"لا هذا الشّاعر، ولا غيره من المعروفين شخصيّاً لي، ولا أي شاعر آخر في الواقع كتب أبداً شيئاً عظيماً تحت التأثير الخالص للمشروبات الروحيّة. كل الأعمال الجيدة نشأت بتأثير الرصانة الموجعة المضنيّة، دون أي لذّة تطنُّ في الرأس". هذه هي القناعة الكئيبة للشاعرة البولندية المتوفاة مؤخراً فيسوافا شيمبوريسكا، وقد كتبتها في إحدي نصائحها لأحد القراء ممن أراد كتابة الشعر. يمكن لهذه النصائح، المنشورة في الصحافة البولندية، أن تشكل كنزا لمن يطمحون في كتابة الشعر، بالإضافة إلي الدرس الأخلاقي البسيط المتضمن فيها: لا تهمل أبدا قراءة الرسائل الواردة إليك والاهتمام بها، حتي لو كان اسمك فيسوافا شيمبوريسكا، عدا وهو الأهم الأساس- عن كون الرسائل قد تعد قصائد نثرية بالأساس. نقوم هنا بنشر كثير من تلك الرسائل. إلي هليودور من بريزميسل: "تكتب قائلاً: "أعلم أنّ قصائدي بها الكثير من الأخطاء، لكن وإن يكن، فسأكفّ وأصلحها"، ولِمَ ذلك يا هليودور؟ يجوز لأنّك تتعاطي الشعر بوصفه بالغ القداسة؟ أو ربّما تعتبره أمراً تافهاً؟ كلا الطريقين في التعاطي مع الشعر خطأ، والأسوأ أنّهما يجردان الشاعر المبتدئ من ضرورة تجويد أبياته. من اللطيف والمجزي الكشف لمعارفنا أنّ ربّة الشعر تتلبسنا في الثالثة إلا الربع ظهر الجمعة، إذ تشرعُ في الهمس بأسرارها المبهمة في آذاننا بحماستها المعهودة درجة أنّه بالكاد يتسع لنا الوقت لتدوينها. لكن في البيت، خلف الأبواب الموصدة، نصحح بدأب، نشطب، وننقّح تلك الكلمات القادمة من العالم الآخر. التحليق بعوالم أخري لا بأس به ويأتي بالمقام الأول، لكن لكل قصيدة جانبها المبتذل". إلي ه.و. من بوزنان ، مشروع مترجم: "علي المترجم التزام الوفاء لا للنصّ فحسب، بل عليه أيضاً إظهار الجمال الكامل في الشعر في حين يستبقي شكله ويحافظ تماماً قدر الإمكان علي أسلوب وروح حقبته الزمنيّة". إلي جرازيانا من ستاراخويس: "هيّا نخلع عنا الأجنحة ونجرّب الكتابة فوق الأرض، هلا فعلنا؟" إلي السيد ج.ك ر من وارسو: "تحتاج قلماً جديداً. القلم الّذي تستعمله يرتكب الكثير من الأخطاء. لابد أنّه أجنبي". إلي بيجاسوس (هكذا) من نيبولومايس: "تتساءل بكلمات مقفّاة إن تكن الحياة تنتج سنتات (هكذا). يجيب قاموسي بالنفي". إلي السيد ك.ك. من بيطوم: "تتعاطي مع الشعر الحرّ وكأنّه شجار عام. سوي أنّ الشعر (أيّاً ما قد تقوله) هو، وقد كان، وسيظل دائماً لعبة. وكما يعرف أي طفل، لكل الألعاب قواعد. لذا لِمَ ينسي كل الراشدين؟". إلي بوشكا من رادوم :" حتّي السأم ينبغي وصفه باستمتاع. كم أمراً يحدث باليوم حين لا يحدث شيء؟" إلي بوليسلاف ل-ك من وارسو: "أوجاعك الوجوديّة تبلغ حدّاً من التفاهة بسهولة بالغة. لدينا ما يكفي من العمق البائس والقاتم. "الأفكار العميقة" يقول عزيزي توماس (مانّ، طبعاً، ومن غيره) "ينبغي أن تدفعنا للابتسام". إذ أقرأ قصيدتك "محيط" نلفي أنفسنا نتخبّط في بركة ضحلة. عليك التفكير في حياتك بوصفها مغامرة فريدة تحدث لك. تلك نصيحتنا الوحيدة بالوقت الراهن". إلي ماريك، من وارسو كذلك: "لدينا مبدأ أنّ كل القصائد بشأن الربيع تفتقر الأهليّة بشكل آلي. لم يعد هذا الموضوع موجوداً في الشعر. إنّه يواصل الازدهار بالحياة ذاتها، طبعاً، سوي أنّهما شأنان مختلفان". إلي ب.