تُكسب صفة »شهادة-témoignage» الكاتب نوعاً من الحصانة، هي تجربة شخصيّة-ذاتية مرتبطة بحدث ما، ولا يمكن الجزم إن كانت متخيّلة أو غير متخيّلة، لكن صفة الشهادة هذه تحيل إلي ميوعة في النوع الأدبي أو جنس النص، ولا نعني هنا الدفاع عن صرامة الالتزام بمعايير الجنس الأدبي، لكن هذا اللاتعيين يقودنا إلي التباس في تلقي النص، ويفتح الأبواب علي تساؤلات مرتبطةبقيمته، وخصوصاً إن كانت علامة التجنيس تغيب عن الكتاب وتحضر في كلّ نص علي حدة، هذه الملاحظات تنطبق علي كتاب السوري ملاذ الزعبي بعنوان » خالي الذي في قبضتهم» الصادر عن بيت المواطن للنشر والتوزيع ضمن سلسلة شهادات سوريّة. أول ما يثير الانتباه في الكتاب ومنذ أول صفحة هو غياب علامة التجنيس، إذ لا توجد حتي كلمة نصوص كنوع من التلاعب والحذلقة، لنبدأ بعدها بقراءة النصوص والتي نلاحظ أنها منشورة سابقاً في صحف ومجلات إلا عدة نصوص، ولا رابط بينها سواء كان موضوعياً أو مفاهيمياً، سوي أن كاتبها سوريّ، لكن، هذه شهادات، يكفي أن يكون الكاتب شاهداً أو متورطاً بصورة ما في »سوريا» حتي يكون ذلك كافياً لخلق نوع من »التماسك». إشكالية هذا النوع من الكتب والتي لا يعتبر الزعبي الرائدّ بها أنها ل»سوريين» كتبوا »شهادات»، لكن محتوي الكتب صحفي، أي أنه خاضع لقوانين النشر وسياسات التحرير والتي وإن لم تكن واضحة إلا أنها موجودة، مهما كانت قيمة النص لا يمكن تجاهل أنه وليد منطق الصحف الذي هو منطق استهلاكي ومسيّس بامتياز ، وعادة المؤلف يتخلص من هذه القيود عبر النشر في كتاب، لكن لا، هذه شهادات سوريّة، فالحالة مختلفة ّ!.
لكن بالعودة للكتاب وبعيداً عن التنظير الثقافيّ و»آليات إنتاج المعني» و»سياسات التمثيل» النصوص في كتاب الزعبي لا رابط بينها، وتتنوع بين النصوص القصيرة والتقارير الصحفية واللقاءات، هي أِشبه بأرشيف منتقي لكاتب صحفيّ يمارس مهنته، ويكتب بأشكال متعددة، لكن ، لم الكتاب ؟، كل النصوص موجودة سابقاً في أراشيف الصحف والمجلات، كما أن اختيار المواد لا يحوي أي صيغة »نوعية» أو »أنطولوجيّة» أو »أرشيفيّة»، ليست مثلاً نصوص ملاذ الزعبي الساخرة، أو لقاءات ملاذ الزعبي مع المصورين الصحفيين، هي فقط نصوص لملاذ الزعبي التي لا تجمعها علامة تجنيس، هي شهادة ملاذ الزعبيّ السوري الحوراني الذي يمارس الصحافة والكتابة الساخرة، هذه الميوعة تترك القارئ حائراً، ما الرابط حقيقة بين هذه النصوص المتنوعة والمختلفة والموجودة سابقاً، ما الموضوعة التي تجمعها، هل هي جهد »جينالوجي» أو »أنثروبولجي» ؟، ما الجهد المبذول في إنتاج هذا الكتاب والذي قام به الزعبي ؟، طبعا عدا النصوص القليلة غير المنشورة سابقاً، بالطبع لا يجوز إهمال جهود الفنيين والمدققين والناشرين وعمال المطبعة الذين بصورة ما لا علاقة لهم بعملية كتابة النص، ولا يمكن أيضاً استخدام تبرير أنها سلسلة مقالات في زاوية صحفية ما تحمل موضوعة ما، فهي ليست نتاج جهد تسلسلي في جريدة يمكن أن يشكل مجموعها كتاباً لاحقاً، هي فقط شهادة سوريّة. التساؤلات السابقة لا ترتبط بالقيمة الأدبيّة للنصوص أو بصورة أدق »بعضها» كون البعض الآخر منها صحفيّ، وملاذ محترف، بالتالي ليس من المنطقي مساءلة قواعد التحرير واللغة الصحفيّة وآلياتها، فالنصوص الصحفيّة -ضمن معايير مهنيّة- خضعت لممرات التحرير والتدقيق وما هو غائب عنها ينتمي إلي سياسات الصحيفة سواء كان ذلك متعمدا من ملاذ أو لا، لنبق أمام كتلة من النصوص التي يمكن أن نطلق عليها أدبيّة، لنأخذ بعين الاعتبار