«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدرب والعالم
نشر في أخبار الأدب يوم 14 - 01 - 2012

مع بشائر كل نهار، أي عندما يبدأ درب (عجوز) في التشاؤب والتأهب للحياة يهبط (سعيد) رفيق قصتنا هذه من الطابق الثاني بمنزل (علي) النجار.
وهو صبي في الرابعة عشرة من عمره هضيم الوجه مثلثه، يتمتع بذلك اللون الآسر الشبيه بلون الطمي والذي تصطبغ به وجوه أبناء شعبنا الطيب.. واسع العينين شاردهما، حالك الشعر مرتديا ملابس معينة، هي علامة قديمة من علامات الدرب الطويل العجوز.. عبارة عن سروال يتدلي إلي ما تحت ركبتيه بقليل، وسترة واسعة كانت سوداء، وحذاء بولغ في طوله، ونحن نقصد بالقدم هنا أن هذه هي نفس الأشياء التي كان يقطنها والده المرحوم أبو (سعيد) قبل أن تتناول يد الأم أطرافها بالتقويم والتهذيب.
وما أن ينطلق من باب البيت حتي يحيل تأهب الدرب ذاك إلي ما يشبه الفوضي، يقرع هذا الباب ويدفع هذه النافذة، بينما هو يندفع قافزا في خطوات خفاف، معتليا أكواخ النقابة عاملا حذاءه فيها، وهو لا يفتأ ينادي الصبية الذين يبادلونه الأحاديث من خلف الجدران المتهالكة، فإذا ما كان أحدهم لم يستيقظ بعد أتاه صوت الآخر:
بينما يزوم الأب في غضب مفتعل.
- نايم.. تفضل يا سعيد.
- يا ولد قل يا صبح.. خيبك الله، ولا يبالي هو في العادة بالتقاط أي من هذه الردود، فيظل مندفعا في طريقه، مثيرا الضجيج من حوله.
وما إن يلمح الحاج (حنفي) إمام وخطيب المصلي الراقدة في حضن النيل والذي يكون قد غادر بيته بدوره دافعا دراجته التي لا يعتليها إلا عندما يصل إلي الطريق العام في سبيله إلي مصلحة التنظيم حيث يعمل ساعيا حتي يكف عن عبثه فورا.
- صباح الخير يا عم الحاج.
صباح الخير يا بني.
ويسيران. ولا يلبث سعيد أن يأخذ في تحسس الجرس، وعلي الفور يرتفع رنينه، ويتوقف الحاج متضررا، فيترك (سعيد) يده، ويعودان للسير ويتحسس سعيد الجرس مرة أخري ويسلم الحاج أمره إلي الله.
وما إن يقتربا صاعدين من نهاية الدرب، حتي يتوقفا أمام باب صغير ينحدر نصفه إلي ما تحت مستوي الأرض وينظر كل منهما إلي الآخر، ويهز الحاج وجهه ذا اللحية الكثيفة البيضاء المنتشرة علي صدره ويقول:
- لا تفعل يا بني.. الله يهديك.
فيقول سعيد:
- آخر مرة.. من أجل خاطري.. والنبي يا عم الحاج.
ويتوجه إلي الباب ويدلي برأسه داخل فتحته المظلمة ويصرخ:
- ولد يا حمامة.. أمك في العش ولا طارت؟
وفي جملة لا تتغير ترد أم حمامة:
- صبرك.. صبرك يا سعيد.. مسيرك تقع في يدي.. الصبر طيب.
ويقف سعيد ضاحكا:
- مر علي بعد رجوعك من المطبعة.. وهات الكرة معك، وفي هذه الأثناء يكون «حمامة» قد خرج بجلبابه وقبقابه مبتسما، ممسكا بلفة تحتوي علي غذائه متابعا سعيد وعمه الحاج الذي يكون قد توقف لاعتلاء دراجته، بينما هو يهز رأسه قائلا في لهجة صادقة:
- الله يتوب عليك يا ابني.. قادر.
ويعتلي الدراجة وهو يواصل في جهد.
يخلق من ظهر العالم فاسد.. سلام عليكم.
ويتوكل.