ل.من محيط فروكلاف: "الخوف من الكلام المباشر، المساعي الجاهدة المستمرة لبثّ الاستعارة بكل شيء، الحاجة التي لا تنقطع لإثبات أنّك شاعر في كل سطر: تلك المخاوف هي التي تحيط بكل شاعر ناشئ، سوي أنّها قابلة للشفاء إن جري الانتباه لها بالوقت المناسب". إلي زتبا. ك.من بوزنان: "لقد نجحت بإقحام أكثر الكلمات شموخاً بثلاث قصائد قصيرة أكثر مما فعل أغلب الشعراء طوال حياتهم: "أرض الأسلاف"، "الحقيقة"، "الحريّة"، "العدل": مثل تلك الكلمات لم تتحقق بلا ثمن، ثمّة دماء حقيقيّة تجري بها، لا يمكن تزييفها بالحبر". إلي ميخال من نافوتارك: "لقد حذّر ريلكه الشعراء الشباب من الموضوعات الضخمة الجارفة؛ لأنّها الأكثر صعوبة وتتطلّب نضجاً فنيّاً عظيماً. وأشار عليهم بالكتابة عمّا يرونه حولهم، كيف يعيشون كل يوم، ما خسروه، وما اكتشفوه. وحثّهم علي الدفع بالأمور التي تحيط بنا إلي فنّهم الشعري، صور من الأحلام، ووجوه برزت بالذّاكرة. "إن تبدو الحياة اليوميّة جدباء لك" هكذا كتب، "لا تلق باللوم علي الحياة. فأنت من يجب لومه. أنت لم تبلغ درجة كافية من الشعر لإدراك ثراءها". ربما تبدو هذه النصيحة مملّة وبلهاء بالنسبة لك. وهذا هو سبب استدعائي واحداً من أكثر الشعراء المقصورين علي فئة معينة إلي مرافعتي وأبصر فحسب كيف امتدح ما نطلق عليه أموراً عاديّة!" معرفة الأدوات إلي أولا من سوبوت: "تعريف للشعر بجملة واحدة حسناً. نعلم علي الأقل خمسمائة تعريف للشعر، سوي أنّ لا شيء منهم يُغير عُلينا بوصفه تعريفاً دقيقاً رحباً في آن بما يكفي. كل منها يعبّر عن ذائقة حقبته الزمنيّة. يقفُ تشككنا الفطري حائلاً بيننا وبين تجريب يدينا في صياغة تعريفنا الخاص. غير أنّنا نتذكّر قول كارل ساندبرج المأثور اللطيف: "الشعر دفتر يوميات حفظه مخلوق بحري يعيش فوق البرّ ويتمنّي لو تمكّن من الطيران" ربّما ينجح في تحقيق أمنيته حقّاً بواحد من تلك الأيام؟". إلي ل-ك ب-ك من سلوبسك: "نطلب المزيد من شاعر يقارن نفسه بإيكاروس أكثر مما تكشف القصيدة الطويلة المرفقة في الرسالة. سيد ب-ك، لقد أخفقت في افتراض أنّ حقيقة أنّ ايكاروس اليوم يرتفع فوق مشهد مُغاير كما فعل بالعصور القديمة. إذ يشهد طرقاً سريعة مُغطّاة بالسيارات والشاحنات والمطارات وممرات الإقلاع والمدن الشاسعة والمرافئ الحديثة الباهظة، وخلافها. ربّما لم تندفع طائرة نفّاثة بجوار أذنه بين الحين والآخر؟" إلي ت.ف.، كراكوف: "في المدرسة ما من وقت يُنفق، للأسف، في التحليل الجمالي للأعمال الأدبيّة. تسقط الأفكار الرئيسيّة تحت وطأة سياقها التاريخي. مثل تلك المعرفة بالطبع حاسمة ، سوي أنّها لن تفي بالغرض لأي امرئ يرغب في أن يكون قارئاً مستقلاً صالحاً، ناهيك عمّن هم ذوو طموح إبداعي. مراسلونا الشباب غالباً ما يصيبهم الذهول إذ يدركون أنّ قصائدهم بشأن إعادة بناء وارسو بعد الحرب أو مأساة فيتنام ليست جيدة. لديهم قناعة أنّ النوايا النبيلة تستبق الشكل. لكن إن ترغب في أن تصير اسكافيّاً لائقاً، فلا يكفي الحماس للقدم البشريّة. عليك أن تعرف جلدك، أدواتك، وأن تتناول القالب المناسب، وهكذا... وهو ما ينطبق أيضاً علي الإبداع الفني". الرصانة الموجعة إلي السيد بر.