الأزهر ينفي تشكيل لجنة فتوى مع الأوقاف    عمرو أديب: قانون الإيجار القديم سيظلم أحد الطرفين وهو المستأجر    مصدر ل «المصري اليوم»: الزمالك تواصل رسميًا مع طارق مصطفى لخلافة بيسيرو.. والمدرب يبدي موافقته    هل يجوز الحديث مع الغير أثناء الطواف.. الأزهر يوضح    الحكومة تصدر بيانا بشأن "البنزين المغشوش" في محطات الوقود    رغم هطول الأمطار.. خبير جيولوجي يكشف أسباب تأخير فتح بوابات سد النهضة    5 مرشحين لتدريب الزمالك حال إقالة بيسيرو    مدرب سيمبا: خروج الزمالك من الكونفدرالية صدمة كبرى فهو المرشح الأول للبطولة    تشكيل إنتر ميلان المتوقع أمام برشلونة في موقعة الإياب بدوري أبطال أوروبا    إحالة سيدة احترفت سرقة متعلقات المواطنين بمدينة الشروق إلى المحاكمة    ارتفاع كبير ب400 للجنيه.. مفاجأة في أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة (محليًا وعالميًا)    موجة حارة.. بيان مهم ل الأرصاد يكشف طقس اليوم الثلاثاء 6 مايو (احذروا الشبورة)    تامر حسني ومصطفى حجاج يشعلان حفل زفاف رنا رئيس    مش غارة إسرائيلية، أسباب انفجارات واشتعال النيران بمدينة حلب السورية (فيديو)    جموع غفيرة بجنازة الشيخ سعد البريك .. و"القثردي" يطوى بعد قتله إهمالا بالسجن    هل يشارك ترامب في جهود وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس؟    إسرائيل تستعد لغزة ب«عربات جدعون»    العالم بعد منتصف الليل.. سلسلة انفجارات تهز حلب.. وقصف خان يونس (فيديو)    شريف فتحي يقيم مأدبة عشاء على شرف وزراء سياحة دول D-8 بالمتحف المصري الكبير    الحوثيون يتوعدون تل أبيب برد قوي على القصف الإسرائيلي لليمن    تشمل السعودية والإمارات وقطر.. جولة لترامب بدول الخليج منتصف مايو    جوتيريش يحث الهند وباكستان على "التراجع عن حافة الهاوية" ويحذر من التصعيد العسكرى    وزير وفنان وطالب :مناقشات جادة عن التعليم والهوية فى «صالون القادة»    مؤتمر منظمة المرأة العربية يبحث "فرص النساء في الفضاء السيبراني و مواجهة العنف التكنولوجي"    "READY TO WORK".. مبادرة تساعد طلاب إعلام عين شمس على التخظيظ للوظيفة    التعليم توجه بإعادة تعيين الحاصلين على مؤهلات عليا أثناء الخدمة بالمدارس والمديريات التعليمية " مستند"    وكيل كولر يتحدث لمصراوي عن: حقيقة التقدم بشكوى ضد الأهلي.. والشرط الجزائي بالعقد    فرط في فرصة ثمينة.. جدول ترتيب الدوري الإنجليزي بعد تعادل نوتنجهام فورست    لتفادي الهبوط.. جيرونا يهزم مايوركا في الدوري الإسباني    قابيل حكما لمباراة سموحة والطلائع.. ومصطفى عثمان ل زد والاتحاد    نائب وزير السياحة والآثار تترأس الاجتماع الخامس كبار المسؤولين بمنظمة الثمانية    محافظ الغربية: لا تهاون في مخالفات البناء.. واستعدادات شاملة لعيد الأضحى    رابط النماذج الاسترشادية لامتحان الرياضيات التطبيقية لطلاب الثانوية العامة 2025    أرقام جلوس الثانوية العامة خلال أيام :تقليص عدد اللجان ومنع عقدها فى «مقرات الشغب» بالسنوات السابقة    مصرع طالب في حادث مروري بقنا    اليوم.. محاكمة نقاش متهم بقتل زوجته في العمرانية    سعر الخوخ والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الثلاثاء 6 مايو 2025    إيناس الدغيدي وعماد زيادة في عزاء زوج كارول سماحة.. صور    سفيرة الاتحاد الأوروبى بمهرجان أسوان لأفلام المرأة: سعاد حسنى نموذج ملهم    أصل الحكاية| ديانة المصريين القدماء.. حتحور والبقرة المقدسة بين الرمز والواقع    مصر للطيران تلغي رحلاتها اليوم إلي بورتسودان وتوجه نداء لعملائها    "كتب روشتة خارجية".. مجازاة طبيب وتمريض مستشفى أبو كبير    احترس من حصر البول طويلاً.. 