دعاء "دعوت للثورة وأنا دون السابعة ذهبت ذات صباح إلي مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلي سجن. بيدي كراسة وفي عيني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضي، والهواء البارد يلسع ساقيّ شبه العاريتين تحت بنطلوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة والفرّاش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا. غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلي شاطئ السعادة. ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلي الأبد".1 كتب نجيب محفوظ هذا النص القصير الدال في تسعينيات القرن الماضي، بعد أن جاوز الثمانين من عمره. والنص، الذي يجب قراءته في سياقه الأكمل، أي المرتبط ب"أصداء" "سيرة" ما، ينفتح علي تجربة ذاكرة راهنة تستدعي عالما قديما. ولكن هذه التجربة، خلال كتابة تتخطي منطق السيرة الخالصة إلي منطق الإبداع الرحب، لا تقف عند حدود استدعاء ذلك العالم القديم فحسب، بل تستنهضه وتبتعثه أيضا في حاضرها، أي حاضر الاستدعاء نفسه. وبهذا المعني، يمكن أن نلحظ خيطا خفيا، مرهفا ، يصل بين نقطتين واقعتين علي مسار ممتد: الأولي يمثلها ذلك الزمن البعيد الذي بزغت فيه "الثورة" وبدأت تلوح فكرة مراودة، حتي وإن اقترنت فيها رغبة اللهو برغبة التحرر، والذي يمكن للبعض ربطه مرجعيا بثورة 1919، والثانية ترتبط بالعالم القائم الذي تناءي، في حاضر الكتابة، عن تلك الثورة المراودة القديمة، وأصبح بحاجة إلي ثورة جديدة. وصيغة "الدعاء" تجتاز الزمنين، وتتحرك عبر مسار التاريخ الممتد بينهما، ثم تعبر الأزمنة هذه جميعا إلي زمن قادم مأمول، هو زمن "الأبد" الذي تمني الراوي الطفل، ثم الكاتب الشيخ، أن تدوم الثورة إليه. هنا تصحّ استعادة القول المعروف: أن فعل الاستحضار دائما فعل "لازماني"، أي فعل مجاوز لكل الأزمنة، وهنا أيضا يمكن تأمل فكرة "الثورة الأبدية"، والتفكير في أن استمرار الحلم بها، طيلة زمن ممتد، يمثل توقا ملحا إلي خروجها من دائرة "الواقعة التاريخية"، المحدودة العابرة، إلي حيز الممارسة المتجددة إلي مالانهاية. نجيب محفوظ الذي راودته هذه "الثورة"، في شبه سيرته، كاتبا شيخا يتحدث بلسان طفل، أو طفلا ينطق بحكمة وبتجربة شيخ، كان قد توقف، غير مرة، عند بعض تحققات الثورة هذه، في ملابسات مرجعية متعينة بعينها، في أكثر من عمل إبداعي. 2 في عدد من روايات نجيب محفوظ يلوح (الميدان الغاضب) ساحة لانفجار جماعي، استثنائي، تمحي خلاله الهوة الفاصلة، في العالم المعتاد، بين أطراف ثنائيات شتي . في هذه الروايات تتردد مفردة الميدان في سياق التعبير عن وقت خروج جماعي، تشاهد خلاله الشخصية المفردة الحشد، أو تندمج فيه، أو تواجهه، أو تواجه به ومن خلاله تمثيلات لقوة ما، متسلطة، ظلت ترزح طويلا بوطأتها علي الجميع. ويلوح الميدان، في غير سياق روائي عند محفوظ، قرين تجسيد حالات الاحتجاج الجماعي، أو الإحساس بالخطر، أو بافتقاد الأمان والتماسه، معا. لا يخلو الميدان، في تلك الحالات جميعا، من فعل "خروج" واضح، ومن إشارة إلي امحاء المسافة القائمة، في العالم المعتاد، بين العالم الداخلي للشخصية والعالم الخارجي المحيط بها. كأن دلالات الميدان، في عالم محفوظ، تقترب من دلالاته في أغلب المدن القديمة والوسيطة، ابتداء من "الساحة" أو "الأجورا" Agora في المدينة الإغريقية؛ حيث كان، في احتفالات ذلك الميدان واجتماعاته، يلتقي الوعي الفردي بالوعي الجمعي، وحيث كان يتماس الداخل والخارج معا. ولكن محفوظ يضيف إلي دلالات ذلك الميدان القديم ما يتصل بتناول آخر، خلاله تتسم علاقة الفرد والجماعة، في الميدان، بسمات استثنائية، تجاوز حدود التماس أو التجاور، إلي الانصهار والتحول؛ انصهار الداخل والخارج، الفرد والجماعة، وتحول مصيرهما معا.
