سبيل أم محمد الصغير تحفة فنية تحول إلى شقق ومحلات للإيجار! إقبال الزائرين على سبيل قايتباى يقل بعد أن أصبح الدخول إليه بتذاكر كانت تلك إحدى وسائلهم للتقرب إلى الله.. إنشاء سبيل يروي منه الناس ظمأهم.. كان مماليك مصر وولاتها وأثرياؤها يرونها صدقة جارية، وتخليدا لأسمائهم وجانب الخير فيهم، وقبل أن تمتد شبكات المياه العذبة في شوارع القاهرة لتروي ظمأ سكانها، كان السقاءون يجلبونها من النيل ليبيعوها للأهالى.. لذا كانت فكرة إنشاء سبيل يمد الناس بالمياه النقية للشرب كوقف خيري من الأفكار المحببة لدى وجهاء المحروسة، وطمعاً فى أن يجزيهم الله عنه خيراً في الآخرة، بالإضافة إلى تخليد ذكراهم بالدعاء المستمر لهم بعد وفاتهم، وظهرت الأسبلة في القاهرة للمرة الأولى في القرن الرابع عشر الميلادى، وما كانت مجرد أسبلة تروي عطش الظامئين بالمياه العذبة.. فقط، بل ألحقت بها مشاريع لري ظمأ العقول إلى المعرفة خاصة الدينية.. كتاتيب ومدارس ومساجد، ويجسد السبيل الطراز المعمارى فى العصر الذى شيدت فيه فما هى تلك الأسبلة وكيف يتم الحفاظ عليها وخاصة بعد أن طالتها يد الإهمال هذا ما نتعرف عليه خلال سطور التحقيق التالى.. في مقابل جامع الفتح عند نهاية شارع الجمهورية والتقائك بشارع رمسيس سيخطف نظرك وجود مبنى أثري على شكل نصف دائرة ملىء بالنقوش واللوحات الرخامية والنحاسية وسط مباني سكانية ،وثمة لوحتان كبيرتان من النحاس يسجلان تاريخ المبنى، إنه سبيل »أم محمد علي الصغير«، أنشأته السيدة زيبا قادرين على روح ابنها الأمير محمد علي الصغير ويقع به ثلاثة مداخل رأسية فى أولها فتحة باب ذات مصرع خشبى واحد تزينه زخارف هندسية إسلامية مذهبة، يعلوه لوحة دائرية معدنية، يليها بروز حجرى على هيئة نصف دائرة، اختفى ملاحمه مع الزمن وتغير لون الرخام الأبيض بعد تعرضه للحريق في شهر رمضان الماضي مما تسبب في فقد جزء كبير من رونقه وحجب جدرانه بالسواد. الزمن جار عليه حكايات يرويها أحد الجالسين أمام السبيل متأملا حاله المثير للحزن، مع تعرضه للاهمال، محمود محمد من أهالي المنطقة يقول: السبيل كان تحفة فنية في الماضى، كان يخطف أنظارك وأنت تسير في شوارع رمسيس، وكان منبعاً للماء النقي لأى عابر سبيل أو مغترب يقصده من تعب الطريق، ولكن جار الزمن عليه وتعرض لإهمال جسيم، ولا يلتفت إليه أحد، حيث كان يلحق السبيل بكتاب وغرف داخلية، تحولت مع الوقت لشقق إيجار ومحلات قضت على ما تبقى من أهمية للسبيل، وحصرت أثريته وتاريخه في الوجهة الخارجية فقط، ! ويتساءل محمد محمود: «لو السبيل دا كان في أوروبا.. كانوا هيهملوه بالشكل دا!.. طبعا كانوا هيهتموا به ويحولوه لمزار يؤمه ملايين السياح! الأوقاف مسؤولة! ويؤكد عم جرجس - أحد العاملين بالقهوة- على الأهمية التاريخية للسبيل، وكان يضم العديد من الآبار ذات الماء النقي حيث يوجد بالدور الأول خزان كبير للمياه يتصل بالنيل، ولكن مع الازدحام السكاني ودخول المياه إلى السكان تم قفل السبيل وردمه وانتقلت تبعيته إلى وزارتي الأوقاف والأثار، بس هم أجروا الغرف والمحلات للناس بدل ما يحفظوا عليه وبقى محدش يعرف عنه حاجة وشققه الأربعة تعرضت لحريق في رمضان الماضي وتسببت في تخريب السبيل من الداخل، بالإضافة إلى بعض الورش ومحلات الأحذية وتأجير مدخله إلى مكتب توزيع صحف وكتب تابع لإحدى المؤسسات القومية، والذي أضاعت جمال بابه المزخرف وأخفته وسط الكتب والورق. وأضاف عم جرجس أنه رغم اختفاء معظم ملامح السبيل ورونقه وسط ضجيج وازدحام الشوارع وأصوات السيارات المزعجة وموقف الميكروباصات الذي يزيد من الأمر سوء، إلا أن به روح تجعلك تشعر بالراحة بجانبه، ويتميز باعتدال جوه فهو في موقع متميز جداً