ما إن يخرج سعيد إلي طريق النيل ويستشعر نداوة الهواء في رئتيه حتي يقفز إلي مدخل إحدي العمائر التي ينزوي بجوارها دربهم كيما ينادي صديقه وزميله في المدرسة أحمد.
ولما كان ذلك يتم بصورة مستديمة وواضحة للغاية، فقد كان من المستغرب في صبيحة يومنا هذا أن يمر سعيد بالدرب مرورا عابرا، متجاهلا جميع الأبواب والنوافذ متغاضيا حتي عن دراجة الحاج حنفي وأم حمامة.
ولكن الأمر لم يكن إلي الآن قد بلغ أسوأه علي أي حال، فها هو يلج المدخل الزجاجي الكبير، ويصعد درجات السلم الرخامية العريضة.
في هذه المرة خرجت له السيدة أم أحمد بنفسها وهي تقول في نبرات جادة متلاحقة:
- أهلا سعيد.. سلامات مبسوط؟
ولما كان يعلم أنها تعرف ما يريد.. فإنه ظل صامتاً بينما استطردت هي:
- أحمد خرج.. قال انه سيمر عليك.
وأغلقت الباب.
كانت علاقته بأحمد قد بدأت عندما اشترك معه في المذاكرة، تلك المشاركة التي انتهت باجتياز أحمد امتحان الشهادة الابتدائية بعد أن فشل في الحصول عليها عامين متتاليين، فمنذ ذلك الحين توطدت علاقتهما وتطورت.
وقد عبر والد أحمد عن امتنانه بأن تقبل دعوات ورجوات وخدمات أم سعيد.. وتوسط له وأدخله نفس المدرسة الصناعية الراقية التي أدخل ابنه فيها، وهو أمر ليس باليسير إذا ما وضعنا في اعتبارنا انها مدرسة نموذجية، كان يصرف عليها من وقف إحدي الاميرات الكبيرات السابقات، والتي لا تضم بين جنباتها إلا هذه العناصر الخلابة ذات المقدرة، وجلال اليسر، وكرم المحتد، وقد رأت السيدة أم أحمد بدورها ألا تقف موقفا يتسم بالغضاضة التامة إزاء هذه العلاقة المؤقتة.
كانت الشقوق الجانبية التي تخطئها العين قد دفعت بأبنائها، وارتفع الضجيج. وازدحم الطريق العام ببني الإنسان، مخلفين وراءهم الطمأنينة والدفء والمطالب والأبناء، في سبيلهم إلي التصارع من أجل ما يسمي بلقمة العيش بينما كان سعيد يغادر مدخل العمارة في طريقه إلي موقف الترام، مقطب الجبين متباطئا، دافعا حجرا صغيرا بحذائه متسائلا:
- لماذا لم ينتظراني.. هل لذلك علاقة بحادث الأمس.. هل يظنني كما ظن الآخرون.. سرقت الخمسين قرشا.
ومن ناحية اليسار، أخذ يتفحص الركاب إلي أن عثرت عيناه علي سيدة تجلس في أول إحدي الآرائك الخشبية المستطيلة، وجلس تحت ساقيها.. ووضع كتبه علي ركبتيه، ورفع ذراعه وأمسك بالحاجز الحديدي فوق رأسه، رافعا قدميه محاذرا ألا تحتكا بأسفلت الطريق.
كانت أمه تقتطع له ثلاثة قروش في كل يوم، قرشان للمواصلات، وقرش لمصروفه الخاص، ولما كان هو أكبر أخوته الأربعة، وحاصل علي شهادة اتمام الدراسة الابتدائية وسط ظروف لزجة لاحياء لها، ولما كان يشعر بالجوع ويريحه أن يكون معه ثلاثة قروش بدلا من واحد، فقد كان يتغاضي عن الركوب داخل الترام، ودفع ثمن التذكرة كبقية خلق الله، مادام ذلك ممكنا، فإذا ما حدث وزجره الكمسري، التفت إليه قائلا في غير اهتمام:
- يا عم قل يا باسط.. هل أنا جالس فوق رأسك.. أم أنا الذي سيفقرها؟ زمر يا عم.. زمر.
فيتضاحك القوم وينظرون إلي بعضهم البعض كما يفعل العالمون ببواطن الأمور.. ويزمر الرجل فعلا.
