لم ينقطع لدي الشعور طوال قراءة كتاب الصحفي والباحث اللبناني حسام عيتاني "الفتوحات العربية في روايات المغلوبين" بأن أؤلئك "المغلوبين" سيظلوا كذلك، وأن المنتصر بقدرته دوماً فرض وجهة نظره مهما حاولنا البحث عن "الحقيقة" أو علي الأقل... التماس السبل إلي نظرة حيادية، هذا ما يبدو من الفصول الأولي للكتاب، قبل أن يتمكن المغلوبون بشكل ما من استعادة التوازن وفرض رأيهم، وكأن الكتاب في ذلك يحاكي خطوات التاريخ. عنوان الكتاب يرسم للقارئ، وقبل أن يمضي في الإطلاع عليه، صورة مفترضة عن مضمونه، في حين أن الأمور في الداخل لا تمضي علي هذا النحو، فهناك صراع بين وجهتي نظر لل "الفتوحات العربية" كل منها يخالف الآخر بطبيعة الحال، والمؤلف حين يرصد الروايتين فإنه يترك للمتلقي ليس فقط مهمة إعمال عقله في تكوين رأي عما جري بالتحديد في تلك الحوادث، إنما أيضاً يستحثه علي أن يترك موقعه السلبي لينطلق من المعلومات والخطوط الإرشادية التي وضعها أمامه ويمارس دور الباحث بطريقته. بالطبع لابد من إدراك كم المشكلات الرهيب الذي قد يعترض بحثاً بهذه الفرادة والاختلاف عن السائد، وتلك المشكلات قد تبدأ من أن المؤلف يختلف في الأساس مع عنوان كتابه، فهو يدرك عبثية كتابة تاريخ أي شعب بالاستناد إلي مصادر من خارج مصادره ورواياته، وذلك "لسهولة الوقوع في غواية الرواية وحيدة الجانب، بقدر جاذبيتها". لا يحاول عيتاني في كتابه تسويد أو تبييض صورة الفتوحات عند القارئ المعاصر، فهو وإن كان يعتمد علي المصادر الأصلية، السريانية والبيزنطية والفارسية والعربية، لا يسعي وكما يؤكد إلي الحكم علي كلام ذلك المؤرخ أو ذاك بالصحة أو الصواب، بقدر ما يسعي إلي "نقل كلام هؤلاء إلي حيز الوعي النقدي العربي وضمه إلي ما يكون صورة العرب عن أنفسهم قديماً، في سبيل فهم ما داخل صنع صورة العالم عنهم، حديثاً، من أفكار وتقويمات ومبالغات أو رؤي". من هنا تحديداً تأتي صعوبة ذلك الكتاب، فعلي الرغم من اللغة السلسلة بل والرشيقة التي صيغ بها، إلا أنه يتركك كمتابع "لأحداث تلك العملية التي اتخذت شكل موجات امتدت، في الزمان، علي نحو قرنين، وفي المكان، علي ثلاث قارات" أمام حيرة لم تعتدها من قبل، فما عهدناه من الكتب والبحوث التاريخية أن تقرر لنا حقيقة واحدة، وفي ذلك الموضوع تحديداً فإننا كنا دوماً أمام حقيقتين، الأولي تقول بأن الفتوحات العربية انطلقت لنشر الدين (بما يعنيه من عدل وأمان وحرية)، والأخري تؤكد علي أن هذا الدين انتشر بحد السيف (بما يهدم من الأساس التصورات المثالية للدين). في كلتا الحالتين السابقتين كان الأمر عادة سهلاً ويسيراً علي الباحث التاريخي وعلي قارئه، فالباحث سيختار (بحسب ميوله واتجاهاته الإيدولوجية) واحدة من "الحقيقتين" ولن يعدم للتأكيد عليها حوادث سجلها مؤرخون، والقاريء سيتبع قلبه في عملية الاختيار وبمجرد الاطمئنان إلي حقيقة تكون مشكلته قد انتهت