لا تشعر فيه بحاله الطقس» تكييف ربانى ويرجع ذلك السر إلى دعاء عابري السبيل الذين كانوا يدعون لصاحبه حتى أحلت عليه البركة. «أم عباس» لا يقل سوءا «الأخبار المسائى» انتقلت إلى سبيل أم عباس في السيدة زينب بحي القلعة والذي لا يختلف كثيراً عن حال سبيل «أم محمد» من حيث الإهمال وتراكم أكوام القمامة بجانبه في مشهد يرثى له، وشيد السبيل على يد السيدة «بنبا قادن» وهي زوجة الأمير «أحمد طوسون باشا» ابن محمد علي عام 1867 ميلادياً، على روح ابنها طالبة الدعاء والثواب له، وقد قام بتصميم السبيل مهندس تركى على الطراز العثماني والأوروبى في نفس الوقت والحق به كتاب ومدرسة حكومية لِتعليم الأطفال العلوم الحديثة. يقول محمود إسماعيل -صاحب مطعم- أمام السبيل إن السبيل حالته تتدهور كل عام، حيث لا يوجد من يهتم به رغم أنه مسجل لدى وزارة الاثار كأثر إسلامي لكن «لا حياة لمن تنادي «في إشارة إلي صناديق القمامة التي توجد أمامه في شكل عشوائي يمحي تاريخه العريق، وتختلط بالمنظر الجمالي للسبيل المتزين بكلمات الخط العربي الأصيل ولونه الرخامي الأبيض، مع زخرفته بالنحاس والنقوش الفنيه، مستطرداً إن السبيل كان ملحقاً به كتاب ودار أيتام ومدرسة حكومية ليكون منشأة متكاملة الأركان، لكن لا أحد يهتم به يإتي إليه مجموعة من رجال وزارة الأثار لتنظيف هذه النقوش من الخارج وتلميع الرخام الذي أخذ في الإصفرار نتيجة عوامل الجو. ويوضح محمد عثمان صاحب- محل جزاره -إن السبيل كان يتبع الحزب الاشتراكي أيام جمال عبدالناصر وكان مقراً للحزب في هذه الفترة، ثم نقلت تبعيته إلى وزارة الأثار لأهميته، وكان به جزء مخصص لري عطش عابري السبيل مكونة من أكواز فضة، وكانت أبوابه مفتوحة إلا أنها سرعان ما أغلقت بعد تسجيله كأثر دون النظر إليه كمبنى من الممكن أن يأتي إليه السياح ويكون مزاراً، ورغم أنه يوجد مقر لوزارة الأثار بجانبه إلا إنه أصبح مكاناً مخصصاً للقمامة. سبيل قايتباي الأهم.. الأقدم ويعد سبيل قايتباي واحد من أهم وأقدم الأثار الباقية من العصر المملوكي الموجودة بمنطقة مصر القديمة، وله واجهاته التي تحتوي على زخارف فائقة الجمال، وهو من الأسبلة المفتوحة للزيارة على غير باقي الأسبلة الأخرى، حيث تم تجديده وترميمه من قبل وزارة الأثار عام 1996 ولكن الأهمال يضرب كل شىء كالعادة فتم محو بعض النقوش الأثرية الإسلامية أثناء الترميم لتكميل الشكل العام بألواح من الرخام دون الالتفات إلى أهمية ذلك النقوش. وتم بناؤه عام 1484 ميلادياً على يد السلطان قايتباي ولكنه يختلف عن باقي الأسبلة الأخرى، حيث لم يلحق به مدارس أو أي مشروعات أخرى كنيه خالصة لكي يسقي كل من يمر من عطشي الطريق، ويتكون من ثلاثة أدوار أحدها كان مزوداً به أحواض ومربوط بأكواز من الفضة لكي يشرب منها الناس والآخر يوجد به لوح رخامي يسمى «الشاذروان» وهو ذات فائدة مزدوجة الأولى تبريد المياه للشرب والثانية تنقية المياه من الشوائب إن وجدت، «حسبما قالت نعمة مفتشة أثار بسبيل قايتباى». وتقول هويدا مشرفة السبيل إن عدد الزيارات قلت كثيراً بعدما تم دخول السبيل بتذاكر عقب ترميمه وفتحه عام 2001 حيث كان حاله قبل الترميم متهالكاً جداً وكان مكاناً للخردة وأى شىء غير صالح للاستخدام وكان قد أوشك الأثر على اختفاء معالمه الأثرية من شدة الاتساخ والأتربة التى تكسوه وتختبئ بداخل نقوشاته، كما أن لافتته الخشبية تآكلت وتكاد تسقط من صدأ مساميرها. سبيل محمد علي في خطر ويرجع تاريخ سبيل محمد علي باشا إلي عام 1820 ويعد قيمة معمارية عظيمة حيث بناه على روح ابنه طوسون أعز أبنائه بعد وفاته بمرض الطاعون وشيد على الطراز الأسطنبولى بعدما تأثر محمد علي بالفن المعماري حينا