استعاض سعيد في ذلك اليوم بالسيدة التي تجلس من ناحية اليسار عن أحمد الذي كان يجلس عادة في مثل هذا المكان، ويتناول عنه كتبه، ثم يأخذا في الحديث، هذا فوق المقعد وذاك بجوار قدميه.
تحرك الترام وعلا صليله، وابتدأ أنف سعيد يرشح، فأخذ يمسحه في كم سترته بينما هو يتأمل الأشياء أمامه ويفكر في أحداث الأمس.
كان حسين (بك) مدرس الكيمياء قد كون فريقا للجوالة وضم إليه سعيد كضرورة من ضرورات الانسجام لا تكلف شيئا، وقد كان مقررا أن تقضي عشيراتهم ليلة الجمعة داخل فناء المدرسة وابتدأ ذلك بديعا شأن البدايات كلها.
ظلوا يضحكون ويمرحون ويدورون بزعامته حول الخيام الصغيرة التي نصبوها ويقفزون، وكان كل منهم قد ساهم بنصيب في الطعام، وكان يمكن أيضا العثور علي أصابع البطاطس التي أعدتها له أمه مهملة محترقة ملقاة بين قطع الجبنة الصفراء والبيضاء والدجاج والبسطرمة والسكاكين وأرغفة العيش الافرنجي والنظافة وعلب المربي وشرائح اللحم والتفاح، وكانوا يضحكون متحلقين به علي أي حال، وما أن تنطق شفتاه بإحدي عباراته اللطيفة غير المقصودة حتي تتقطع الأنفاس.. وانتهي وقت السمر وأتي وقت النوم. كانت خيمتهم تضم أربعة أحدهم ممدوح بن حسين (بك)، وارتديت ملابس النوم بينما كان جلبابه برقعه الكثيرة يفوق كل ما اجتمع في بيجاماتهم الزاهية من ألوان، وأخذوا يتهامسون والنوم يداعبهم ويتوج يومهم، وفي صبيحة الجمعة، أي في أمسنا الدائم، اكتشف ممدوح أن خمسين قرشا قد اختفت من جيب سرواله، وأن ذلك تم أثناء الليل بلا أية ضوضاء.
لماذا كانوا ينظرون إلي هكذا ويضحكون.. هل يظنون أنني سرقتها لماذا.. هه؟
كانت الأشياء تمر من أمامه علي مهل ولفت نظره زحام وعربة اسعاف وحاول جاهدا أن يري المصاب ولكنه لم يفلح.
هبط من الترام وطالعه بناء المدرسة وقد استراح في الخلاء محوطا بالأشجار واقترب من المدخل المهيب الذي زينت قبته الزخارف الكتابية الجليلة وانتصب علي جانبه جوسق دقيق من الخشب المخروط يجلس أمامه بواب أسود في ملابس بيضاء، ما أن مر به سعيد حتي قال محدثا نفسه:
- معك حق.. لا سلام ولا كلام.. من قدك.
بينما خطا هو داخل الفناء الكبير الذي كانت ستائر الجص المخرم تزين زواياه. وبحث بعينيه عن أحمد وكله دهشة لهذه النظرات الجماعية والغمزات المفاجئة التي أحاطت به، وتأمل نفسه بدوره، وللمرة الأولي استشعر ضيقا من ملابسه الرثة ومن ترحيبهم الضاحك ومن حذائه الكبير الممزق، وتمني علي الفور أن يجد أحمد، ومر في طريقه بالنافورة ذات القصعة الرخامية الكبيرة وكان الطفل العاري الذي يجلس بداخلها مازالت المياه تنبثق من عينيه وأذنيه.
وأبصر أحمد، كان يقف مع ممدوح وجماعة من الطلبة تحت سقيفة تتكيء علي أعمدة رشيقة عالية، وتوجه إليهم ولم يكن يدري ما الذي يخشاه، وما أن أبصروا به حتي خيم عليهم الصمت.. وأقلعوا عما كانوا يتحدثون فيه، وتراقصت البسمات علي الشفاه.
توقف علي مقربة منهم، وقال في صوت خفيت:
- أحمد.. مررت عليك في البيت.
