تاريخ الاخوان حربائي، يتلون في كل مرحلة بلون المصالح، ورغم تصدير راية الاسلام، إلا أن الهدف المختفي خلف تلك الواجهة هو استدارج الجميع نحو معارك فرعية تستنزف طاقة الأمة وتمنع تقدمها. هذا ما نخلص إليه عند قراءة كتاب "فقه التلون" للكاتب الصحفي محمد طعيمة والصادر عن دار العين للنشر. يتتبع طعيمة عبر مجموعة من المقالات التي نشرت في عدد من الصحف المصرية والعربية في الفترة ما بين 2007 وحتي 2011 ممارسات الاخوان خلال هذه الفترة ويحاول ربط هذه الممارسات الآنية بممارسات تاريخية للإخوان منذ نشأتهم لا يبدو منها أي جديد سوي تبدل الوجوه. يضع طعيمة تاريخ الإخوان بين قوسين يبدأ الأول بقبولهم قيام منشأ الجماعة حسن البنا الاتصال مع المحتل الانجليزي والقصر لضرب حزب الوفد الأكثر شعبية ويردد افراد الجماعة شعار "الله مع الملك" في مقابل "الشعب مع النحاس" الذي كانت تردده جموع المصريين لمساندة النحاس أم تجبر الملك المتعاون مع الاحتلال، ولا ينتهي القوس بالصفقة التي رحب بها قادة الاخوان مع عمر سليمان نائب المخلوع في بداية فبراير 2011 وأفشلها عبد المنعم أبو الفتوح. الاسلام بالطبع مستخدم في التلون، يهتف مثلا قائد طلبة الاخوان مصطفي مؤمن في 12 فبراير 1946 لإسماعيل صدقي رئيس وزارء مصر الشهير بجلاد الشعب رافعا إياه لمصاف الانبياء "واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا"! يبني المؤلف كتابه علي فكرة "الاستدراج" للمفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي، حيث يتم التركيز علي قضايا جانبية وإدارة الظهر للقضايا الاساسية وللتوجهات الكبري، ليعطل أو يوقف تطور المسلمين، ونظل بين فكي الاستعمار أو القابلية للاستعمار. ومن هنا يري طعيمة أن هذا التلون استخدام الدين انما هو صناعة غربية، مثل الدولة السعودية التي يراها الكاتب حضانتهم الاقليمية. يناقش الكتاب شعار "الاسلام هو الحل" الشعار الاساسي للاخوان، الذي يتحدث عنه معظم القيادات، ولكن اراءهم عنه متناقضة. ففي الغرب وفي موريتانيا تحديدا تترأس الجماعة امرأة، بينما في المغرب التي تحتوي ثلاثة فصائل اخوانية تقود اقدمها ابنة المراقب العام، ويضم مجلس شورتها ثمانية نساء، بينما حرمت حركة حماس استشهاد النساء دون محرم. وفي الكويت تقدم الاخوان بطعن قضائي علي الانتخابات لترشح "سافرات" فيها، وفي مصر يرفضون توليها القضاء والرئاسة و"ياريت تقعد في بيتها" علي حد تعبير المستشار محمود الخضيري القريب من الجماعة. يرصد طعيمة تناقضات مواقف الإخوان وتلونهم، وهو ما لا يعكس انفتاحا علي ظروف الواقع بقدر ما يشكل حربائية سياسية تريد السيطرة فقط. يسلط مؤلف الكتاب الضوء علي ان جماعة الاخوان المسلمين لا تنتقد "أبدا" حكام الخليج، وليس لها وجود تنظيمي في السعودية أو في قطر، ويذكر طعيمة أن زوج ابنة المرشد السابق مهدي عاكف فر من أداء الخدمة العسكرية إلي قطر، حيث أرسلت إليه العروس إلي هناك. هذا التناقض هو ما يظهر علي سبيل المثال حين يشدد المرشد الجديد محمد بديع في خطاب توليه علي عداء الجماعة للمشروع الصهيوني الأمريكي في أفغانستان والعراق والصومال والسودان وفلسطين ولبنان، بينما عاد أخوان العراق للوطن علي دبابة أمريكية، ووصلوا إلي منصب نائب الرئيس بصفقة علنية مع بريمر، وبرعاية علنية من يوسف القرضاوي. وايضا برعاية القرضاوي وصلوا للحكم في الصومال وتحت حماية واشنطن، وفي السودان توافقوا علي قسمة السودان إلي شمال وجنوب للبقاء في الحكم، والطريف أن مراقب الاخوان في الخرطوم يفخر بحملته ضد "تطعيم الاطفال" بوصفها مؤامرة يهودية صلبية!. ويتساءل طعيمة: "لماذا لا يقولون مفهومنا للاسلام كذا؟ مادام اسلامهم بهذه القدرة الزئبقية علي التلون" ويخلص إلي "أنها السياسة إذن.. لا الدين. هم يوظفونه، ومعهم يتحول الاسلام إلي اسلامات". يتوقف طعيمة أمام التزامن بين تراجع منظومة القيم الاخلاقية في مصر وبين اتساع الوجود الاجتماعي والسياسي للاخوان، حيث لعبت قيم الاخوان علي ترسيخ الاسلام كمظهر وافراغه من جوهره التقدمي وهو خلافة الله وعمران أرضه. يذكر الكاتب ذلك في سياق تعليقه علي مقولة بديع ان المجتمع المصري مليء ب "النجاسات والاوساخ" وهنا يحاول طعيمة ان يرد علي الاخوان بنفس الخطاب السلوكي، ويذكر بأن تاريخ التنظيم مثل غيره من التنظيمات البشرية مليء بما يناقض ادعاءات قياداتهم بربانيتهم. وهنا يذكر طعيمة حكاية عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الأخوان وأحد مؤسسي الجماعة وزوج شقيقة حسن البنا، اقترح عابدين نظاما للتزاور بين عائلات الجماعة "لتعميق الترابط والحب بينهم" ووافق البنا وأخوانه، وأوكلوا لصاحب الاقتراح مهمة تنظيمه، ولكن تدريجيا بدأت فضائح "راسبوتين الاخوان" في التسرب، الامر الذي دفع أحمد السكري مساعد البنا إلي طلب تحقيق في الموضوع، ولم يكن أمام المرشد إلا فتح تحقيق مكتوب انتهي بادانته، وللتكتم علي الأمر أرسله البنا في بعثة تنظيمية إلي الشام عام 1945، وتم حل نظام تزاور الاسر، واختفت وثائق التحقيق. لكن دور عبد الحكيم لم ينته هنا اذ اصبح مهندس التحالف التاريخي بين الاخوان وإمارة شرق الاردن منذ سنواتها الأولي، ككيان وظيفي خلقته ورعته لندن. يمتد هذا الخط ليكشف مهدي عاكف في 2008 ان الاخوان "باعوا" الحراك السياسي في مقابل مقاعد برلمان 2005 وهو ما اكده مستشاره عبد الحميد الغزالي بقوله: "كلام صحيح 100٪ عقدنا صفقة مع الامن في انتخابات 2005" وهو ايضا ما اشترك فيه المرشح الرئاسي محمد سليم العوا عبر علاقته المميزة بحسن عبد الرحمن مدير جهاز أمن الدولة المسجون حاليا. يرصد "فقه التلون" أيضا استعمال الدين بشكل السياسي عن الجانب المسيحي ويناقش عبر عدد من المقالات رفض البابا شنودة لقرار القضاء بالسماح بالزواج الثاني للاقباط لعلة غير الزنا، حيث تمسك البابا بوجهة نظره في مواجهة الدولة، واصبحت وجهة نظر البابا هي الدين، ورفض البابا لائحة المجلس الملي لعام 1938 التي أجازت الزواج الثاني. اذن التمترس خلف وجهات نظر ضيقة وتعميمها علي الجميع كأنها الدين ذاته أمر لا يقتصر علي الجانب المسلم ولكنه يتعداه ايضا للجانب المسيحي، وهو ما يعكس ضعف الدولة او ما يسميه طعيمة علي طول الكتاب "اللانظام"، وبالتالي تخندق الجميع خلف وجهات نظر تضيق أكثر كلما ضعفت الدولة أكثر. ولكن قبل أن ينتهي الكتاب يضرب صاحب الكتاب مثالا برجل الدين المنفتح والمدرك لتغيرات الواقع، وفي الوقت نفسه يؤمن بضرورة المقاومة، وهو المفكر الاسلامي حسين فضل الله الذي رحل عن عالمنا في 2010، الذي آمن ب "التعامل مع الاشياء كما هي في الواقع لا كما تشتيها أنفسنا" . تلك المعرفة المتغيرة، وحركية النص المقدس، وروحية العرفين هي ما دفعت السيد فضل الله لتحدي التفسيرات التقليدية، وهز ثوابت الموروث الشيعي خاصة والاسلامي عامة، هكذ أنكر قدسية "ولاية الفقيه" وأيد "ولاية الامة"، وايضا حرم ممارسات ارتبطت بذكري "عاشوراء" كضرب الجسد بالسكاكين والسلاسل واصفا أياها ب "مظهر تخلف". وكانت فتاواه الاكثر صدمة لعموم المسلمين حيث رفض ولاية أي أحد علي المرأة إذا كانت بالغة رشيدة وحرم ضرب الرجل لزوجته، واباح لها مبادلته العنف دفاعا عن النفس، وأجاز لها حرمانه من بعض حقوقه كالجنس إن منعها بعض حقوقها، مات الرجل رافضا قهر المرأة جسديا أو اجتماعيا أو نفسيا أو تربويا. يفضح "فقه التلون" زئبقية الاخوان منذ النشأة حتي الآن، هذه الزئبقية التي تضر الاسلام بهذا الاستخدام الوظائفي الذي لا يبدو سينتهي قريبا.