الإصحاح الأول حاصرنا الحصار، ونزلت دموع السماء من أحداق الجنون، ففتحنا أفواهنا نلتمس شيئاً من بركاتها، وجاءت النسوة واحدة تلو الأخري تعجن أبناءها بدم المباركين، وانتظرنا حتي تنفرج السماء فتخرج لنا من الأرض ينبوعاً وجنة من نخيل، لكننا بقينا طويلاً دون أن نحظي بشيء, حتي كاد أن يُقضي علي الشيوخ الصابرين وتضع كل ذات حمل حملها، فقال الرب حينها مخاطباً أبناءه سمن أهل قشتالة بصوت ضج الأركان: "تسلطوا علي سمك البحر وعلي طير السماء، وعلي البهائم وعلي كل الأرض وعلي جميع الدبابات التي تدب علي الأرض"، فعلمنا لحظتها فقط، بأننا هالكون لا محالة".
الإصحاح الثاني يا أبنائي: "إني قد أعطيتكم كل بقل يبزر بزراً علي وجه كل أرض وكل شجر فيه ثمر. لكم يكون طعاماً ولكل حيوان الأرض وكل طير السماء وكل دبابة علي الأرض فيها نفس حية أعطيت كل عشب اخضر طعاماً". استبشرنا خيراً، وخرجنا نبحث عن قوت عيالنا في الحقول المجاورة يتقدمنا بن أبي الغسان ، يسير/ نسير بحذر علي أطراف أقدامنا، يتلصص بعضنا علي جند إيزابيلا وفريناند المتمترسين في الخارج، وبن أبي الغسان يصوب سهامه تجاه اللاشيء، وقبل أن نوغل في العتمة نكتشف بأن الكروم والحقول والمزارع قد أُحرقت جميعها، فأضحت الدنيا مناراً لموت القادمين... نبكي دون أن يواسينا أحد، يهتف موسي بصوت خافت: - عودوا أدراجكم، فقد أختاركم الله لأمر كان مفعولا. ثم متابعاً: - ليعلم ملك النصاري أن العربي قد ولد للجواد والرمح. نعود دون أن نجد شيئاً غير مشقة الطريق، وبعض الكلاب الضالة والخيول التائهة التي نأخذها متلهفين لوليمة قد تسمن أو تغني من جوع. وعند حلول المساء تنتشر في المملكة رائحة العفن.
الإصحاح الثالث دام الحصار سبعة أشهر عجاف، حتي هلك الزرع والنسل، فقال أهل غرناطة لمليكهم: - ائتنا برؤية أو حلم فيه بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، علنا نعود بعد السبع إلي سابق العهد، فتشرق الأرض بنور ربها. لكن الصغير لم يفهم مقصدهم وظل يتمايل كما الغواني يعب الخمر عباً، مهدداً بقتل كل من يخرج عن طوعه، ثم آمراً الجند بإحضار الجواري كي يرقصن علي أنغام الحكاية الجديدة.
الإصحاح الرابع استعان الأندلسيون بإخوانهم في إمارات المغرب العربي، وصاروا يهتفون بمجد الإله، يذكرونهم بحق الدين والرحم والجيرة والقرابة، والمغرب يتفكك، ينزوي، يموت، وأهل غرناطة يوصدون الأبواب، يحتمون بأسوارها، وشبح النهاية يراودهم، الفصل الأخير من الحكاية كأنه سينتهي. وكأن المرض والجوع والحرمان سيختفيان مع عهد ملون جديد، يبشرهم بالأحمر القاني، يريحهم من عناء الريح، وصوت من السماء يجلجل في صدروهم، اصبروا وصابروا ورابطوا، فيفعلون، ويفعلون، والصغير يغني، يرقص طرباً، ما زال في العمر بقية، والجند يبيعون أسلحتهم من أجل لقمة مغمسة بالذل. (تراتيل وصلوات هامشية) الحصار يشتد، براً وبحراً، السفن تطلق شبقها للدم، تمخر عباب الريح، فتبكي عجوز تضرب في الرمل، وهي تعبث بأشيائها المبروكة، تقول: - لو كان الجو مِلكاً لهم لقتلونا واستراحوا. وعند بوابة قصر الحمراء تخلع المرأة ملابسها أمام الحرس، وتظل ترقص والدموع تتساقط بغزارة حتي تغرق عيون الآخرين بحزنها، ثم تطلق صرخة مدوية في وجه الصغير: - أخرج يا ملعووووووووووون. الذهول يحاصر المملكة المحاصرة، يلتف الناس حولها، يحاول أحدهم ستر جسدها، لكنها تجري كطفل لم يبلغ الحلم بعد، تنادي وخلفها الصبية: - سنموت علي ألا تسلمها لهم أيها الزاني. يغشي علي المرأة، تموت، والرجال يتهامسون فيما بينهم عن تسليم آخر معاقل المسلمين لأهل قشتالة، يخرج أحد الرجال عن طوره، يسأل وهو يلعن ويسب: - ومن الذي سيفاوضهم؟ وعلي ماذا سيفاوضون؟ يتردد بين جواري القصر حواراً يسمعه الذين يموتون كل يوم ألف مرة: - إنهما الوزير أبو القاسم، والوزير يوسف بن كماشة. وأبو القاسم يفاوض بتودد، يوافق دون إبداء أي اعتراض، يقبل شروط الرب المباركة، طامحاً في مصلحة له ولأبنائه ولحاشية الأمير، سيكونون عبيداً لدين قشتالة، سيفعلون ما يريد الرب، سيقدمون دماء إخوانهم من أجل خبز طازج، فالذهب عزيز كالدين.