9 أسباب شائعة لالتهاب المسالك البولية    10 حيل ذكية، تهدي أعصاب ست البيت قبل النوم    رنا رئيس تتألق في زفاف أسطوري بالقاهرة.. من مصمم فستان الفرح؟ (صور)    4 أبراج «ما بتتخلّاش عنك».. سند حقيقي في الشدة (هل تراهم في حياتك؟)    رسميًا.. جداول امتحانات الفصل الدراسي الثاني 2025 بالجيزة (صور)    عيار 21 الآن بعد الزيادة الجديدة.. سعر الذهب اليوم الثلاثاء 6 مايو في الصاغة    "كاميرا وروح" معرض تصوير فوتوغرافي لطلاب "إعلام بني سويف"    على مساحة 500 فدان.. وزير الإسكان يتابع الموقف التنفيذي ل "حدائق تلال الفسطاط"    تطور جديد في أزمة ابن حسام عاشور.. المدرس يقلب الموازين    ضبط طفل تحرش بكلب في الشارع بالهرم    جاي في حادثة.. أول جراحة حوض طارئة معقدة بمستشفى بركة السبع (صور)    هل ارتداء القفازات كفاية؟.. في يومها العالمي 5 خرافات عن غسل اليدين    أمين الفتوى يوضح حكم رفع الأذان قبل دخول الوقت: له شروط وهذا الأمر لا يجوز شرعًا    الإفتاء توضح الحكم الشرعي في الاقتراض لتأدية فريضة الحج    الدكتور أحمد الرخ: الحج استدعاء إلهي ورحلة قلبية إلى بيت الله    شيخ الأزهر يستقبل والدة الطالب الأزهري محمد أحمد حسن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسبلة ليس لها حظ 1 2
الباعة يحاصرون سبيلي "محمد علي" و "نفيسة البيضا".. والأسلاك الشائكة تحيط ب "رقية دودو"
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 06 - 2016

سبيل محمد على بالعقادين "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ". لا أعرف إن كان للمعماريين قديماً مغزي محدد من وضع هذه الآية القرآنية من سورة الأنبياء علي مدخل أي سبيل، أم أنها جاءت لتعلن عن هوية المبني، لا أكثر. كنت أفكر في ذلك حين هبطت إلي صهريج أحد الأسبلة لاكتشافه من الداخل. شعرتُ كأنني أهبط إلي مقبرة. كان مظلماً، شاسعاً، يرد إليّ كلماتي، وأنفاسي أيضاً. لم يكن هناك - بالطبع - نقطة مياه واحدة في الصهريج. كان عطشاً إلي كل شيء. فقد ظلت الأسبلة في القرون الماضية تروي ظمأ المارة، وتسر أنظارهم، إذ أنشأها الأثرياء من أهل الخير لهذا الغرض، أملاً في التقرب إلي الله وكسب رضاه. أما الحكام فكانوا يهدفون من بنائها التقرب إلي الناس وكسب ولائهم. وعلي أي حال، حظيت الأسبلة بالعناية الفائقة من حيث اختيار الموقع وإتقان البناء والزخرفة المعمارية.
وقد شهدت مصر خلال تبعيتها للحكم العثماني (1517: 1798م) ارتفاعاً في عدد الأسبلة وصلت إلي ثلاثمائة، غلب علي كثير منها الطراز المحلي المملوكي، وفق ما أوضحه أستاذ الآثار الإسلامية الدكتور محمود حامد الحسيني، في كتابه (الأسبلة العثمانية بمدينة القاهرة)، الذي ذكر فيه أن غالبية هذه الأسبلة تعرضت للاندثار، ولم يبق منها سوي 70 سبيلاً. كما ذكر أن عمارة السبيل كانت تتركز لفترة طويلة علي قاعدة أساسية، وهي تخصيص بناء بباطن الأرض لتخزين المياه، يعلوه مباشرة بناء آخر لتسبيل هذا الماء علي المواطنين، لكن مع الوقت ألحق المنشئون طابقاً ثالثاً فوق السبيل، عُرف باسم الكتاب، لتعليم أيتام المسلمين. وهذا الطابق لا يدخل ضمن مكونات السبيل، وذلك في حال اعتبار السبيل منشأة خاصة بالشرب وتسبيل الماء فقط.
