في المطعم الياباني بالكويت ، جلسنا نحدق جميعا في صديقنا المصور الأسباني (خورخي استيفا) وهو يأكل "السوشي" ممسكا بمهارة العصا اليابانية الشهيرة.. قال د.خالد العزب:الثقافة العربية لم تعرف الأطعمة النيئة ابدا ، بسبب مفهوم الدم ، ومفهوم الحلال والحرام .. قلت:لكن الشوام يأكلون "الكبة النيئة" والمصريون يأكلون "الفسيخ" قال: "الكبة النيئة" دخلت إلي الشام من المطبخ التركي، والأتراك في الأصل ، هم قبائل رحل من أواسط آسيا ، أما "الفسيخ" فهو ثقافة فرعونية، قائمة علي حفظ الطعام. (الطعام الحرام) قضية الساعة في فرنسا الآن،بسبب تزايد أعداد المهاجرين،خاصة (الجزائريين) .. هذا ما توقف أمامه كثيرا الشاعر اللبناني المقيم في فرنسا (صلاح ستيتيه) في كلمته الافتتاحية بملتقي مجلة العربي الحادي عشر (الثقافة العربية في المهجر)..!! جمال الغيطاني أيضا يري في الطعام ذاكرة ، وهوية ،وهو أحد أشكال التواصل والحنين إلي الوطن.. كان الطاهي الياباني يشوي الطعام أمامنا بدقة فائقة، ثمة ترتيب محسوب ، ومنهجية في وضع الطعام وصفه بصورة معينة،ثم تقليبه أيضا بطريقة معينة..ثمة حالة من الجدية والصمت والانغماس يمارسها الطاهي، لا يستجيب فيها لصيحات الإعجاب ، ولا يلتفت إلي أي أسئلة.. طقس الطعام جزء من الثقافة اليابانية ، أو الهوية اليابانية، وهو أيضا أحد أشكال التواصل في الحوار الحضاري الذي يقيمه الياباني مع الآخر ..هذا ما حاول أن يوضحه الشاعر السوري المقيم في اليابان منذ أكثر من عشرين عاما (محمد عضيمه).. ثمة مسافة واختلاف في السؤال ، ومساحة أكبر في طريقة النظر إلي الأمور.. يشعر الياباني بالارتباك والحيرة،ولا يعرف بالضبط كيف يجيب إذا سألته عن دينه، وماذا يعبد،لأنه فعلا لايعرف، ولا يتعلم ذلك في المدرسة..في المقابل يشعر العربي بالحيرة والارتباك حين يصر الياباني علي سؤاله عن الوجبة الوطنية ،أو المشروب الوطني،فهو أيضا لا يعرف، ولم يتعلم ذلك في المدرسة البحث عن المهاجرين الجدد.. أسباب عديدة لاختيار (الثقافة العربية في المهجر) موضوعا للملتقي العربي السنوي هذا العام (12-15 مارس) في كلمته الافتتاحية حدد د. سليمان العسكري الحوار مع الآخر،هدفا أساسياَ للملتقي،والبحث عن صيغ للتفاهم ،بعيدا عن حالة التربص الممتدة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية ،والتي أسهم الإعلام في إشعالها ، وتمزيق علاقاتها.. أحداث سياسية متتالية، اضطرابات، واشتباكات فرضت الكثير من الاهتمام بالمنطقة العربية .. 11 سبتمبر ،تصاعدالثورة التكنولوجية ،أيضا الثورات العربية فرضت الكثير من الاهتمام ، لكن (السياسي) هو ما يشغل العالم ،أكثر من الثقافي والمعرفي.. والتربص هو شكل العلاقة أكثر منه الرغبة في الحوار والتفاهم. لكن طموح ملتقي العربي هو الحوار ، الحوار الآن،والتفاعل مع المهاجرين الجدد كلام العسكري ربما يتوقف أمام العلاقة العربية الأمريكية ،أو العلاقة العربية بالآخر الغربي (الأوروبي) بينما شهادة محمد عضيمه حول الثقافة العربية في اليابان تكشف مساحات الغياب..لا تفاهم ،لا تربص ، لا توتر ،ولا حوار بالأساس بين الثقافتين العربية واليابانية. طموح الملتقي في الكشف والتفاعل مع الأجيال الجديدة بالنسبة للمهاجرين العرب ،تعثر في تقليدية أوراق البحث المقدمة..