فسيجد في تلك النوعية من الكتب ما يجعله يمضي بقناعات موائمة لما يعتقد فيه. علي العكس من هذا، وبجرأة مدهشة، يعلن عيتاني في مقدمته أن "البحث عن "الحقيقة التاريخية" ليست من هموم كتابنا هذا". وقبل أن تنصرف عن كتابه للبحث عن تلك "الحقيقة التاريخية" في كتابات آخرين يقيدك بكلماته التي تؤكد علي أن تلك الحقيقة قد تكون ضاعت إلي الأبد "ولن نتمكن بحال من بلوغ معرفة يقينية تستند إلي براهين علمية". فإذا كان الأمر هكذا فما هي "حقيقة" هذا الكتاب الذي أمامنا؟! يجيب المؤلف قائلاً "بيد أننا نستطيع من خلال الكتابات التي تركها مؤرخون عرب ومسلمون وزرادشتيون ومسيحيون ومن قوميات شتي، تلمس الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي الذي تحرك العالم القديم في أطره وآليات تلك الحركة ووضع ظاهرة ضخمة كالفتوحات الإسلامية في إطار قريب من العقلانية". أبناء هاجر يحلو للبعض تشبيه التاريخ بأنه مثل العمل الروائي تجتمع فيه كل العناصر اللازمة لذلك، وعلي الأغلب نحن في حاجة إلي الوعي بتلك المقولة أثناء قراءتنا لهذا الكتاب، ليس مهماً أن نخرج منه بنتيجة واحدة، لكن المؤكد أنه مثل العمل الروائي الجيد فإن الكثير من القناعات القديمة تتغير أو تتكون أخري جديدة. ومثلما هو الحال مع الروايات التي تمهد للأحداث بتقديم ما يشبه التعريف عن أبطالها يبدأ كتاب عيتاني بالتعريف ب "العرب"، وتلك البداية تعطينا فكرة عن الحد الذي يتعامل به المؤلف مع ما يبدو أنه استقر وتم التعارف عليه، فهو يجد لزاماً عليه تتبع سيرة هؤلاء الذين ظهروا علي المسرح العالمي فجأة للانقضاض علي ممالك حضارات قديمة وراسخة، ويبدو شيقاً هنا معرفة كيف يرانا الآخر، فنحن بالنسبة لهم في ذلك الزمن: السراسنة والطائيون والهاجريون والمهاجرون والإسماعليون (نسبة إلي إسماعيل بن إبراهيم الخليل وليس إلي المذهب . الإسماعيلي) وبعض من تلك المسميات يكتسب أهمية خاصة في تفسير أسباب الفتوحات العربية وردها إلي مفهوم العقاب الإلهي الذي حاق بالممالك الأخري لابتعادهم عن تعاليم الدين وانغماسهم في الملذات، وهو ما نفهمه من فصول الكتاب المتتالية، فالإسماعليون هم نسل إسماعيل الذي ولد لإبراهيم من الخادمة (هاجر) ومن هنا أيضاً جاءات تسمية العرب ب "الهاجريون"، وأبناء إسماعيل هم أبناء الأمة التي حرمت من الوعد الإلهي المشمول به إبراهيم وأبناؤه، وكما يقول عيتاني فإن هذه النقطة ستكون مهمة في فهم الشعوب المغلوبة لأسباب الفتوحات. وبغض النظر عن أصول وجذور المسميات إلا أن المهم وما يتصل بها بالضرورة جانبين أحدهما يتعلق بالتنوع الذي تكونت منه جيوش الفتح "سواء علي المستوي الديني أو العرقي" والجانب الثاني هو الصورة "الشديدة السلبية" التي التصقت بالعرب إلي ما بعد فترة الفتوحات، فرغم بعض الإشارات الرومنطيقية بشجاعتهم وثباتهم عند بعض المؤرخين لكن الغالب وما ساد هو امتناع الشعوب المغلوبة عن