لذا أصبح المتعارف عليه أن عمارة السبيل تتكون من طابقين؛ الطابق الأول يُعرف بالصهريج المخصص لتخزين المياه، وهو إما أن يكون كبيراً أو صغيراً بحسب حجم المنشأة وقدرة المنشئ المالية والمساحة المخصصة أيضاً. وقد اتخذ شكلاً ثابتاً قريباً من المربع أو المستطيل ومغطي بقباب غير عميقة محمولة علي عقود ترتكز علي أعمدة. ولكل صهريج خرزة من الرخام أو الحجر مثل خرزة البئر. أما الطابق الثاني يشُيّد علي مستوي الأرض أو فوقها بقليل، ويتم الدخول له غالباً من مدخل مشترك وباب منفصل، ويتكون من حجرة للتسبيل، والتي خضعت لظروف عديدة منها الموقع، والمساحة المخصصة، والتيارات الفنية المختلفة، بالإضافة إلي التأثيرات الخارجية الوافدة، ما أدي إلي اختلاف أشكالها وأنماطها من وقت لآخر، ومن سبيل لآخر.
وفي تشغيلها، استخدمت الأسبلة معدات وأواني مختلفة، منها حبال متينة من ليف النخيل أو الكتان لرفع الماء من الصهريج، وأدلية من الجلد وبكر وسفنج وبخور لتبخير الأواني، وماء ورد يضاف إلي ماء الشرب، ومكانس وأسطال وكيزان نحاس وأباريق وقلل من الفخار. وكانت هذه الأدوات تحفظ في حجرة خاصة، أو في دواليب حائطية بحجرة التسبيل. وكان المسئول عن حفظها ونظافتها المزمامتي، موظف السبيل. أما واجهات الأسبلة فقد تميزت بالأعمدة الرخامية المزخرفة بالبرونز المذهب، والشبابيك المرتفعة.. المزخرفة أيضاً، والجدران التي نُقش عليها أشعار وعبارات تعلن عن اسم المنشئ، كي يدعو له كل من يشرب من سبيله، حيث تركزت وجودها في المناطق الآهلة بالسكان والأسواق والأحياء التجارية والصناعية، ويظهر ذلك جلياً في لوحات الرحالة والرسامين القدامي، التي عكست طبيعة الحياة حينها، وانتشار الباعة والفقراء أمامه.
من بين هذه المناطق، شارع المعز لدين الله الفاطمي، الذي يقع في منطقة الأزهر بالقاهرة الفاطمية. ويمتد من باب الفتوح إلي باب زويلة. إذ يضم عدداً من الأسبلة التي تم ترميمها مع باقي الآثار الإسلامية الأخري الموجودة في الشارع، الذي أُفتتح في فبراير عام 2008 ورغم أن هذه الأسبلة حظيت بنفس الاهتمام من الدولة، لكنها لم تحظ بنفس التوهج فيما بعد. ويمكن القول إن شارع الأزهر الذي يشطر "المعز" إلي نصفين حدد نصيبها من اهتمام الناس بها. إذ تتمتع الأسبلة الموجودة في النصف الذي يبدأ من باب الفتوح حتي منطقة الصاغة، وهي سبيل خسرو باشا، وسبيل أغا السلحدار، وسبيل عبد الرحمن كتخدا، وسبيل محمد علي بالنحاسين، بإقبال من السياح والمواطنين، بجانب إدراك الأهالي وأصحاب المحال التجارية بقيمتها، فلا تجد أحداً من الباعة يقبع أمامها ولا ملابس مُعلقة علي جدرانها.
أما الأسبلة التي تقع في النصف الآخر من الشارع، والذي يبدأ من مسجد ووكالة الغوري حتي باب زويلة، فحظها سييء، لسببين، أولهما أن كثيراً من المارة والعابرين والمترددين علي المنطقة لا يعرفون أن هذا الجزء يتبع شارع المعز ويضم آثارا إسلامية هامة، ثانيهما أن محال الملابس تتكدس بشكل هائل، وتجذب إليها محدودي الدخل الذين لا ينتبهون - في الغالب - إلي المباني، بل إلي الأسعار الزهيدة. وسط كل هذا الزحام كان طبيعياً أن تضيع هذه الأسبلة، ويخفت بريقها. مثل سبيل محمد علي باشا والي مصر (آثر رقم 401) الذي يقع علي رأس حارة الروم، أو كما اعتاد أن يقولوا "يقع بالعقادين". وهو السبيل الثاني الذي يحمل اسمه في شارع المعز. أنشأه محمد علي سنة (1236ه/ 1820م)، علي روح ابنه الأمير إبراهيم طوسون باشا (1794 - 1816) والذي مات متأثرا بمرض الطاعون. وتم ترميمه في أربع سنوات من عام 1998 حتي عام 2002 بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.
