في المقالات النقدية التي يكتبها المبدعون تتضح سمة رئيسية وهي أنها لا تعرف المقدمات المدرسية ولا تحاول أن تمهد لفكرتها بذكر المنهج النقدي الذي ستتبعه. في تلك المقالات نجد أن هناك فكرة برقت أو اهتدي إليها الكاتب أثناء قراءاته أو كتاباته. فكرة نابعة من خبرة خاصة وتحاول أن تقدمها بنفس العنفوان الذي ظهرت به دون أن تسجنها في أطر نظرية أو تبحث لها عن شواهد من كتب النقاد المتخصصين. وفي نفس الوقت قد تدفع مقالات المبدعين المكثفة إلي أن يعيد النقاد النظر فيما كانوا يرددونه وقد تفتح أمامهم طرقا جديدة للبحث لم يلتفتوا إليها. كتب بورخيس مقالة بعنوان " كافكا وأسلافه "، لم يتوقف فيها عند الأسلاف القريبين لكافكا زمنيا أو لم يتناول الأسلاف الذين يردون في كتب النقاد المتخصصين في كافكا. بل وجد أن أسلافه يمتدون في آداب وعصور عديدة ومتباينة. بدأها من مفارقة زينون الإيلي ضد الحركة، والتي تري أن جسما متحركا من النقطة أ لا يمكنه أن يصل إلي النقطة ب لأنه ينبغي عليه أن يقطع نصف هذه المسافة بين النقطتين وقبل ذلك نصف هذا النصف وهكذا الي ما لانهاية. ويري بورخيس أن تلك المفارقة تعد سلفا من أسلاف أعمال كافكا وخاصة روايته القلعة ،والتي لا يستطيع فيها " ك " أن يصل إلي القلعة رغم أنها تبدو أمامه. كما نتذكر قصته سور الصين الذي لا يكتمل أبدا بناؤه. ويتنقل بورخيس بين أسلاف كافكا: قصة من الأدب الصيني إلي كيركجارد وآخرين، ويصل إلي أن كل كاتب " يخلق أسلافه... ففي كل تلك النصوص شيء من كافكا، غير أنه لو لم يكتب كافكا ما استطاع أحد أن يلاحظ ذلك... فإنتاجه يعدل تصورنا للماضي مثلما يعدل تصورنا للمستقبل." ولنا أن نتخيل كيف تستطيع هذه الطريقة أن توسع من أفق المتلقي ولا تجعله يكتفي بالنظر إلي الحدود القريبة، أو يكتفي بترديد كلمة الجيل التي تحبس النصوص في قفص زمني كل عشر سنوات، بل تجعل تلقيه إبداعا في حد ذاته لأنه يصل بين نصوص وكتاب متفرقين زمنيا ومكانيا. وبقدر ما يثري النص بهذه الطريقة فان المتلقي يثري بدوره من اتساع أفق قراءاته وتأملاته. وفي مقالات وكتابات المبدعين النقدية التي تركت أثرا تتضح ملاحظة أنهم كتبوها علي نفس الأرضية التي ينطلقون منها في كتابة نصوصهم الإبداعية. كونديرا في كل كتبه النقدية ينشغل بالكتابة عن الأعمال التي تصير فيها الفلسفة وتأملات الكاتب جزءا من السرد ونابعة من أحداث الرواية. ولا يقصد الفلسفة الموجودة في الكتب المدرسية أو كتب الفلاسفة بل فلسفة تخص الرواية ولا تستطيع سوي الرواية أن تقوله، وتتشكل حسب شخصياتها وما تواجهه من مواقف. ولا يعني هذا أن المبدعين يكتبون عما يحبونه فقط بل يعني في الأساس أنهم ضد العموميات والكلام النقدي المرسل الذي لا يكشف عن أي موقف أو ذائقة. ومقالات يحيي حقي تمتلك تلك القدرة التي تجعلك تتعرف علي ذائقته وكيف يتلقي الأعمال الفنية بمختلف أشكالها. وتكثر في مقالاته تلك المناطق الشائكة التي تلتبس فيها أحاسيسه ومشاعره إزاء بعض الأعمال والأشخاص. ويحرص علي أن يظهر هذا الالتباس للقارئ دون أن يتسرع بحله، بل يتركه كمنطقة جديرة بإعادة النظر. ولنتذكر مقالته أنشودة البساطة ومقالاته عن روايات نجيب محفوظ وما كتبه عن شخصيات أدبية مثل المازني. ونقاد قلائل في ثقافتنا العربية القادرون علي كتابة مقالاتهم ودراساتهم من منظور إبداعي، وأهمهم عبد الفتاح كيليطو الذي لا ينشغل بتقسيم تراثنا العربي إلي عصور ومذاهب والاكتفاء بالحديث عن سمات عامة تختزل النصوص التراثية وتقضي علي الحياة فيها، بل يتوقف عند تفاصيل وأحداث تبدو صغيرة ومتوارية في كتب التراث لكنها من خلال تأملاته ومعايشته لها تبدو أنها مازالت قادرة علي الحياة حتي الآن.