كنت طالبة في السنة الثالثة من دراستي في قسم اللغة العربية وأنا أنصت بشغف لأول محاضرة للدكتور صلاح فضل في مادة الأدب الأندلسي، لما حوته هذه المحاضرة من فصاحة لغة الشرح، وإحالة فياضة للعديد من المصادر والمراجع المثيرة للفضول، وتعدد الزوايا العلمية المطروحة للقضية الواحدة، واتساع دوائر النقاش حولها، حتي نصل في النهاية بالمُتآلف والمُخالف إلي المعقول منها بل إلي المبتكر الذي قد يتجاوزها جميعاً. وأنا هنا، والآن، عند كتابي لمقالي هذا عن أستاذي الجليل، لا أنتزع هذه الذكري من زمن بعيدٍ مضي، بل استحضرها بوصفها تأسيساً لمنهج تعليمي استوجب احترامي وظللت مخلصةً لتطبيقه بدوري وقدر استطاعتي منذ تعييني معيدةً في هذا القسم وحتي يومي هذا. ومع انتقالي من قاعات الدرس إلي أروقة القسم، تكشف لي جانب آخر من شخصية دكتور صلاح ألا وهو سعة الأفق وسعة الصدر وسداد الرأي، وهو ما جعله ينأي بنفسه عن الخصومة ويترفع عن الصراعات من جهة، ومصدر ثقة واحترام يُحتكم إليه عند اختلاف المآرب واحتدام المشكلات، من جهةٍ أخري، يعدل بمهارة الحد الوسط بين الأطراف المتنازعة، ويبتكر الحلول اليسيرة للمسائل الإدارية العصية، وله بإحقاق الحق براعة الإقناع، بما يحوز رضا الجميع، حتي تبدو حلوله وكأنها كانت مطلب الكل أصلاً. والدور الأعظم للدكتور صلاح فضل في القسم كان مؤازرته لتلاميذه من النابهين، يغدق بالمعلومات عند الاستشارة العلمية، ولا يألو جهداً للدفع بهم إلي الأمام. نادراً ما يجمع شخصُ واحد بين كل هذه الأدوار بل ويتفوق فيها جميعا علي النحو الذي شملته سيرة دكتور صلاح فضل أزهرياً، درعميَا، أستاذاً جامعياً مرموقاً في جامعة عين شمس وأكاديمية الفنون، وأستاذاً زائراً في العديد من الجامعات العربية والأجنبية، عضو بمجمع اللغة العربية ورئيس جمعية النقد الأدبي ناقداً فذاً تُعَد مؤلفاته النقدية بالعشرات، علاوة علي مساهماته الخلاقة في العديد من المؤتمرات والندوات والمسابقات الأدبية والمنتديات الثقافية في مصر وحول العالم، وإشرافه العلمي علي المئات من رسائل الماجستير والدكتوراه. ولم يحل كل هذا دون نهوضه بأدوار سياسية مشهود لها: منذ حقبة تمثيله لبلاده في أسبانيا بوصفه مستشاراً ثقافياً ومديراً للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد في آن، وهي الفترة التي تُوَِّجَت بإحيائه لتراث ابن رشد ونشره في أسبانيا وتدشينه لقسمٍ دراسة اللغة العربية في جامعة المكسيك، وحتي إنجازه الفائق لصياغة وثيقة الأزهر والدستور المصري. أما المُنجز الأكبر للدكتور صلاح فضل فهو مؤلفاته النقدية العديدة، والتي يمكن أن نوجز مسارها الرحب والمُنير في أربعة اتجاهات : أولاً: مؤلفات نظرية: تختص بتقديم المناهج النقدية الغربية المعاصرة للأكاديمية العربية بما يثري ويشحذ الأدوات والإجراءات النقدية لدي النقاد والطلاب وييسر انتفاعهم بها، ومنها: مناهج النقد المعاصر، نظرية البنائية في النقد الأدبي، علم الأسلوب: مبادئه وإجراءاته، بلاغة الخطاب علم النص،...الخ، ثانياً: مؤلفات تطبيقية قائمة علي ملاحقة دءوبة ومتواصلة للإبداع الأدبي العربي شعراً وسرداً علي ترامي أطرافه، والتنقيب الثاقب عن خصوصية جمالياته، وابتكار »جهاز مفهومي تنظيري» مُحيط ومُفسر لهذه النصوص الإبداعية، قابل للتطبيق علي ما عداها من نصوص تخضع لآليات وتصنيفات هذا الجهاز، وبذلك يربط دكتور فضل المعرفة التجريبية المستمدة من النصوص ذاتها بإطار نظري نوعي، كما نري في مؤلفاته: أساليب السرد في الرواية العربية، أنساق التخييل الروائي، أساليب الشعرية المعاصرة، تحولات الشعرية العربية، عوالم نجيب محفوظ ...