يتفرد هذا السبيل بطرازه وموقعه الفريد. فقد أحضر له محمد علي حرفيين ومواد بناء خاصة من أسطنبول لنقش الرسومات وتشييد الواجهة المقوسة المكسوة بالرخام وبناء القبة الخشبية ذات الطبقتين. ومع استبعاده للفن المعماري المحلي، استحدث محمد علي طرازاً معمارياً جديداً سيطر علي الفن المعماري للقاهرة لمدة طويلة، والذي استوحاه من فن اسطنبول المعماري. وقد كان هذا السبيل ذو الزينة الفاخرة بداية الإعلان عن السلطة السياسية الجديدة التي أراد أن يرسي قواعدها في مصر. ويتكون السبيل من صهريج ضخم، يقدر عمقه بتسعة أمتار، وهو مغطي بثماني قباب حجرية وجدرانه مبطنة بمونة مقاومة للماء، شبيهة بتلك المستخدمة في المباني القديمة. وتصل سعة الصهريج إلي 455 ألف لتر، تعادل حوالي مليون ونصف كوباً من الماء. أما غرفة التسبيل فتضم خمسة شبابيك من النحاس المصبوب بأشكال زخرفية. يعلو كل شباك من الخارج لوحة رخامية تحتوي علي أبيات لشاعر مجهول مكتوبة باللغة التركية تمدح في السبيل ومؤسسه وتذكر فضائل الماء. تعلو هذه اللوحات زخارف مورقة يتوسط بعضها صرة والأخري (ما شاء الله).
لم يُلحق بالسبيل - الذي يعتبر نسخة كلاسيكية لطراز الباروك العثماني - كُتاب مثل غيره من الأسبلة التي أنشئت في تلك الفترة، إنما الحقت بها مدرسة، فمن بين عام 1828 و1831 أُضيفت الحجرات الموجودة بالطابق العلوي، وفي عام 1836 أي بعد مضي فترة قصيرة علي إصلاحات محمد علي التعليمية أُجريت تعديلات أخري، وتشهد بذلك لوحة رخامية كبيرة مثبتة علي واجهة المبني. وفي عهد الخديو إسماعيل أعيد افتتاح المدرسة وأصبح هناك ستة معلمين يدرسون اللغة العربية والخط واللغة التركية والحساب والقرآن. ثم سرعان ما أضيفت إلي هذه المواد الجغرافيا والرسم واللغة الانجليزية. واتبعت المدرسة برنامج الامتحانات العامة وكان علي الطلاب اجتياز اختبار طبي كل ثلاثة أشهر. وفي الثلاثينات من القرن العشرين وبعد أن أصبحت المياه تُضخ لتصل إلي هذه المنطقة توقف استخدام السبيل وأصبح مدرسة للبنات، التي استمرت في العمل إلي أن وقع زلزال عام 1992، حيث تم نقلها إلي مكان آخر.
لم يمنع معرفة الأهالي والباعة الجائلين الذين يحاصرون سبيل محمد علي، لكل هذه المعلومات، التي تدونها وزارة الآثار بالكامل في حجرة التسبيل، من وجودهم أمام السبيل. وعرض منتجاتهم المختلفة. يستوقفني أحدهم، وأنا التقط صوراً لقبة السبيل التي تتوسطه هلال مطلي بالذهب، راجياً أن أصوره بجوار طاولته التي تحتوي علي ملابس داخلية. كأنه يريد أن يؤرخ لوجوده أمام السبيل، كما فعل غيره من الباعة في القرون الماضية. دون استيعاب منه أن السبيل تحول من مجرد مبني يمد الناس بالمياه، إلي أثر. ما جعلني اعتبر طلبه هذا تحديا، ورفضاً للرحيل. وعندما أردتُ منه أن يحدثني عن وجودهم هنا، أشار إلي ابنه محمد صالح الذي ينصب طاولته لبيع ألعاب الأطفال بجواره، ليتحدث بدلاً منه. يقول الرجل إن وجودهم لا يمنع من زيارة السياح للآثر، لأنهم يدركون طبيعة المكان التجارية، وإنهم كانوا يمتلكون أكشاكاً لكن الحكومة أزالتها في سنوات الترميم، ولم تعوضهم عنها ، وإنهم يتعرضون من حين لآخر لمضايقات من الحي، الذي يتركهم بحريتهم في المواسم. تتنوع بضائع الباعة الذين يصل عددهم إلي خمسة أمام السبيل، ويبيع أحدهم مثلاً البطيخ، ويعد آخر السندوتشات السريعة للمارة، فبعد أن كانت رائحة الورد تفوح من السبيل، صارت رائحة الكبدة ما تميزه اليوم.
