صداع من كحول مغشوش في سهرة أمس، وحبتا باندول، وحموضة في المعدة. كل هذه المعوقات لم تؤثر في غضبي مما يجري لجدتنا الكبري"شهرزاد". كأن شارع القاهرة الثقافي ينقصه مصيبة من هذا النوع: أن يتبرّع كائن معلول ومعتوه وأبله بإقصاء "ألف ليلة وليلة" من رفوف المكتبة العربية. النص الذي طالما شعرنا بالاعتزاز في الانتساب إليه، يجب أن نحوّله إلي رماد. كنت اعتقد واهماً أن محاكم التفتيش العربية، انتهت إثر إشعال النار في كتب ابن رشد، لكن "حملة المشاعل" لم يغادروا المقبرة إلي اليوم بوجود مزيد من الأكفان. يجلس أحدهم علي القهوة، أو أمام التلفزيون، ويفكر بالشهرة مثل أي مغنّي مغمور، فيهرش دماغه المعطوب والمحشو بالديدان إلي أن يجد فكرة مبتكرة للشهرة. هكذا واجه الفكر العربي المستنير طوال نصف قرن من الحداثة قائمة من المحرمات . هذه المرّة وقع الاختيار علي أعظم نص سردي عربي" ألف ليلة وليلة". أتساءل بحنق: هل بقي ما هو حيّ ونابض ومتدفق في جسد الثقافة العربية حتي يخدش الحياء العام؟ جسد متهالك بأسمال بالية يستحق الشفقة وليس المحاكمة.الكتاب الذي ظل بمأمن من "التحرّش"، أتي دوره أخيراً، لنفقد بذلك معني الحكي إلي الأبد.كأن مشكلة العقل العربي اليوم في ثقافة "السماع"، أما ثقافة الصورة الوافدة من "بلاد الكفرة"، فهي مباحة، طالما أن قنوات الفتاوي تبث علي الموجة نفسها. لعل المطلوب هو اسكات صوت "شهرزاد" بوصفه "عورة"، وهذه فتوي تخصني، أهديها مجاناً ومن دون حقوق، لمن وجد في هذا الكتاب ما يخدش حياءه. صراحة لا أعلم كيف تعمل أدمغة هؤلاء الذين يفتشون في ذخائر الموروث العربي عمّا يخدش الحياء، متجاهلين أن هذه النصوص كانت تُقرأ وتؤلف في قصور الحكّام والملوك، من قبل فقهاء، وإذا بها تصبح بعد قرون شبهة تستحق الرجم واللعنات. سؤال: هل قراءة عبارات"تخدش..." في كتاب، أشدّ مضاضة من فيديو كليب لمغنيّة حمقاء في بانيو حمّام مملوء بالرغوة؟ ثم من هو قارئ "ألف ليلة وليلة"، أليس شخصاً واعياً ومثقفاً غالباً، وهو في حال قرأ عبارة من النوع الخادش، هل سيقتحم الشارع علي الفور في حمّي اغتصاب لكل حفيدات "شهرزاد"؟ أم أن هذا القارئ سيكون سباكاً أو بائع خردة، وقد ترك عمله وتوجه إلي أقرب مكتبة لحجز نسخته من "الليالي"، ثم شعر بعد قراءة الليلة السابعة بعد المئة مثلاً، بأن هناك من يخدش عفته؟ تصوروا أن يخرج رجل إيطالي بفتوي تمنع"ديكاميرون" بوكاشيو؟ ألن يكون مصيره إلي اقرب مصحة نفسية من دون تردد؟ لعل العدالة تقتضي محاكمة أصحاب الفتاوي وليس "ألف ليلة وليلة" بجرم محو الذاكرة العربية، وأخشي أن يأتي يوم تُمنع فيه القهوة التي كانت محرّمة في يومٍ ما، ذلك أن النقد البوليسي لا يقف عند حد في تعميم الجهل في هذه الأمة المنكوبة. أخشي أيضاً، أن يأتي يوم بفرمان يختزل "ألف ليلة وليلة"، نتيجة المحو المستمر والحذف وشيوع عبارة"نسخة منقّحة ومهذّبة" إلي "مئة ليلة وليلة" بوصفها ضرباً من قصص الفتيان وحكايات الجدات قبل النوم وحسب، وزمناً كافياً لقطع عنق شهرزاد. أفكّر الآن بخورخي بورخيس، أحد أكثر المفتونين ب"الليالي العربية"، وكيف سيتلقّي خبر محاكمة كتابه المفضّل؟ أعتقد ببساطة أنه سيمزّق كفنه، ويستعيد بصره لفرط الدهشة والفزع.