موت علامة التجنيس، وموت المؤلف، وموت كل ما يمكن أن يحد من سياسات التمثيل والمرجعيّة، كي لا نقع في التقييمات المرتبطة بالنشر مسبقاً، ولنفترض بأوسع معني أن كل نص يحوي في داخله كل العالم، كل الكون، كل سوريا، لكنّ لا، هذه شهادات، وسوريةّ، بالتالي هناك حدود وهي جسد ملاذ و ما »ِشهده» متخيلاً كان أم واقعياً، و هذه إشكاليّة إذ لا بد من الإحاطة بما يعرفه ملاذ في بعض الأحيان لفهم »النكتة» أو »المفارقة المأساويّة» كحالة نص »ابن الأجاويد». بعض النصوص اللاصحفيّة في الكتاب تحمل نوعاً من السخرية والكوميدياً ، لكن هناك الكثير من الملاحظات المرتبطة بها، وبصنعة الكوميديا ذاتها، كونها فن نقدي شديد الخطورة ومُحارب دوماً، فهي سخرية من أشكال الحقيقة السلطويّة سواء كانت نصيّة أم سياسيّة، ومن الممكن أن يكون هدف ملاذ هو السخرية من سلطة الكتاب والتجنيس ووضع اسمه عل كتاب أشبه بكولاج مؤلف من نصوص »pre-made»، لكننا لا ندري نواياه النقديّة. بالعودة إلي أشكال الكوميدياً وخصوصاً الساخرة منها الموجودة في الكتاب فهي متنوعة بين عدد من الآليات وأهم ما يميّزها أنها لا تنتمي لخارج السلطة، إذ لا توجد الكوميدياإلا ضمن نظام قائم، هي سوء اقتباس من خطاب شرعيّ، فوجود لل »خطأ» الكوميدي يتطلب حالة »صحيحة»، لكن مهارة صنعة الكوميديا هي التي يمكن أن تخضع للتساؤلات، فأول ما نلاحظه هي كوميديا الموقف، والمرتبطة بمخالفة السائد والطبيعي وخلق المفارقة بين فرد و نظام أو نظام و آخر كنص »مقابلة المنحة الحاسمة»، إلي جانب تضخيم العيوب التي تحوي المفارقة واللجوء لتخريب السياقات أحياناً والذي يحسب للزعبيّ ، لكن، وبما أنها شهادات فالمفارقات لا تتعدي جسد »الزعبي» نفسه، المفارقة تخلق بحضور أو ملاحظته وهذا يفترض أن الجميع وكل من يقرأ العربيّة واع ومدرك لطبيعة الهيمنة التي كان يخضع لها الزعبي والمرتبطة بجسده وخصوصاً أنه يكتب شهادة، ما يترك الكثير من وسائل الإضحاك مرتبطة بوضوح الموقف، أو الألاعيب اللغويّة التي يمارسها الزعبي، كما أن الكثير من »المفارقات» تمس السطحي والمتداول وإعادة اقتباس لعناوين كتب أخري كما في إحدي مثل »أنا كافكاوي لم أقرأ كافكا»، لنراه في بعض الأحيان ينزلق نحو مساحات »عبّود سعيد» أِشهر شخص علي الفيسبوك.
تحضر أيضاً في النصوص النزعة نحو الاختصار والسرعة فالنكتة والسخرية التي تنتهي بمجرد تلقيها، ولا ندري إن كان ذلك سببه عدد كلمات الصحيفة أم أن الزعبي يفضل هذا النوع من السخرية، لكن لا يجب تجاهل أن النص المنشور في صحيفة مقيد بعدد من الكلمات في بعض الأحيان، والأهم أنه مُنتج استهلاكي وآني ذو تأثير ينتهي بمجرد القراءة، هو لا يقدم بديل أو بارودي لنظام قائم كحالات الكوميديا عندما تتحول لنوع أدبي، إذ لا تكتفي بوعي الشخوص بالمفارقة أو العيوب،بل النص بأكمله يقدم بديلا أو Double للتشكيك بشكل الحقيقة، هذا ما لا نراه لدي الزعبي، بل مجرد مفارقات وملاحظات وتعليقات مرتبطة بمنتجات ثقافية أخري »كالسينما كما تحصل في سوريا»، إلي جانب التعليق علي الفضاء الرقميّ والسخرية من منتجاته المتداولة كتعليقات الفايسبوك ومنشوراته، لنري أنفسنا أمام تعليقات سطحية ومبتذلة ومكررة تنم عن سرعة بديهة لكن دون بعد نقديّ يترك أثراً، إلا في نص »قميص منتخب الوطن»، حيث يقدم لنا نصا واعياً بنية الهيمنة ويسخر منها، لا كنص »أنا السوري» الذي يشبه نصوص الاعترافات والمفارقات والألاعيب الكلامية التي كان يكتبها محمد الماغوط رئيس تحرير مجلة الشرطة.