ذاك، فالرخام مستورد من تركيا، والشبابيك مدهّبة، وواجهة السبيل من الرخام الأبيض أُلصقت عليها شبابيك من النحاس والرسومات بأشكال زخرفية، يعلو كل شباك لوحة رخامية مكتوب عليها أشعار تركية مترجمة إلى العربية. ويقول عباس محمد أحد سكان المنطقة، إن سبيل محمد علي حالته تدهورت رغم ترميمه وافتتاحه عام 2004، لكن وجود مياه جوفية وعوامل الزمن عملت على تشقق جدرانه، كما أنه لا يوجد اهتمام به من قبل وزارة الأثار، رغم كونه تحفه معمارية عظيمة يقصدها السائحون حباً في معرفة كل ما أنشأه محمد علي في مصر، إلا أن أعين الوزارة مقتصرة على الأماكن السياحية المعروفة «محدش بيروج للسبيل وكأنه مش موجود» مستكملاً إن هناك الكثير من الناس لا تعرف ما هذا المبنى ولمن يعود وما تاريخه. ويضيف مصطفى أحمد أحد الباعة الجائلين أمام السبيل إن ألوان السبيل الزاهية من الرخام الأبيض والنقوش تتعرض للبهتان بمرور الوقت مع عدم اهتمام وزارة الأثار بالسبيل، حيث لا يوجد من يحميه، كما إن حالته من الداخل أصبحت متدهورة ترى أجزاء من جدرانه بها شقوق واضحة والبعض الآخر متأكل بفعل عوامل الرطوبة، ولا يوجد ترميم أو صيانة له. «مولد وصاحبه غايب» هكذا وصف -عم محمد - أحد سكان منطقة العقادين الذي يقع به سبيل محمد علي باشا المشهد أمام السبيل، حيث يضع الباعة الجائلون بضاعتهم على أسواره بالإضافة إلى حصار السبيل بالعشرات من الباعة الجائلين الذين حولوا المنطقة إلى سوق للخضراوات والملابس والأحذية ،مما يخفي مظهره الجمالى ونفور السائحين من زيارته. وأشار عم محمد إلى انتشار القمامة الناتجة عن السوق، وقهوة بلدي على باب السبيل الأثري لتكتمل ملامح الصورة القبيحة للسبيل . معاون وزير الأثار: اقترحنا تحويل الأسبلة لنوادى ثقافية لأطفال المناطق المحيطة والسؤال الذى يطرح نفسه هو أين وزارة الأثار من هذا الإهمال والفوضى اللذين تتعرض لهما الأسبلة، «الأخبار المسائى» التقت بالدكتور محمد عبدالعزيز معاون وزير الأثار للقاهرة التاريخية الذي أوضح أن مباني الأسبلة والتي في أغلبها أعمال معمارية فنية تقترب من أن تكون أعمالا نحتية عمرانية صغيرة في الحجم والمقياس ومتميزة في الشكل والزخارف والتفاصيل، خالية ولا تستخدم ،ونتيجة لهذا تعرض عدد كبير منها للتدهور الإنشائي والمعماري أو للتعديات والإشغالات غير المناسبة والتي أدت إلى تدمير أجزاء من هذه المباني المهمة، الأمر الذي دفع بوزارة الآثار إلى ترميم عدد كبير من مباني الأسبلة لاسترجاع الصورة الأصلية الجميلة التي كانت عليها. ويستطرد دكتور محمد عبدالعزيز: من أجل إحياء الوظيفة الأصلية لمباني الأسبلة تم ترميم العديد منها وفقا للأساليب العلمية الحديثة، حيث تمت دراسة هذه المباني من الناحية المعمارية، كالفراغات الداخلية فيها، وأبعادها وطبيعتها ومقاييسها، والناحية الإنشائية كالأعمال الجديدة التي يمكن للمبني أن يتحملها، والخدمات الملحقة بالمبني كالسلالم والمداخل والمخارج، وكيفية الاستفادة منها واستخدامها، والطابع المعماري للمبنى وعلاقته بالمحيط الحضري. كما تمت دراسة الاحتياجات التخطيطية للمنطقة المحيطة بكل سبيل، ونسبة الأطفال المقيمين في المنطقة، والمدارس التي تخدمهم ونتيجة لهذه الدراسة فقد تم اقتراح توظيف مبانى الأسبلة كنوادي ثقافية تكون بمثابة مراكز تخصصية للتنمية الثقافية وتوعية الطفل في القاهرة التاريخية، وتستهدف أطفال المجتمع المحلي بمراحل التعليم الابتدائية، وذلك بالتنسيق مع المدارس التي يتعلم بها أطفال المنطقة، ومن هنا فإن وجود النوادي الثقافية في القاهرة التاريخية يعتبر ليس إحياء لمباني الأسبلة فحسب بل أيضاً تلبية للاحتياجات المحلية المعاصرة من هذه الخدمات.