اللون المفضل الكحلي. الفريق المفضل الزمالك. 48 عاماً. متوسط الطول. يرتدي نظارة طبية تبدو جزءاً من ملامحه وتكوينه، مهندم دائماً، أقرب إلي البساطة، ملامحه تعطي إحساساً مبدئياً بعدم الرغبة في التواصل. الانطباع الأول للفضوليين أنه قد يكون مديراً في شركة خاصة، أو طبيباً، ولا مانع أيضاً من أن يكون مهندساً. ملامحه أقرب إلي ذلك التصور عن الناجحين من الطبقة المتوسطة. ولكن الحقيقي أنه المدرس في معهد اللغة العربية، التابع للجامعة الأمريكية، وقبل كل ذلك الروائي منتصر القفاش. يُنصت منتصر جيداً إلي من يحدثه، غير أن هناك صعوبة شديدة في معرفة ما يدور في ذهنه، شخص »جواني« بالتعبير الدارج، لا يمكن جرّه إلي معركة، لا أذكر أنه كان طرفاً في معركة أدبية ولا حتي شخصية مع كاتب آخر، يعشق اللغة إلي أقصي درجة. في معهد »جوتة« انتظرني حتي نزلت من المنصة، وحينما جلست إلي جواره مال علي أذني وهمس »أخطأت مرتين«، ورددت عليه »مستحيل« لم نتناقش في تلك الواقعة تحديداً، غير أنني من خلال مناقشات عديدة بيننا أعلم مدي تمكنه. يقول »شيء مضحك ألا يكون الكاتب عليماً باللغة. المسألة تشبه فناناً تشكيلياً لا يجيد استخدام الألوان، أو موسيقياً لا يعرف الكتابة في النوتة«! قبل أن ينتقل القفاش إلي حدائق حلوان كان يسكن في العمرانية مع أسرته.كانوا يقطنون في شقتين متجاورتين، غير أن صاحب المنزل منعهم من فتحهما علي بعضهما البعض. فكر في كتابة رواية بعنوان »شقتين جنب بعض« ولكنه لم يفعل إلي الآن. كانت الأسرة تسكن في إحداهما، وهكذا أصبحت الأخري متنفسه الذي يهرب إليه. كان يذهب إلي الثانية ليقرأ ويكتب. وكان يضطر إلي الانتظار إلي وقت متأخر حتي يقل الزحام والضوضاء في الشارع. انتقل إلي حدائق حلوان. البيت بالقرب من المترو. تلك هي المنطقة الأكثر هدوءاً في الحدائق. المنطقة الأكثر ضجيجاً هي القريبة من الكورنيش. مكتبته كانت في الطابق الأرضي، بفعل العادة القديمة أصبح أيضاً في المكان الجديد يقرأ ويكتب ليلاً. يقول »هناك شيء غريب يتعلق بالطابق الأرضي، أي شخصين يسيران معاً تسمعهما جيداً وهما يتحدثان. كنت أسمع أيضاً اتفاق الأولاد علي اللعب، تلك الحالات خرجت في مجموعة قصصية انتهيت منها بعنوان (في مستوي النظر)«. يصمت ويضيف »كنت كتبت عدة قصص تشكل حالاً أخري، وفجأة ظهر نصان صغيران عن الدور الأرضي، فوجئت بعد فترة بسيطة وكأن النصين يشكلان كلمة سر لشيء كبير سيحدث«، يضحك »الأمر أشبه بمغارة علي بابا وافتح يا سمسم«، ويتابع »فوجئت بالقصص تتوالي، وتحمل كمّ حكايات عن الطابق الأرضي وعلاقته بالناس في الشارع. الاستثناء الوحيد قصة بعنوان (وصف شقة)، التي ظهر فيها الطابق الثالث في العمرانية«. حدائق حلوان أبعدته قليلاً »وسائل المواصلات في العمرانية أكثر تنوعاً، ورخصاً، التاكسي لن يكلفك إذا أردت أن تذهب إلي وسط البلد، بعكس الأمر في الحدائق، وهكذا لن تذهب إلي أي مكان إلا لو كان هناك سبب مهم، كما أنك لن تنزل من البيت إلا بعد أن تجمع (مشاويرك) دفعة واحدة«. القدر وفر لمنتصر مزيداً من الخصوصية. يسرد حكاية مؤلمة عن وفاة ثلاثة من أخوته تباعاً. لم يعد هناك سوي منتصر وشقيق وحيد. نقل صاحب »أن تري الآن« مكتبه إلي الدور الأول، وشقته إلي الرابع. يعلق »نعم ابتعدت قليلاً عن الشارع، ولكن الأمر لا يختلف جذرياً عن الطابق الأرضي«. يرفض منتصر القول بأن الانطباع الأول الذي يصدّره هو التعالي »من يعرفونني جيداً لن يتحدثوا عن التعالي«، ولكنه يعترف بأنه أسير لفكرة الانتقاء، إنه من الأشخاص أصحاب عدد قليل جداً من الأصدقاء الكتّاب »هذا