ك.من لاسكي: "قصائدك النثريّة تتخللها شخصيّة الشّاعر العظيم الّذي يُبدع أعماله الفريدة في حال من نشوة الكحول. قد نقوم بتخمين جامح بشأن الشّاعر الّذي يسيطر علي مخيلتك، غير أنّها ليست الأسماء ما تعنينا بالتحليل الأخير. بالأحري، هي قناعة مُضللة أنّ الكحول يُسهل فعل الكتابة، ويُشجّع المُخيّلة، ويشحذ القريحة، وينجز وظائف أخري كثيرة مفيدة في تحريض ربّة الشعر. عزيزي السيد ك. لا هذا الشّاعر، ولا غيره من المعروفين شخصيّاً لي، ولا أي شاعر آخر في الواقع كتب أبداً شيئاً عظيماً تحت التأثير الخالص للمشروبات الروحيّة. كل الأعمال الجيدة نشأت بتأثير الرصانة الموجعة المضنيّة، دون أي لذّة تطنُّ في الرأس. "لطالما كان لديّ أفكار، لكن عقب تناول الفودكا يصيب رأسي الصداع" قال فيسبيانسكي. إن احتسي شاعر خمراً، فهو بين قصيدة وأخري. تلك هي الحقيقة الصارمة. إن يعزز الكحول الشعر العظيم، إذن فثلث مواطني أمّتنا ليصيروا هوراس علي الأقل. ومن ثمّ فنحن مضطرون مع ذلك لتفجير أسطورة أخري. نأمل بالخروج سالمين من أسفل الأنقاض". إلي إ.ل.في وارسو: "يجوز يمكنك تعلّم الحبّ نثراً". إلي إسكو من شيرادز: "الشباب في الواقع فترة فريدة في حياة المرء. إن يضيف المرء طموحات تتعلّق بالكتابة إلي صعوبات الشباب، فعلي المرء أن يمتلك بنيّة قويّة استثنائيّة لمغالبتها. لابد أن تشمل مكوناتها: المثابرة، الاجتهاد، القراءات الواسعة، الفضول، قوّة الملاحظة، وجود تفصل بين المرء وذاته، الحساسيّة تجاه الآخرين، عقليّة نقديّة، خِفّة الروح، وقناعة ثابتة أنّ العالم يستحقّ أ - أن يستمر موجوداً ب- حظّاً أفضل مما لاقاه حتّي الآن. المساعي التي أرسلتها تشيرُ فحسب للرغبة في الكتابة دون وجود للفضائل الأخري الموصوفة أعلاه". إلي كالي من لودز: "لِمَ" هي الكلمة الأكثر أهميّة في لغة هذا الكوكب، ومن الجائز في تلك المجرّات كذلك". إلي السيد بالزيت من سكاريسكو- كام : "تطرح القصائد التي أرسلتها أنّك أخفقت في إدراك اختلاف أساسي بين الشعر والنثر. مثلاً، القصيدة المعنونة ب "هنا" هي ببساطة محض وصف نثري متواضع لحجرة وما بها من أثاث. في النثر مثل هذا الأوصاف تؤدي وظيفة محددة: تهيئ المسرح لترقّي الأحداث. في لحظة، ستنفتح الأبواب، وسيلجُ شخصٌ ما، وسيحدث أمرٌ ما. في الشعر لابد أن "يجري" الوصف في ذاته. كل شيء يصير فريداً، معبّراً: اختيار الصور، توظيفها، الأشكال التي تتخذها في كلمات. لابد أن يصير وصف حجرة عاديّة أمام عيوننا هو الاكتشاف لتلك الحجرة، ويجب تقاسم الإحساس الّذي ينطوي عليه هذا الوصف مع القراء. وإلا، سيبقي النثر نثراً، لا يهمّ مدي الصعوبة التي تواجهها من أجل تقطيع عباراتك إلي سطور من الشعر. والأسوأ، ألا يحدث شيء بعد ذلك".