أكتفي د.جابر عصفور ،ود.محسن الموسوي بإعادة إنتاج صورة المهجر القديم، والحديث عن (الغربة)، و(الحنين) و( الاغتراب )، الحديث عن ( أحمد شوقي)، و(البارودي) ،وعن غربة البياتي الأشد وطأة من غربة محمود درويش.. كلام د.جابر عصفور والموسوي بدا كلاما قديما ،لم يستطع التواصل مع فكرة المهجر الآن، ولا المهاجرين الجدد ،وهو ما تقاطعت معه د.ليلي المالح( الأستاذة بالجامعة الكويتية) حين طرحت حميمية العلاقة بالمهجر الآن، واختلاف صورة المهجر عن صورته من قبل ، لم يعد المهاجر أو المنفي يشعر بثقل الانتقال ، لم يعد مشغولا بالحنين ولا النوستالجيا ، ربما تجاوزت د. ليلي بالإشارة إلي أن الربيع العربي يٌدار أحيانا من دول المهجر(في إشارة إلي سوريا) ! احتد الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير وهو يقاطع طارق الطيب:ما هو طبيعة الخطاب الذي تقدمه إلي الآخر الأوروبي ؟ قال الطيب:ليس لديّ خطاب! :ما فلسفتك في الحوار؟ :أنا لست فليسوفا، إنني مسكون بالآخر أيضا. :أنا لا أتكلم عن الشعر ، أتكلم علي أرض الواقع بدا الحوار عبثيا، لا جدوي منه ، لكل زاوية نظرة ،ولا رغبة حقيقية في التواصل أو الحوار.. الباحث الإيراني(موسي بيدج) يشير إلي أمرين هامين في الثقافة العربية في إيران..الثورة الإيرانية كانت سببا في استعادة اللغة العربية مكانتها في سلم الأولويات بين لغات العالم..والرؤية السياسية، حيث صعود فكرة المقاومة ودعم القضية الفلسطينية كان سببا في ترجمة الأدب العربي إلي الفارسية. الخروج إلي الشتات الأرقام التي قدمها د.سليمان عبد المنعم رئيس مؤسسة الفكر العربي، حول هجرة العقول العربية ، أرقام مخيفة، ودلالتها أشد وطأة..مصر وسوريا في مقدمة البلدان الطاردة للكفاءات..مليون خبير عربي في الدول المتقدمة 54٪ من الطلاب العرب الدارسين في أوروبا لا يعودون إلي بلدانهم ، بينما يعود إلي الصين 95٪ من الباحثين الصينيين بعد استكمال دراستهم .. الأخطر حجم الخسائر العربية بسبب هجرة العقول 200 مليار دولار !! اختلف الباحثون حول المصطلح (المهجر) أم (المنفي ) أم (الشتات) الذي وجدته د.ليلي المالح المصطلح الأدق ،والأكثر دلالة في التعبير عن المهاجرين الجدد وعن فاعلية حركتهم. التبس أيضا موضوع الملتقي في أذهان الجميع ..البعض تكلم عن (الغربة) و(الاغتراب)، هجرة المكان ،وهجرة الروح..هناك من انشغل بالحديث عن الهجرة إلي بلد آخر، ومن انشغل بالحديث عن الهجرة إلي لغة أخري..لكن كيف أبدع المهاجرون خارج أوطانهم ؟ ما طبيعة الحوار مع الآخر؟ كيف أختلف شكل المنفي ؟ ومن هم المهاجرون الجدد؟..أسئلة بدت بعيدة ، لم يناقشها أحد.. طارق الطيب شاعر وروائي، يقيم في النمسا منذ 28 سنة، من أب سوداني وأم مصرية أسأله :ما الذي يربطك بالسودان قال: لون البشرة ولد طارق بالقاهرة 1959 ثم غادرها في الثمانينيات ، حين لم يستطع الالتحاق بالجامعة، ، وتعقدت المشكلات أمام غير المصريين ،فسافر إلي النمسا، تزوج نمساوية ،وحصل علي الجنسية النمساوية ، وأصبح محاضرا في ثلاث جامعات، قام بتمثيل النمسا في 5 مؤتمرات عالمية ، بل تم تعيينه سفيراً للنمسا لعام الحوار الثقافي 2008.. يمكننا هنا أن نحور عنوان المؤتمر من ( الثقافة العربية في المهجر) إلي (المهجر في الثقافة العربية),