وما أن نطق بهذه الكلمات حتي ضجت الجماعة الصغيرة بالضحك، وقال واحد:
- الله مالك يا بني خائف هكذا.. قرب قرب.. ولا يهمك.
وتساءل ممدوح:
- من حمل لك كتبك اليوم.. الكمساري؟
وفوجيء سعيد وتطلع إلي أحمد الذي كان يغمز لممدوح في ارتباك واتسعت عيناه واصطخب الجو من حوله، وشاع الهرج في المجموعة الصغيرة، وشيئا فشيئا كان طلبة المدرسة كلها قد التفوا به، وكلما حاول أن يطرف بعينه أو يحرك ذراعه أو رأسه ليوضح لهم أنه لم يسرق الخمسين قرشا حتي تتعالي الضحكات وتتقارع الكفوف وتشيح الأذرع وتعلقت عيناه بأحمد، وتمني أن يفعل شيئا، وانتابه ضيق شديد، وأوشك علي ما يشبه الاختناق.
وفي الفصل، كان يجلس في المؤخرة منه عندما سأله مدرس العربي وهو ينظر إليه مبتسما:
- ولد يا سعيد.. ما هذا الذي حدث أمس؟
وما أن انتصب سعيد موشكا علي الكلام حتي كانت الضحكات قد انطلقت من عقالها متدافعة في أرجاء الفصل الصغير مبددة كل ما في رأسه من أشياء ولم يستمر ذلك طويلا حتي استطرد المدرس وهو يجفف عينيه بمنديله:
- أتعبك الله يا شقي.
ولم يجد سعيد ما يقوله، كان أنفه يرشح فقط، فمسحه في كم سترته، وأوسع عينيه، وأخذ يتأمل فيهم.. ولم يستمع إلي المدرس الذي نظر إليه في عطف مشوب بالقلق وهو يقول:
- اقعد يا سعيد.
وسعيد ولد محبوب وزكي وخفيف الدم، ولم يحدث أن رسب أبدا، وكل من رآه ولمس شقاوته الحلوة وعدم مبالاته لا يملك إلا أن يهش له ويعطف عليه وينحي عن خاطره أية أحاديث جادة وكان يحلو للكثيرين أن يقولوا إنه شربات وغلبان، وكان لايزال واقفا، ولم يكن قد سرق الخمسين قرشا وأراد أن يتكلم، ولكنه انفجر باكيا متهتها، بكلمات لا معني لها، واختلطت دموعه برشيح أنفه، ولم يكن معه منديل.
وقال مدرس العربي:
- الله.. الله.. حقك علي يا سعيد.. قم .. اغسل وجهك واحضر.
وحمل كتبه، وقبل أن يغادر المدرسة كلها كان يود أن ينظر إلي أحمد، ولكن ذراعه كانت مثنية علي وجهه، والدموع تملأ عينيه، والسماء مرآة قاسية اللمعان والشمس تسكب علي الدنيا لعابها الحار وعباد الله كثيرون.
- ماذا فعل.. لماذا يضحكون مني؟
لقد أقسمت لهم أمس أنني لم أسرقها، هل أنا لص؟.. صه.. لن أعود إلي هذه المدرسة.. سأقول لأمي لا أريد أن أعود إلي هذه المدرسة أبدا أبدا أبدا.
وتذكر يوم حصوله علي الشهادة الابتدائية، عندما أخذت أمه تبكي من الفرح وتجري في الدرب هاذية، وقد أمسكت بالجريدة واضعة أصبعها علي رقمه:
- رقم ابني.. انه رقمه.. ابني سعيد.. ابني سعيد الذي نجح.
- لا.. سأقول لها انهم يظنونني لصا.
وانتهي إلي أنه لن يعود إلي هناك.
- أبدا.. أبدا.. انني أكرههم.. أكرههم كلهم.. سأعمل مع «حمامة» في المطبعة.. سأعمل أي شيء.. أي شيء.. ولكني لن أعود.
وجفف عينيه الداميتين وأنفه..