لا يختلف حال سبيل نفيسة البيضا (أثر رقم 358) عنه كثيراً، والذي يقع علي بعد خطوات قليلة، أمام مسجد المؤيد، وبجوار باب زويلة، إذ يحجز اثنان من الباعة مكانهما بشكل يومي أمام السبيل. يقف واحد منهما أمام عربة الفول، ويرقد الثاني - وهي امرأة - أمام عربة معدنية ثابتة تحمل أواني وأطباقاً بلاستيكية. وعلي سور "نفيسة البيضا" اسندا كولديراً يعوض المارة عن السبيل، ويروي عطشهم. يقول أبو يوسف أحد تجار الشمع، والذي يقع دكانه في الجهة المجاورة للسبيل، التي تضم مباني تاريخية ذات بوابات خشبية ضخمة ومشربيات شبكية التصميم، وتعرف باسم سوق الخيامية، إن وجود البائعين أمام السبيل يسيء لتاريخه، ويهدر الملايين التي أنفقتها الدولة علي الترميم، رغم عدم تعديهما علي المبني، وكلما ازالتهما البلدية يعودان مرة اخري. بُني هذا السبيل عام (1211ه/ 1796م). وتم ترميمه أواخر القرن الماضي، من بداية عام 1995 حتي 1998، بتمويل من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية أيضاً.
ونفيسة البيضا امرأة شركسية تميزت ببشرتها البيضاء، جاءت إلي مصر كجارية، وملكها الحاكم علي بك الكبير الذي افتتن بجمالها، وثقافتها، فأعتقها، وتزوجها في وقت كان يسعي فيه للاستقلال بحكم مصر عن الدولة العثمانية، وبعد مقتله، تزوجت من أحد كبار مماليكه وهو مراد بك، وعرفت بعدها بنفيسة المرادية. استطاعت نفيسة أن تستثمر أموالها في التجارة وصارت واحدة من أثرياء البلاد، وامتلكت عدداً من القصور والبيوت وجيشاً صغيراً مؤلفاً من 400 من المماليك، وذاع صيتها بين المصريين عندما شيدت لنفسها وكالة للتجارة يجاورها "ربع" لسكني فقراء الحرفيين، وألحقت بهما سبيلاً للماء. وبعد هزيمة جيش المماليك بقيادة زوجها مراد بك أمام جيش نابليون بونابرت، الذي بعد أن كسبت ثقته فيها حين سمحت بأن يتلقي بعض الجنود الفرنسيين من الجرحي العلاج داخل قصرها بالأزبكية، انقلب عليها، وقبض عليها مع كل حريم أمراء المماليك، ما دفعها إلي تقديم مبالغ طائلة نظير الإفراج عنهن وصيانة كرامتهن.
ويعتبر سبيلها نموذجاً ممتازاً للطراز المعماري العثماني في أواخر عهده بالقاهرة، إذ يتمثل في واجهة نصف دائرية. ويطل علي الشارع بثلاثة شبابيك معقودة ومشغولة بزخارف نباتية معدنية. يعلوه كُتاب خُصص لتعليم الأطفال مبادئ القراءة والكتابة والقرآن الكريم. لا يوجد صهريجه أسفله، كباقي صهاريج الأسبلة، إنما يقع أسفل مبني مجاور، والذي كان يمتلئ بماء النيل الذي تجلبه الجمال. ويوجد علي واجهة السبيل نقش كُتب عليه "سبيل سعادة ومراد عز واقبال لمحسنة رئيسه. يسرك منظر وصنع بديع وتعجب من محاسنه الأنيسة. جري سلساله عذب فرات فكم أحيت به مهجا بئيسة. نؤرخه سبيل هدي وحسن لوجه الله ما صنعت نفيسة".
