الكتاب : أنا عشقت المؤلف: محمد المنسى قنديل الناشر: الشروق كيف حدث أني ،وأنا الرجل الناضج فيما أظن ،مازلت الراغب في استهلال مقالاتي بأغنيات حب يائسة ،كنت في سن الخامسة والأربعين عندما بدأت تسمية نفسي بالحسن، محاولاً تحقيق حلم راودني منذ اكتشفت أنني صاحب شغف بالأسماء ،حتي أنني أفضل أن يكون اسم أبي مصطفي كما هو فعلا في غير الأوراق الرسمية ،وأن أغيّر اسم أمي من فاطمة إلي شيرين واسم حبيبتي من البيضاء إلي العالية ،كيف حدث أني ،انجذبت إلي حديقة الأسماء: مامادو وخالدة ونجمة ومريم ويمني ،انجذبت مثل مراهق سريع التأثر ،وفيما كنت أتأمل ما يميزني ويؤثر علي اختياراتي ،متفاديا التطفل علي أحد ،برز من ذاكرتي مرة ،وأمامي أكثر من مرة، اسم محمد المنسي، فأدرت رأسي معجباً ومحتداً،حتي أنني تمكنت من قراءة قائمة كتبه ،وقلت لنفسي: عليك أن تخفّف من حدتك قليلا ،فبهذه الطريقة ستصبح مثل محطة وقود ،لعل العم المنسي حمل هذا الاسم فوق ظهره ليكون سراً يحميه من الموت ،والعم المنسي لم يخطيء عندما علّق اسمه بظهر ابنه محمد الذي نبغ، وطاردتُه منذ قصصه الأولي ،منذ أحسن القصص ،فهو ابن جيلي ،وهو ابن ريف ،وهو معصوم من النسيان ،ويكبرني بعامين ،أذكر أنه في الأيام الطويلة التالية علي ثورة 25 يناير ،قابلته في مقهي زهرة البستان بوسط القاهرة ،وخجلت من عتابه العابر حول ماكتبته عن روايته(يوم غائم في البر الغربي)،خجلت ورفعت رأسي ،فلم أكن بكتابتي عنها أقصد شيئاً غير الإبانة ،لذا لا يمكن أن أنكر تلك المتعة الفائقة التي أتلقّاها وأنالها ولا أنال منها ،إذا عكفت علي قراءة سرده القصصي ،الذي هو أشبه بعلامة بالنسبة إلي ،أشبه بحفل خاص ،مع يوم غائم في البر الغربي ،استولي الغضب علينا ،هو وأنا، وإن لبرهة من الزمن ،كان جزء مني يحثني علي أن أشعر بالرغبة والرهبة ،ولكن الجزء الأكبر مني لم يشأ أن أُخفي حالي تحت سروالي ،كما يقولون، أحنيت رأسي قليلاً ،ونفثت لهاثي الحارعند مؤخرة عنق ما يتراءي لي ،ولأنني محظوظ بالولع بسرد محمد ،تمنيت في سري علي صاحبه، لو يكتب لنا قصته مع تكوينه الفني ،كيف احتشد وتجهز في سبيل الوصول إلي هذه المرتبة من الفتنة ،كيف روّض اللغة وشرب من بئرها المهجورة ،علي باب روايته الجديدة ،أنا عشقت ،كنت أقف بغير سلاح ،كنت أريد أن أقرأها وأنا متجرد ،فبعد أن مرقتُ من الباب ،التفت إلي الخلف ،ونظرت إلي ظهر البوابة ،كانت منقوشة بكلمات يونس القاضي ،أنا عشقت وشفت غيري كتير عشق ،عمري ما شفت المر إلا في هواك ،تلعثمت كأنني أناشده: أرجوك ،برفق قليلا، فأنت تؤلمني، وكأنني سمعت الثلاثة ،يونس القاضي والشيخ سيد درويش ومحمد المنسي يغنون الأغنية ذاتها ،وأصداء أصواتهم تتردد عبر الجدران الأسمنتية ،قررت أن أكترث ،قررت ألا أكترث، واستمررت في الغوص ،أتصور أنني في أثناء القراءة ،أحسست بظهري يتقوّس، وكدت في بعض اللحظات أصرخ من شدة النشوة ،عندها حافظت علي غوصي من دون أن أحرك ساكناً، وبدلاً من أن أريح صدري المتعب علي ذراع الهواء الذي يحيطني ،رأيت وجه الشيخ سيد يتصبب عرقاً، وعرفت أن حضوره يعني دائماً حضور الطوائف والحرف والمهن