وجلس علي الشاطيء، وفي وقت الظهيرة هذا تكون النساء والصبايا قد انطلقن من الدرب متوجهات إلي النيل، يفرغن صفائح المياه القذرة بجوار المصلي، ويشمرن عن سيقانهن ويغسلن الحصر والأواني ووجوههن والطبالي، والنيل في هذا المكان يفقد معني قدمه وألوهيته وشاعريته ورواده، فهو ليس إلا شيئا موجودا وخطرا علي الابناء وبالوعة كبيرة وعائقا وشاطئا عفنا وفيضانا، ومراكب آتية من الصعيد محملة بالجرار والقلل القناوي، وغلمان وشبان عرايا يتعلقون بجوانبها ويعتلونها ويقفزون منها.
وسعيد بينهم، وخرج من الماء وارتدي ملابسه، وعندما حان موعد عودته من المدرسة توجه إلي الدرب وقد داهمه احساسه السابق بالحزن والاختناق مرة أخري، ولم يأكل، كانت أمه قد شوت بعض أكواز البطاطا فأعطي نصيبه لأخوته.
ولما نظرت إليه قال:
- أنا شبعان.. أكلت عند أحمد.
ومضت أيام، ينام الليل وهو يظن أن في مقدوره أن يذهب إلي المدرسة، ولكن ما إن يغادر البيت حتي يتوجه إلي الشاطيء ويجلس ويلعب الكرة ويصطاد ويسبح ويمشي، وافتقد الدرب في لحظاته المعلقة فوضاه الضاحكة، ودار أكثر من سؤال وكأنما اشتاقت الأبواب والنوافذ والآذان والجدران والجرس.
كان يري أحمد وهو يغادر عمارته متوجها إلي موقف الترام، ويتمني أن يراه بدوره ويقول له:
- هيا يا سعيد..إن الزملاء كلهم يسألون عنك.. ويعلمون أنك لم تسرق الخمسين قرشا.
ان أحمد هو الوحيد الذي زار منزله في درب عجور، وأخذ ينتفض.. ليس لأنه أخبرهم، كما خيل له، عن الحجرة الضيقة المزدحمة وعري الاخوات، والأم التي تملأ المياه، وتخدم الناس وتحيك الثياب لأبناء الدرب، لا، ليس لأي من هذه الأسباب كان ينتفض، ولكن.. لأن أحمد أقرب الأصدقاء فعل ذلك.
وعاد يمسح دموعه في كم سترته ويتطلع إلي مياه النهر.
- أحمد هو الوحيد بالمدرسة الذي يعرف أن أبي كان بقالا قبل أن يصاب بالشلل ويموت.. لقد قصصت عليه كل شيء.
وأخذ يجوب الطرقات علي قدميه الصغيرتين.. متأبطا كتبه، باحثا عن شيء يضربه ويشكوا له ويأكله.
- لو كان أبي موجودا.. لذهب إلي المدرسة وقال لهم.. ابني سعيد لم يسرق أي شيء في حياته، وهو أحسن منكم كلكم.. لماذا تضحكون منه.. هه؟ ابحثوا عن اللص بينكم.
وجاهد أن يتغلب علي دموعه ولكنها كانت تنساج علي خديه.
- سيقولون بعد أن سرق الخمسين قرشا.. اختفي ولم يحضر إلي المدرسة.
وغامت الدنيا في عينيه والتقطه الدرب كما تلتقط العين حشرة هائمة. وانزلق لاهثا تغرقه نظرات تلتمع بالدهشة وتلاحقه بالتساؤل والالحاح والسخونة وطنين الذباب والأطفال والغبار والأغاني والعرق وقشر البطاطس والقصب، وأخوته الصغار يتعلقون بساقية، ونظرت الأم إلي وليدها وضربت بيدها علي صدرها.
- مالك يا سعيد.. كفي الله الشر يا بني..
وارتمي عليها وأخفي وجهه في حجرها وأخذ يبكي وأخوته يشاركونه في البكاء وتركته المرأة المروعة يبكي ويبكي ويبكي.
واستشعرت انها تحمل جبلا فوق رأسها فشرقت بالدمع، ورفعت رأسه بين يديها، وحاول أن يخفي وجهه عنها.
- مالك يا سعيد.. مالك يا حبيبي قل يا بني قطعت قلبي.
وصعدت كلمة «أبدا» من بين شفتيه كما تصعد الروح إلي بارئها، واقتربت منه أخته الصغريو تأملت فيه، وعندما خيل لها أنه قد أقلع عن نشيجه..