الخ، ثالثاً: مؤلفات تُعني بالإبداع الأدبي الغربي والمقارن:مثل ظواهر المسرح الأسباني، من خلال ترجمته للأدب والنقد الأسباني مثل: الحياة حلم لكالديرون دي لاباركا، حلم العقل ودونكيشوت تأليف بويرو باييخو أو مقارنة هذا الأدب بما يوازيه من الإبداع العربي في إطار الدرس المقارن: مثل تأثيرات الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي، ملحمة المغازي الموريسكية. رابعاً: المتابعات الصحفية لما يُستجد من نصوص إبداعية، وهو ما ينبئ عن سعة اطلاع الناقد، وإعلام القارئ غير المُختص بجديد الأدب وجودته، ورضا الأديب لأن ثمة آذانا تسمعه وعيونا تتأمل كتابه وأيادي تدفعه للأمام. ومن هذا المنطلق أتوسم في المثقف الكبير صلاح فضل بمساندة الوطن في محنته الثقافية، وهنا قد أسمح لنفسي بجملة اعتراضية لتعريف المثقف، إذ شاع بيننا وعي زائف بدور المثقف في المجتمع، وهو أن المثقف هو من يعارض السلطة، حتي بدا كل من يكتب مقالاً أو رواية أو تويتة مثقفاً؟!، والحق أن المثقف هو صانع الأفكار، وصناعة الأفكار تقتضي قدرة وكياسة وموهبة لا تتاح إلا لقلة من البشر، يعّْون أنهم طرف في مثلث مُجتمعي زواياه هي السلطة والمثقف والرأي العام، وظيفة السلطة هي حسن الإدارة للموافق والمخالف، لتضارب المصالح، للمأمول والممكن. أما الجمهور فهو ما يشكل الوعي الجمعي وللوحدة الافتراضية لما يُطلق عليها المجتمع، أما المثقف صانع الأفكار فهو من يعي أن دوره بالنسبة للحاكم أو الجمهور ليس تبادلياً وإنما تكاملي، فهو ليس نفياً أو بديلاً أو نائباً عن أيٍ منهما. وفي أحوال بعينها من التاريخ تلتقي أفكار المثقف المبتكرة مع الإمكانيات المُتاحة للسلطة الراشدة ومع رغبات الوعي الجمعي للجمهور، وهنا يحدث التغيير والتقدم، بهذا المعني كان جان جاك روسو مثقفاً في ابتكاره للعقد الاجتماعي، وطه حسين مثقفاً في ترسيخه لحق التعليم للجميع، وجمال حمدان في تمييزه لهوية مصر التي تضافرت علي أراضيها الحضارات، وكذا قاسم أمين وهدي شعراوي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ونبوية موسي وأم كلثوم التي رسخت معني رفيعا لثقافة الفن المصري...الخ. كما عرفته الثقافة العربية قبل عصر التنوير الغربي بأمدٍ بعيد، وبمعنيً مختلف، عرفته مع شهرزاد »ألف ليلة وليلة»، وابن المقفع في »كليلة ودمنة»، وأبي العلاء المعري في »رسالة الغفران»، ابن طفيل في »حي بن يقظان» ... الخ، في مواجهة سلطات عدة : السلطة الذكورية، وسلطة الحاكم، وسلطة المثقف الزائف، وسلطة التدين الصوري، وكان مفهومهم للثقافة كما فصلها المعجم العربي نابعا من مهارة الترويض والتهذيب والكياسة وعبقرية طرح البدائل...