تسمية المسلمين ب "المسلمين" "مفضلين إطلاق صفات عرقية أو قبلية عليهم في محاولة للتقليل من أهمية الدين الإسلامي". علامات من السماء إذا كان من المتعارف عليه أن الفتوحات الإسلامية قد جاءت في وقت ألمت فيه بالدولتين البيزنطية والفارسية مشاكل كبيرة نتجت عن الحرب الطويلة بينهما، وكان من أحد عوارضها معاناتهما في تثبيت الحكم داخليهما، إلا أن الفتوحات تم ردها في أدبيات الشعوب المغلوبة إلي أنها عقاب من الله علي ذنوب سابقة، أو تحقيقاً لنبؤات قديمة. وفي هذا السياق سيبدو الأمر محيراً لكثيرين، فوراء تلك الفتوحات وما تعنيه من مغانم ومكاسب، يدور صراع لا يقل ضراوة علي التحدث باسم الإله، فكلا الفريقين يدعي أنه المكلف من قبل السماء بنشر الدين "الحق"، وكل طرف يري الآخر علي ضلالة، وأنه "الشيطان" الذي جاء لفتنة المؤمنين، وإذا كنا قد استرحنا منذ زمن طويل إلي أن أجدادنا ال "مسلمين" هم من أخرجوا العالم القديم ذلك من الظلمات إلي النور، فقد حان الوقت لتأمل كيف رآنا ذلك الآخر الذي وصلنا لهدايته، وهو أحد الجوانب المهمة التي يكشف عنها كتاب عيتاني. في تفسيره لظاهرة اهتزاز الصلبان الصغيرة أثناء الابتهالات في الكنائس، يقول القديس ثيودور لبطريرك القسطنطينية توماس "إنه يعني انعدام الاستقرار في إيماننا ويعلمنا بالجحود وبمجيء العديد من الشعوب البربرية وسفك الكثير من الدماء والوقوع في الأسر في كل أنحاء العالم، وهيمنة الحزن علي الكنائس المقدسة وتوقف القداديس واختلال وسقوط الإمبراطورية وارتباك الدولة ومرورها بأوقات حرجة، ويؤذن أن قدوم "العدو" (الشيطان) بات وشيكاً". صورة الشيطان أو العدو البربري القادم لهدم ملك المسيح كان التصور الذي ساد لفترة طويلة عن الفتوحات العربية، والتصور كان مشفوعاً بظهور علامات في السماء "سيوف من شهب"، وإذا كانت العلامات السماوية قد تبدت قبل الفتوحات بفترة وتم تفسيرها في البداية بتحقق نبؤة من الكتاب المقدس تبشر بانتقال أعداد كبيرة من اليونانيين واليهود إلي المسيحية. إلي أن اللاهوتيين والمؤرخين اعتمدوها بعد ذلك لربطها بقدوم "السراسنة"، وهي وجهة نظر ستستمر عند كتاب الحوليات من البيزنطيين والفرس أو من مسيحيي المشرق في القرنين السابع والثامن من دون اهتمام "بأسباب الفتوحات ولا بمعتقدات الفاتحين"، وسيتبادل رؤساء الكنائس المتنازعة في ذلك الوقت حول الطبيعة الواحدة والمشيئة الواحدة والطبيعتين "اللوم في التسبب بمجيء العرب". لولا لحم الجمل من بين فصول الكتاب يأتي الفصل المعنون "هل الفتوحات العربية مؤامرة يهودية؟" ليتم التصور الذي ساد عند الآخر تجاه تلك الفتوحات، ونظرية المؤامرة لها ما يبررها إن كان العرب ليسوا في عين جيرانهم إلا "حفنة من رعاة الماعز والإبل وما كان ليخطر في بالهم تحدي إمبراطوريتين عظيمتين ومواجهتهما عسكريا"، ولهذا كان لابد أن هناك "جهة ما دفعتهم إلي غزو البلدان المجاورة للجزيرة العربية واجتياحها وزودتهم بالسند الديني- الإيديولوجي لتحركهم". هل كان اليهود علي وشك إتباع النبي محمد والدخول في الإسلام بالفعل؟ يبدو هذا الأمر مفاجئاً بشكل كبير، فما استقر في أذهاننا أن العداء بين الديانتين قد بدأ مبكراً وتواصل بعد ذلك، لكن ما ينقله عيتاني في مؤلفه هذا ينفي ما درجنا علي اليقين به مخترقاً ما يسميه الأرض الحرام التي منعت الباحثين العرب الحديثين والمعاصرين عن التفتيش في "التداخل الديني اليهودي الإسلامي"، والسبب بالطبع يعود إلي الصراع السياسي المعاصر. قد يكون من المعروف أن بعض النصوص اليهودية القديمة قد تنبأت بظهور الإسلام ونبيه، لكن ما لا نعلمه ربما أن اليهود انتظروا الدور العربي علي الساحة الدولية في وقتها لتخليصهم من "الأوضاع التي عايشوها منذ دمار الهيكل علي يدي تيتوس الروماني". وفي هذا الإطار ينقل المؤلف عن بعض المطارنة جذور التقارب بين اليهود والمسلمين، فهناك من اليهود من التحق بالنبي محمد في بداية دعوته واعتقدوا أنه المسيح الذي ينتظرونه "لكنهم عندما رأوه يأكل لحم الجمل أدركوا أنه ليس من ينتظرون وباتوا في حيرة من أمرهم. وخافوا من ترك دينه، فعلمه هؤلاء البائسون أموراً محظورة موجهة ضدنا، نحن المسيحيون وبقوا معه". غير أن المخلص بالنسبة إلي اليهود كما نفهم من الكتاب ليس النبي محمد، وإنما عمر بن الخطاب الذي "اتخذ في عيون اليهود الحاملين أعباء الملاحقات والضغوط البيزنطية وجهاً خلاصياً- مهدوياً. واهتمام عمر ببناء المسجد الأقصي دليل سعيه إلي إعمار الهيكل". بن الخطاب يأخذ بحسب هذه الرواية موقعاً بالغ الأهمية عند اليهود، ويكفي للدلالة علي ذلك معرفة أنهم من أطلقوا عليه لقب الفاروق وهي كلمة من أصل آرامي (اللغة التي كان يتكلم بها اليهود في سوريا وفلسطين في ذلك العهد) وتعني المخلص، و"بوروق" أو "بوروقو" في التوراة المكتوبة بالسريانية تعني المنقذ أو المحرر أو المخلص الفادي. وبالطبع فإن الفاروق يكتسب هذا الوجه بالنسبة لليهود لأن "إعادة بناء الهيكل مهمة تحمل دلالات إحيائية كبيرة عند اليهود"، وكما يستنتج المؤلف فإنها "قد حركت بعض الآمال السياسية عندهم". بذور التقارب لم تنم فيما بعد فاليهود شعروا بالإحباط بعدما منعهم العرب من بناء هيكلهم وأبقوا جبل الهيكل في حوزتهم لأغراضهم الدينية "ما أحيا العداء بين العرب واليهود الذين عادوا وقرروا أن العرب يمثلون "الرجل المتوحش"، و"حامل الرمح ومعتمر الخوذة" الذي يضطهد اليهود ويفرض عليهم الضرائب مثله مثل من سبقه من البيزنطيين..". علي أية حال يبدو موضوع العلاقة بين اليهود والعرب بذلك الشكل في حاجة إلي بحث منفصل يكشف المسكوت عنه، وقد يكون ذلك عنوانا لكتاب عيتاني المقبل فالأمر يستحق بالتأكيد، بما في ذلك دورهم (المفترض) في الفتوحات العربية والذي في تلك الحالة لابد أن يتجاوز مؤامرة هنا أو هناك للإيقاع بين المسلمين والمسيحيين.