وكما ضم شارع المعز أسبلة لا حظ لها من البريق، واقبال الزائرين عليها، ضم حي الدرب الأحمر سبيلاً يعاني من تدهور تام، وإهمال لا مثيل له. وهو سبيل رقية دودو الذي يقع في سوق السلاح. شيد هذا السبيل ترحماً علي روح رقية ابنة كل من الأمير رضوان كتخدا الجلفي الذي قتل علي يد خصومه من أمراء الجراكسة، وبدوية شاهين. ما يعني أن رقية لم تأمر ببنائه، ولم توص عليه. وهو ما اتضح علي الكتابات المسجلة في بلاطة رخامية مربعة أعلي الشباك الأوسط للسبيل، والتي جاءت في سبعة أسطر؛ " بسم الله الرحمن الرحيم اسأل الله الكريم ينصر السلطان ويرحم من كان علي اسمها الكتاب والسبيل رقية دودو بنت بدوية شاهين بسم الله ما شاء الله سنة 1174ه"، وهي السنة التي توافق ميلادياً 1761، وتوجد أيضاً عبارات مدونة علي العمود الأيمن للشباك الأوسط، وهي "أيها الوارد إلي هذا السبيل اشرب ماء زلالا به يشفي العليلا. الله تعالي يرحم من كان علي اسمها هذا السبيلا". ويقابلها علي العمود الأيسر لنفس الشباك "سبيل لله يا عطشان الله يرحم الواقفة. وينصر السلطان ويجزيها ثواباً وإحسان".
يعد سبيل رقية دودو (آثر رقم 337) ثالث سبيل في العصر العثماني أنشئ لامرأة. كما يعد أول الأسبلة العثمانية النسائية التي اتخذت النمط التركي في التخطيط نموذجاً لها، ظهر ذلك في الزخرفة والكتابات والعناصر النباتية ذات الطابع التركي. ويتكون من صهريج، وحجرة مستطيلة، وواجهة مقوسة ترتكز علي ثلاثة أعمدة. وثلاثة شبابيك للتسبيل مقوسة أيضاً، والتي كانت تضم من قبل ألواحاً رخامية، أما الآن فقد أغلقتها وزارة الآثار بالطوب الأحمر، حتي لا ينفذ أحد إلي الداخل. وفي أعلي السبيل يوجد كُتاب يمكن الوصول إليه من الدخلة المعقودة التي توجد علي يمين الواجهة، والذي طالته أيادي التخريب، إذ فقد شبابيكه الخشبية، ويبدو كأنه علي وشك الإنهيار. فلم ينل السبيل أي نصيب من الترميم الذي تحدث عنه المسئولون طيلة الثلاث سنوات الماضية. تحيطه الأسلاك الشائكة وسور حديدي، كأن حرباً سوف تقوم.
اللافت للنظر أن هذا السبيل لا يقبع أمامه أي باعة، ربما لأن شارع سوق السلاح ليس شارعاً تجارياً، لكن المباني السكنية تحاصره من كل جانب، فتجاوره مدرسة الرفاعي الابتدائية المشتركة، وترتفع أمامه البيوت التي تلقي بظلالها عليه. كانت تجلس امرأة في دكان خردة صغير أمام السبيل. اسمها نادية عوض (58 عاماً). والتي قضت جزءا من طفولتها في كُتاب رقية دودو. حيث كانت تقطن البيت الذي يواجهه مباشرة، قبل أن يتم هدمه. تقول إنها تعلمت الحروف الأبجدية فيه، ولم تستكمل تعليمها بعد ذلك. وعلي الرغم من انتقالها للسكن في مكان آخر بعد زواجها، إلا أنها لم تستطع ترك الدرب الأحمر. ومن وسط الخردة التي تجمعها من صناديق القمامة أحضرت لوحة قديمة لسبيل رقية دودو. مشيرة بسبابتها إلي إحدي الزوايا فيها، قائلة: "نحن نقف في هذا المكان".
تشعر هذه المرأة أن بقاءها مرتبط بوجود هذا السبيل، حتي لو تتطلب ذلك رحيلها عن الدرب كله لتحويله إلي متحف مفتوح مثل شارع المعز، فهي لا تتمني سوي أن تعود الروح لرقية دودو، وغيرها من الأسبلة الموجودة في مناطق آخري، منها السيدة زينب، وشارع الصليبة، ورمسيس، والتي سنتحدث عن بعضها الأسبوع المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.