، لن أطيل في هذه الجملة الاعتراضية عن مفهوم الثقافة ومثقفينا الذين أثروا الثقافة العربية بأفكارهم الخلاقة، لأتوجه مباشرة بأمنيةٍ ورجاءٍ إلي الدكتور صلاح فضل وأقرانه من كبار مثقفينا ممن يعنيهم الأمر: أولاً: أرجوه أن يتمم ما أشار إليه في أطروحته التي قدمها مؤخراً في لقاء تليفزيوني معه عن التعليم الجامعي وما قبل الجامعي في مصر، بما تنطوي عليه من ضرورة إنشاء أقسام للبحث العلمي في الجامعات خاصة في مجال العلوم الإنسانية، ومراجعة للنهج المتبع في هذا النوع من التعليم العالي، هذا علاوة علي إيقاف لنزيف تبدد الهوية والشخصية المصرية وتمزقها ما بين التعليم الأزهري والدولي والحكومي بما لا نجده في أي دولة في العالم سوي مصر، وكم أتمني من أستاذي أن يوثق هذه الأطروحة ويستكمل تفاصيلها وإجراءاتها العملية بوصفها المشروع الثقافي الأهم، كما قال الدكتور صلاح فضل نفسه في هذا الحوار الكاشف والمفيد، هذا أولاً. ثانياً: أرجو منه أن يمد يد العون لبنك المعرفة المصري الذي يعاني الخواء والغياب التام لمصادر الثقافة العربية وأمهات الكتب اللهم إلا نزرا يسيرا وسطحيا للغاية، إذ أصابني الذهول عند تصفحي لبنك المعرفة المصري أثناء دورة تدريبية وكان حولي أساتذة جامعيون من تخصصات علمية مختلفة، ورحت أستعين بهم غير مصدقة ما أراه، نشط الجميع للبحث فلم يجدوا شيئاً ذا جدوي عن ثقافتنا، وما هي إلا لحظات وتبادلت الوجوه إيماءات لم نعرف أهي ضحك أم بكاء...؟! ثالثاً: أرجو من أستاذي الفاضل دكتور صلاح فضل بوصفه عضواً بارزاً في مجمع اللغة العربية، ومن أقرانه ممن يعنيهم صالح هذه الأمة، إنقاذ مصر من هذه الجريمة المنظمة التي تستبدل اللهجة العامية بالعربية الفصحي في وسائل الإعلام المرئية والصحفية، والإعلانات المكتوبة في الشوارع والميادين. وهنا أقول أنه يجب علي مجمع اللغة العربية أن يصدر قراراً بمنع الكتابة باللهجة العامية في كافة وسائل الإعلام المرئية والإعلانية المكتوبة، لأن كتابة اللهجة العامية تطمس الفصحي، يمكن التحدث شفاهة باللهجة، لكن في كتابتها خطورة هائلة لماذا؟ يري العالم اللغوي الفرنسي كالفيه أن اللغة العربية تعاني من الشيزوفرنيا، فالعرب يتحدثون بلغة ويكتبون لغة أخري، وقد قمتُ بتفنيد هذه الدعوي لأني أري أن هذا الازدواج اللغوي فيما بين اللغة الفصحي واللهجة العامية هو ازدواج بنيوي أساسي في اللغة العربية، إذ لم يتحدث العرب أبداً باللغة الفصحي أصلاً حتي بعد اعتماد لهجة قريش لغةً رسمية بعد نزول الوحي. وظل الناس يتحدثون لهجاتهم الشفاهية ويعتمدون اللغة العربية الفصحي لغةً رسمية قراءةً وكتابةًً وتعليماً وإعلاماً، وهو ما ساهم في تطورها وطُوُل عمرها علي مدي خمسة عشر قرناً، إذ تساهم اللهجات في تطورها اليومي السريع في تغذية اللغة الفصحي الأكثر صموداً مما يتسع بمناحيها ويستبقيها حية عفية بوصفها لغة عُليا، وبهذا الازدواج البنيوي: الشفاهي العامي والكتابي الفصيح، نجت العربية من مصير اللاتينية التي اندثرت حين انحسرت في الإطار الديني، وحين أصبحت اللهجات اللاتينية لغة الكتابة والتعليم، فكتابة اللهجة بوصفها صورة سرعان ما تطمس الأصل الفصيح بطول الاستخدام، إن ما يصون اللغة العربية التي ترقي إلي المستوي الخامس بين لغات العالم من حيث عدد متحدثيها الذي يناهز ال400 مليون، ويوحد بينهم علي اختلاف أديانهم ومشاربهم، هو اعتمادها بوصفها لغة رسمية ولغة تعليم: قراءةً وكتابة، لغة دين ودنيا، كنز جامع بين شعوبنا، ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. وأخيراً أستاذي الجليل، لكَ مني في هذا المقال تحية اعتزاز وامتنان صادق ورجاء آمل، أدام الله عليك الصحة والعافية وسعة المعرفة وخير الود والعطاء.