طبيعي جداً. أصدقاؤك هم القريبون من همومك، ومما تفكر فيه علي مستوي الكتابة والقراءة. أصدقاؤك هم من يفهمونك بدون مقدمات. إنهم لن يستمعوا لك فقط، ولكنهم سيشاركونك أفكارك. عندهم ميزة مهمة، وهي أنهم قادرون علي تطويرها. إنهم باختصار الأشخاص اللي بتتونّس بيهم«. يذكر مي التلمساني، حسام نايل، وائل فاروق، حسني حسن، وحسني سليمان. يهتف فجأة »آه لا تنس خيري دومة«. يعترف أيضاً بأن فكرة الانتقاء تسيطر عليه أيضاً فيما يخص قراءاته، إنه لن يعترف أبداً بفكرة محبة النص مهما كان اختلافي معه »هناك فارق بين قراءة مقال، وقراءة عمل إبداعي. الطبيعي أن يكون الشخص منحازاً إلي جماليات بعينها، ولطرق في الكتابة، لا يمكنك أن تحب أي عمل، كما أن سقفك الذي تتمناه لكتابتك وكتابات آخرين يرتفع بمرور السنين، وحلقة الأعمال التي تحبها تضيق«. ذلك ما جعل القفاش واحداً من الكتاب المتهمين في الأغلب بالشللية. يسخر »لا محل من الإعراب لكلمة شللية. أحب تسمية (الأسرة الأدبية) كل كاتب له أسرة أدبية ينتمي إليها، ويتونّس بها، سواء من كتاب حاليين أو راحلين«. يصمت ويعلق »حينما تفكر فأنت تفكر في حضور تلك الأسرة«. يشير منتصر إلي مقالة لبورخيس بعنوان »أسلاف كافكا«، ويعلق »كل كاتب يخلق أسلافه. أي كاتب لا بد أن تكون له أسرته بغض النظر عن المجايلة«. يسرد منتصر أسماء أسرته »بخلاف بورخيس وكافكا، هناك يحيي حقي، مقالاته تحتاج إلي إعادة اكتشاف. هذا الكاتب مارس حرية الكتابة بشكل مبهر، وأنا مشغول به دائماً«. يضيف ميلان كونديرا الكاتب والناقد، ويمتدح كثيراً روايته »الخلود«، يضيف أيضاً بدر الديب ورائعته »إجازة تفرغ«، ويستدرك »تستحق إعادة طباعتها مرة أخري، لأنها نموذج للعلاقة بين الفلسفة والفن التشكيلي والسرد«، وأخيراً عبد الحكيم قاسم خصوصاً في »قدر الغرف المقبضة«. هناك كتاب انقلبوا علي أبائهم، فكيف يري هو إدوارد الخراط حالياً؟ يجيب »الخراط كتب عني قبل أن يصدر لي كتاب، وأنا لا يمكن أن أنسي هذا. إنه من أهم النقاد الذين كتبوا عن الإبداع العربي، خصوصاً عندما كتب عما يحبه، وأذكر طبعاً كتابه (عبر النوعية)، وبالمناسبة ما زلت أري أنه يمكن العودة إلي (ترابها زعفران) مرة أخري. يري القفاش أن تجربته في معهد اللغة العربية تصلح للكتابة يوماً ما »هناك مفارقات تحدث وأنت تُدرّس اللغة العربية لأشخاص ينتمون إلي جنسيات مختلفة. هذا يذكرني بالضبط بتجربتي في المدرسة الثانوية العسكرية للبنات، أثناء تأديتي للخدمة العسكرية، لقد ذهبت إلي مكان لم أتوقعه، وكتبت رواية (تصريح بالغياب)، وفي المعهد أيضاً فوجئت بأمور غير متوقعة، وغير المتوقع يصلح دائماً للكتابة«. رؤية انطباعات أشخاص من جنسيات مختلفة هل جعل القفاش يعيد اكتشاف اللغة؟ يجيب »وأنت تقرأ شيئاً بإرادتك بعيداً عن الدراسة أمر يختلف كثيراً عن قراءتك له لهدف معين. هناك نصوص أصبحت أتوقف أمامها بسبب انطباعاتهم عنها، وأراها من خلال عيونهم. ذلك أمر مدهش«. والده كان حافظاً للشعر العربي »كانت لديه مكتبة بنيت عليها، وهو واحد من الذين حببوني في اللغة«. مسألة تقدمه في العمر لا تعنيه. يعلق »الانشغال بالعمر بإحساس فيه مأساة شيء يثير الضحك، الأهم أن تشعر طوال الوقت أن في داخلك تلك الطاقة التي تعرفها عن نفسك، أن تظل محتفظاً بالقدرة علي الدهشة. ذلك هو الأساس، ولو ضعف وقتها سأشعر بالسن«. حسنٌ.. ما طموحاتك؟ أسأله ويجيب »أن أفاجئ نفسي بكتابة لم تخطر علي بالي، أحلم بأن أكتب روايتين أو ثلاثاً، وأتخيل أن المسافة الزمنية بينها ستكون طويلة نسبياً، بسبب ارتفاع سقف الطموح. ذلك ما يشغلني«.