والأنفار والأقليات والأكثريات ،يعني حضور مصر كلها ،فتأهبت، واطمأننت إلي أن متاهة(أنا عشقت)التي سأدخلها لن تكون متاهة عفاريت ،وفوجئت بالإثارة من أول جملة، لأن الرواية بدأت كما تبدأ الروايات البوليسية، جثة في محطة قطار، جثة عمودية واقفة، وتحقيق لتوجيه مسئولية الحادثة إلي شخص ما، أو إلي مجموعة أشخاص، قلت لنفسي أطمئنها، النزعة البوليسية ستكون إحدي طبقات هذه الرواية، لكن بوليسية المنسي لن تكون علي غرار بوليسية آرثر كونان دويل، وبطله شرلوك هولمز، ولا علي غرار بوليسية جورج سيمنون وبطله ميجري، وكلتاهما تتميز بأنها بوليسية خالصة، وأيضاً لن تكون بوليسية إمبرتو إيكو في روايته اسم الوردة، الباحثة عن تعدد التآويل، كأنها أطروحة روائية، ولا بوليسية كافكا في روايته (القضية) المنخورة باليأس من العودة إلي الأصل، باليأس من البراءة، أو اليأس من الوردة، وهناك أيضاً روايات ميرامار والكرنك لنجيب محفوظ، وثلاثية نيويورك لبول أوستر، تخيلت محمد المنسي سيظل مشدوداً بكل خلاياه إلي بوليسية تناظر بوليسية الدولة، وتعكسها، وتبرز عنفها المستقر ،عنفها التاريخي ،علي أمل أن تمحوها ،لكن الأكيد أنها بوليسية لصيقة بأحوال المجتمع ،وتدابير الواقع ،وأن ما فيها من مؤامرات وألغاز ،هو ما في مجتمعها من مؤامرات وألغاز ،بوليسية المنسي محرومة من حقل التوقعات الواسع ،ومحكومة بتوقع أكيد هو عدم موت ورد،فتنقص حدة التوتر،قلت لنفسي ،هل يمكن لبطل المنسي أن يكون ثورياً ،أو متمرداً ،أم أنه سيكون من الباحثين عن الحب ،وهل يمكن لبوليسية (أنا عشقت)التي تنام في سرير توالد حكايات ألف ليلة وليلة، السرير كبير الحجم، ألاّ تثيرنا ،علمني يحيي حقي ،علمني عدنان مدانات،علمني دودو مولير،علمتني أمي ،وعلمتني سليقتي،أن أسأل نفسي إذا حاولت الكتابة عن رواية ،هل سأكتب للذين لم يقرأوها لأصبح معهم كأنني مرآة علي ظهر جدار ،أحكي التفاصيل ،وأتبع الأثر ،أم سأكتب للذين قرأوها وكأنني عصفور علي ظهر نسر، يهزني النسر فأغني، أغنيتي ،وأفرد جناحيّ ،وربما أطير بعيداً ،أطير بعيداً جداً ،يحكي المنسي عن محطة قطار،وعن امرأة علي رصيف المحطة تودع حبيبها ،وعن أصدقائه الثلاثة الذين يأتون فينصرف انتباهه إليهم ،وانتباههم إليه ،وتتوحد هي ،وتنعزل ،ولما يصل القطار يصعد الحبيب ،ولا تحقق العاشقة حلمها بأن تقبّله في فمه ،بأن تلوح له بيدها ،بأن تقول له آخر كلمات يسمعها قبل رحيله ،في آخر الليل يكتشف ناظر المحطة وعامله ، يكتشفان المرأة الواقفة في مكانها ،ويقتربان منها ،ويلمسانها ،ويدركان أنها واقفة ميتة ،ويقوم كبيرهما بتبليغ المركز ،الضابط أيضاً سيتأكد أنها واقفة ميتة ،وهو الوحيد الذي سيتمني أمنيتين، أن تموت ليرتاح من عبء قضيتها ،أو أن تعود للحياة ،ليضاجعها، هو الوحيد الذي سيشتهيها ميتة ،إنها الشرطة يا منسي ،الطبيب الشرعي سيضع مرآته أمام فمها ،ولن تتعكر المرآة بزفيرها، فيحسب أنها واقفة ميتة، لكن سماعته تنقل إلي أذنه نبضها الخافت جداً ،فيتأكد أنها واقفة مثل الميتة ،وأنها ليست ميتة، لتبدأ مغامرات الخلاص منها أو إنقاذها، التي تتخللها رحلات تنتهي بعودة الحبيب،