ابتسمت له بينما كانت الدموع مازالت تغرق وجهها الصغير، وامتدت أصابعها الدقيقة تتلمس وجهه وتتحسسه وتربت عليها، فضمها إلي صدره وأخذ يقبل رأسها فعاودت بكاءها.
خلع ملابسه وارتدي جلبابه.. وصبت له أمه الماء فغسل وجهه، ولما قالت:
- تشرب شاي يا سعيد؟
هز رأسه موافقا.
ومع المساء، عادت أمه من الخارج، ونظرت إليه طويلا، كان يجلس فوق الحصيرة واخوته متناثرون من حوله نائمون، وضوء اللمبة الجاز الخافت يعكس أشباح الملابس المعلقة علي حبل يصل بين جدارين، والظلام يفوح داخل الأركان التي ازدحمت بالأواني والصفائح والمشنة ووابور الجاز، وأفسحت لنفسها مكانا بجواره وهمست في انكسار.
- سعيد.. ألا تقول لي؟
وأطرق إلي الأرض وقال:
- أبدا..
وألحت مرارا ولكنه لم يرد، فلما تهدج صوتها وهي تقترب منه أكثر، وتضع يدها علي ظهره.
- تخبي مني.. أنا أمك يا سعيد.
قال:
- أبدا.. فكرت في أبي.
وجاهدت المرأة وقاومت وتململت في مكانها ثم قالت:
- اسمع يا سعيد يا بني .. البركة فيك أنت.. أنت رجلنا.. إذا كنت حقيقة.. تريد الراحة لأبيك.. ولي أيضا.. اتعب.. اتعب وذاكر يا حبيبي أنا أملي تنجح وتبقي قد الدنيا كلها.
وأشاحت بوجهها إلي أحد الأركان، فتساقط ما كان معلقا علي أهدابها من دمعات.
- أنا يا بني قصرت في حاجة.. ألا أعمل ما يقدرني عليه الله؟.. أنا أنا كان لي أي أمل في الحياة.. هو أن يطيل الله في عمري حتي أراك رجلا.. كبيرا.. تربي أخوتك وتتزوج وتهنأ.. قوم.. قوم يا ضنايا ألعب مع أصحابك لكي تنام وتنهض للمدرسة.. قوم يا حبيبي.. لا تحمل هما مادمت أنا علي الدنيا.
قفز سعيد واقفا وقال لها وكأنه يردد قسما:
- أمي .. أنا غير متضايق أبدا.. أبدا والله.
ونظر إليها منفعلا، وتمني أن يقبلها في عينيها ولكنه خجل، وتمني أن يملك الدنيا كلها من أجلها ومن أجل أخوته.
تمني أن يكبر ويسكنهم في عمارة كالتي يسكنها أحمد.. ويأتي لهم بخدم ودولاب، وملابس ولحم وسرير وراديو يأتي لهم بكل شيء بكل شيء.. كان يفكر في ذلك وقد انتابته نوبة عارمة من الفرح والانفعال.
وفي صبيحة اليوم التالي في نفس لحظاتنا المعلقة، وجدت الأسئلة أجوبة لها ودقت أبواب، ودفعت نوافذ.. وقالت أم:
- نايم.. اتفضل يا سعيد،
وزام أب.
- يا ولد قول يا صبح.. خيبك الله.
وارتفع رنين جرس.. وقالت أم حمامة:
- مسيرك تقع في يدي.. الصبر طيب.
وخرج حمامة يحمل غذائه، وقال الحاج حنفي:
- الله يتوب عليك يا بني.. قادر.
وجلس سعيد: علي مقعد بالترام في طريقه إلي المدرسة، واضعا كتبه علي ركبتيه، ممسكا بتذكرته بين أصابعه وبجوار قدميه، من ناصية اليسار.. قبع ولد صغير.
وعندما جلس أحمد بجواره وهو يقول مترددا:
- سلامات يا سعيد.. تطلع إليه سعيد بعض الوقت.
ثم مال عليه بكتفه وقد عادت إلي شفتيه ابتسامته المعهودة ونغزه بأصبعه في جنبه قائلا:
- صباح الخير يا ولد يا أحمد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.