في التحرير، الجو شديد البرودة في منتصف ليل فبراير، لكن أنفاس الملايين المكتظين بالميدان، شهيق وزفير الملايين، تبعثُ الحرارة، والدفء، والحنان. الميدان، عقب خطاب الذميم، مِرجَلٌ يغلي كفرن مصنع "الحديد والصلب" في التَبِين، والحديد الجديد سيخرج لا محالة، سيُصْهَر ويخرجُ للنور، من نار وحرارة الفرن العظيم، سيخرج من هنا، من ميدان التحرير، ومن كل ميادين التحرير، "الأسياخ" الجديدة التي ستبني هذا الوطن بعد أن تُجيد الهدم! أنا خرجتُ، منذ سنوات، من مصنع الحديد والصلب "معاش مبكر"، معاش مبكر جدًا! هههه..هههه، لكن، رغم كل شيء، كل الظلم، كل القهر، ها أنا قد عُدتُ للشغل من جديد، في مصنع التحرير، مرجل التحرير. كان عملي أن أُشِرفَ علي فرن الحديد، استطاعوا قهري، طردي من عملي، وها أنا عزيزٌ، مكرمٌ، مَدعوٌ من الملايين للعودة للعمل الكبير، أنا هنا عامل عادي، نفر، نفر سعيد، في غاية السعادة منذ الخامس والعشرين من يناير، ولن أُبارح مكاني حتي يسقط النظام، كل النظام. وسط الجموع أسير وأفكر، حولي كل الناس، أهلي وناسي، الزملاء، الرفاق، والمعارف، حولي بشر اغتسلوا بماءٍ طهور، لم يتلوث بعد، كما فعلوا بالنيل، وبالماء الذي يجري في أجسادنا. شَعرِي أبيض وكثيف، وجهي وجه كهل جاوز الخمسين، لكنه الآن مُضِيء ومشرق، نضر كفتي العشرين، جسدي نحيل وضعيف لكن كل القوة فيه، كلُ الإصرار علي الحياة بُعِثَ فيّ من جديد، إرادة الحياة، نفسها، انبعثتْ في نفسي بعد مماتٍ طويل، هل تَرَي عينيّ، ما فيهما، ما بهما، هذه ليستْ دموع، هذا بريق الميلاد من جديد. الليلة خميس، والخميس ليلة الفرح والزفاف في وطني، غير أن فرح الليلة يحضره الملايين، ميدان التحرير الليلة بلا موطيء قدم، والميدان علي تَنَاثُر، وخفوت أضوائه، منيرٌ بمئات ألآف الوجوه الجديدة، التي أراها اليوم للمرة الأولي منذ اعتصامي بالميدان، مساء الجمعة 28 يناير. أسير وسط الجموع، أمشي محمولاً مع موج البشر، لا أسير علي قدميّ، أسير بأقدام مئات الألآف، بأقدام الناس أتحرك، وبقية جسدي جزء من أجساد الآخرين، يمضي معهم، ويتقدم، وأنا سعيد. منذ قليل تحدث الذميم في التليفزيون، وقال ما قال، رأيناه علي الشاشة العملاقة بالميدان، ممل وأحمق كالعادة، ليس من جديد سوي أن الناس رفعوا الأحذية في وجه الشاشة، والوجه البغيض، وتعالي في فضاء الميدان سخط وغضب الناس، تعالي في السماء غضب الله، سخط الرب، والسماء والأرض. أمشي بين ناسي محمولاً علي أجسادهم، الوجوه حولي غاضبة، عابسة، عن رحيله لا تحيد، وأنا مبتسم كأبله، لا أنا ولا هم يعرفون ماذا تخبيء الساعات القادمة من أمور جلل، لكني إنْ متُ الليلة، أموتُ موتَ مَلكٍ سعيد في فراش المُلك، حَكمَ الكون طيلة حياته، رضيتُ، وسعدتُ، ويكفيني أني انتصرت، رأيت كل الناس يقولون ما قضيت عمري أقوله، يرفعون الصوت بما آمنت، قلتُ من سنين طويلة مديدة، صرختُ "لا". لا. كلمتي الحبيبة، أنا آسف، أحبك. تَعرِفين أنني نطقتُ بكِ كثيرًا جدًا، ذكرتُ اسمك آلاف المرات طيلة حياتي، جهرًا وهمسًا، وصمتًا، غير أنكِ لم توجدِ في بلادنا هنا من قبل، أبدًا بهذا الشكل، في هذه الهيئة الباهرة، لسنواتٍ طويلة عَبَرتِ إلي الفناء كأنكِ لم تُوجدِ في الكون، لم يسمعكِ أحد، ولم يرني أحد وأنا أصرخ بكِ، سخروا مني، شتموني وسبوني، وطردوني من عملي، سحلوني، وسجنوني حتي صرت عجوزًا مريضًا، صرتُ العجز نفسه، وأخيرًا ها أنتِ الآن في ليلة مجدك، عروس وملكة. لكِ المجد، تعرفين أنني لم أتخل عنك أبدًا، فقط حولتكِ لهمسٍ، لصمتٍ غاضب شرس، حتي صار صمتي، في آذان الناس، ثقيلاً، ميتًا، كجسدي الحيّ. أقول الآن، لهذا الذميم "لا"،" لن تبقي، لن تعيش ولن تموت فيها، ذليلاً تكون. تعرفين، حبيبتي العزيزة، أنه مرتْ سنوات، وسنوات منذ أن قٌلتُكِ لأول مرة، ونطقتُ باسمك، أمام كل من أعرفهم، مع كل من أجهلهم، وفي كل مكان. قُلتكِ كثيرًا، بالكلام مرة وبالصمت مراتٍ، دون أن يسمعني أحد، دون أن يفهمني أحد، دون أن يؤازرني أحد، ربما كان صوتي، أنا، خافتًا، وصمتي أكثر خفوتًا فلم يلحظني أحد، أنا رجل غلبان وطيب، ومهندس، وابن فقراء، لكني أزعم أني كنتُ شريفًا حين عمّ الفساد، واُحتُقِرَ الشرف. ولأني أحبكِ انضممتُ إلي من قالوا"كفاية"، سرتُ معهم دون أن يعرفوني، في مظاهراتهم خرجتُ، وخلفهم هتفتُ، لم أتكلم مع أحد منهم، فقد كان صمتي ثقيلاً وحزينًا.. ومرتْ سبعُ سنواتٍ عجاف منذ قلتُ معهم "كفاية"، وها هو مرجل الصلب الغاضب يصل ذروته الليلة. الليلة خميس، والخميس في وطني فرحٌ وعُرس، أومن أن الفرح قادم رغم كل الدم الطاهر الذي سال، بسبب الدم، سيأتي فرحنا، سنعرف طعم النصر رغم كل شيء. ذات مرةٍ قرأتُ : " حتي لو غابتْ النجوم، والقمر، وضوء القطبين في الليلة السوداء، فلن يكون الظلام حالكًا تمامًا؛ لأن الغلاف الجوي نفسه فيه قدر من الضوء الباهت." الخميس، 10 فبراير، لن ينساه الدهر، أبدًا لن ينساه الزمان، والناس أجمعون.