ان تحديد هذا المصطلح، يحتاج أن نسترجع مفهوم بنية بلاغية تراثية، هي بنية (التورية) وهذه البنية، مادتها اللغوية مأخوذة من (وريت) الخبر، إذا سترته، وأظهرت غيره، ولذا سماها البعض (الإبهام)، أما المعني الاصطلاحي لهذه البنية، كما حددها البلاغيون، فهي: استخدام كلمة لها معنيان، أحدهما قريب، والآخر بعيد، والمراد هو المعني البعيد، فإذا قلت لشخص: (رأيت عينك اليوم) كان المعني القريب: (العين المبصرة) لكنه غير مراد، أما المعني البعيد، فهو: (الجاسوس الذي يعمل لحساب هذا الشخص) وهو المراد. ومن يتابع تاريخ هذه البنية في التراث العربي، سوف يلحظ أنها كانت نادرة الحضور في الخطاب الأدبي القديم شعرا ونثرا، وذلك راجع إلي الواقع الاجتماعي آنذاك الذي لم يكن في حاجة إلي المداراة، أو الخداع، أو الإبهام، فطبيعة العربي في بيئته الصحراوية، كانت: المواجهة المباشرة الصريحة، اللهم إلا في حالة واحدة، هي حالة (الشعر الغزلي) الذي كان يحتاج إلي مثل هذه المداراة حرصا علي التقاليد والعرف القبلي. لكن مع التطور الحضاري، واتساع مفهوم السلطة من القبيلة إلي الدولة، أخذت البنية في التردد، ومعها أبنية مماثلة، مثل: (الكناية، والتعريض، والأسلوب الحكيم) وغيرها من الأبنية التي تعتمد الاخفاء، أكثر من الإظهار. كان هذا التقديم ضرورة حتمية، ونحن في مواجهة مصطلح طاريء، هو مصطلح (العولمة) والكلمة منحوتة من (المجتمع العالمي) علي نحو (الحوقلة) منحوتة من قولنا: (لاحول ولا قوة إلا بالله). والحق أن هذا المصطلح ينطبق عليه مفهوم بنية (التورية) علي النحو الذي أوضحناه، فالعولمة في مفهومها القريب: الدخول في النسق الانساني حضاريا وثقافيا، أما مفهومها البعيد، فهو: الدخول في النسق الحضاري والثقافي الأمريكي، وهو المعني المراد. فما الذي تستهدفه العولمة من فرض هيمنتها علي المجتمع الانساني، وبخاصة بعد سقوط الكتلة الشرقية، وانفراد أمريكا بالعالم لتضعه داخل حظيرتها الحضارية والثقافية؟ ان الاجابة علي هذا السؤال تحتاج إلي أسفار مطولة، لكننا سنحاول في المقالات القادمة أن نتابع بعض هذه المستهدفات، كما سنتابع الاجراءات التي مارستها، ومازالت تمارسها العولمة لتحقيق مستهدفاتها الخاصة والعامة.