن لم يصرح بها - وسيبقي حبي صامتا إلي الأبد. لكن هل مازال يحتفظ برسالتي؟ هل مازال يحتفظ بذلك المنديل الورقي الأرجواني المعطر؟ هب أنه قد احتفظ به، هل يبقي اللون؟ وهل يبقي العطر؟ وهل تبقي الكلمات؟ لا أريد إجابة.