الإصحاح الخامس خلت المساجد من العامة، وصار مسجد غرناطة مزاراً للهائمين في الملكوت، بعد أن تحول بقوة الشيطان وجبروته إلي كنيسة عظيمة، سامقة، ورب الجنود يهتف: "من مشرق الشمس إلي مغربها، اسمي عظيم بين الأمم، وفي كل مكان يقرب لاسمي بخور و...". والكنيسة تصاب بالعمي، تخطفها العتمة كل يوم، حتي تختفي المصابيح الذهبية المحاطة بالمسجد/ الكنيسة. وتخلو الشوارع من الأنوار، إلا من وجوه نساء غرناطة الفاتنات.
الإصحاح السادس ها هو ذا يأتي اليوم المتقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الأتي فلا يبقي لهم أصلاً ولا فرعاً، فتكتسي الكآبة النفوس، ويشتعل الناس غضباً، يتوارون في بيوتهم بعد نبأ المعاهدة السرية بين فيرناند وأبي عبد الملك، يذوبون في الجبن، ينامون هائمين بالطوفان والجراد والدم آيات للمستكبرين، وحين تنعدم الرؤية ولا يتحقق من ذلك شيء، يخرجون عن طورهم، فيعتلون أسقف البيوت، والمساجد، يكبرون، يهللون، والسماء تُقسط حمماً، كأنها الثورة، وكأنها حلاوة الروح، وفي الفضاء تحاصرهم السحب، دون أن يتوقفوا، يزفرون صيحاتهم في أرجاء المعمورة، فيقرر الصغير تسليم المدينة باكراً، لتُطلق مدافع الحمراء، إيذاناً بالتسليم، فتدخل قوات الرب متجهين نحو القصر، يرفعون صلبانهم فوق أبراجه، وأم عبد الله الصغير تهدهد ابنها بانكسار: "ابك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه كالرجال".
ترانيم الجنون (من إصحاح لكتاب غير معروف) يغطي الظلام مملكة غرناطة في لحظة خاطفة، حتي إذا أخرج الواحد منهم يده لم يكد يراها، وتستشري الريح تجوب الحواري والدروب، فيتفرق بنو الأحمر في كل اتجاه، حائرين، تائهين، يتخبط الواحد فيهم بالآخر دون أن يعتذر أو يفكر بالمشاجرة، وكأن الناس سكاري، بعد أن يتهادي إلي أسماعهم أن عذاب الله واقع اليوم لا غداً، وأن الدنيا توشك علي الهلاك. والصغير لا يتورع عن الإنابة إلي بارئ الكون، بل يأخذ في البحث له عن جارية في مخاض المملكة الأليم، يفتش في أرجاء قصره دون أن يجد أحداً، بعد فرار الجميع إلي الشمال والجنوب، وهناك يلوح له صورة شبح أمرد، فيسأل بوجل: - أيها العبد، من تكون؟! ينتظر أي إجابة تصدر عن الهلام المنتصب أمامه، إلا أن انتظاره يطول، فيعاود سؤاله مرة أخري وأخري، دون أن يحظي بأي إجابة تشفي غليل روحه، فيدرك لحظتها فقط بأنه يهذي وبأن المرض قد حل بجسده جراء تهدم القلاع وسقوط المملكة بيد الشيطان، ومع خيالاته تهب الريح بقوة في أرجاء المكان فيفقد كل ما يملك من حظ الرجولة، يبول علي نفسه في ثيابه الوثيرة، فيظهر وجه المارد كاملاً، متحصناً بأسمال رثة، مهترئة، وصراخه يهز المكان: - أبا عبد الله، إني أري في المنام أني أذبحك. الوجوم يصيب الجسد المتراقص، والوجه يمسي شاحباً، بينما تتكرر الترانيم: - أبا عبد الله، إني أري في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا تري؟! كأنه يبول علي نفسه من جديد، وكأنه نسي كل آيات الذكر التي حفظها مذ كان صغيراً، فصار يهذي بقصائد ابن زمرك وابن الخطيب، والهلام يتقدم ببطء نحو الصغير الذي لم يعد يفكر بالجواري أو القصر أو المملكة، حتي يقع متعثراً علي قفاه، وحين يظهر نصل السيف لامعاً، يزدرد ريقه ألف مرة، ويصرخ مغمضاً عينيه: - أرجو لا تقتلني، وخذ ما تشاء من المملكة. - ........................................ - أرجوك، افعل ما تري، خذ ما تريد، لكن لا تقتلني. وقبل أن ينزل السيف علي رقبته المنتحرة، تتخثر الأرض بالدم، ويتعبق الجو بأريج الموت، فينظر العبد الأسود من شبابيك القصر وقد هاله المنظر، ليكتشف بأن نساء غرناطة ما زالت تُنحر كالخراف، فيطلق صيحته المجنونة ثم يولي خارجاً إلي حتفه.