في (حكايات حارتنا)، مثلا، باختزال يعد منحي سائدا في هذه الرواية، "تخترق مظاهرة ميدان بيت القاضي فينضم إليها سلومة (الطفل) بتلقائية يصاب برصاصة في رأسه ويسقط قتيلا" (ص35). وبغياب سلومة يذوب، بالمعني الحرفي، الفرد في المجموع. ثم، في وعي هذا المجموع، سوف يتحول الطفل الذي كان عاطلا عن كل ميزة إلي بطل، ويتحول أبوه الفقير الذي لم يكن يأبه به أحد من قبل إلي "والد الشهيد". وبالاختزال نفسه يشار إلي مظاهرة أخري "يموج بها الميدان" في رواية (حديث الصباح والمساء)، (انظر الرواية، ص16). وفي "الثلاثية" ترتبط، في رصد تفصيلي، مفردة الميدان والشوارع المحيطة به أو المؤدية إليه بسلسلة مظاهرات يتم رصدها بنوع من الاحتفاء بمعالم استثنائية تعيد صياغة العلاقة بين العالمين الفردي والجماعي، فضلا عن الاحتفاء بوقائع مرجعية تاريخية متعارفة. في (بين القصرين)، التي تقدم عبر مساحة مطولة، في فصل كامل، ما يشبه "يوميات تنامي الغضب" في بعض شوارع وميادين القاهرة بعد اعتقال سعد زغلول ثم نفيه، يتوقف الراوي ليرصد حركة "فهمي" الذي خرج مع زملائه في مظاهرة شملت طلابا من كليات متعددة وانضم إليها الأهالي. ثم يشير الراوي إلي أنه في اليوم التالي: "بعثت مصر بلدا جديدا يبكر في الاحتشاد في الميادين بغضب طال كتمانه. وألقي هو (فهمي) بنفسه بين الجموع في نشوة فرح وحماس كأنه تائه ضال عثر علي أهله بعد فراق طويل". وسوف تنتهي هذه المظاهرة، التي جابت شارع الدواوين، ببعض الجرحي والقتلي. ولكن سوف تحتشد مظاهرات أخري، بأماكن عدة، يومي الثلاثاء والأربعاء: و"تنامت الإضرابات التي جعلت "قلب البلاد يخفق حيا ثائرا"، ثم سنكون في النهاية مع الراوي الذي يري العالم الخارجي من منظور فهمي، في مظاهرة أخيرة: "رباه! امتلأ الميدان (ميدان المحطة، أو ميدان رمسيس في زمن لاحق)، امتلأت الشوارع المفضية إليه مائة ألف، طرابيش، عمائم، طلبة..عمال..موظفون..الشيوخ والقساوسة، القضاة.. لا يبالون الشمس .. هذه مصر.. إلخ" (انظر الرواية ص468)، و:"تحرك الموكب العظيم نحو عابدين فتدفقت موجاته تباعا مرددة هتافات الوطنية، بدت مصر مظاهرة واحدة، بل رجلا واحدا، بل هتافا واحدا". وسيشهد فهمي، وهو يمضي في "مظاهرته"، بتعبير الراوي، ميدان الأوبرا من بعيد "رءوسا متلاصقة كأنها تنبت من 3 فضلا عن هذا التناول المرجعي لثورة، أو لثورات، كان لها شهودها وتاريخها وربما سياقاتها المحددة، تجسد نهاية رواية (الحرافيش) ثورة مأمولة، تلوح خارج الزمن، هي بمثابة خاتمة لحكايات/دورات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، وكلها تختزل زمنا طويلا تتري علي صفحاته، وتمر بدوراته، أجيال متناسلة متتالية.جسد واحد ملأ الأرض طولا وعرضا"، وتحولت المظاهرة، بألوفها الحاشدة، فيما يشعر فهمي إلي "قوة وطمأنينة علي طمأنينة، قوة لا ينفذ منها الرصاص". ورغم التصريح بالمظاهرة، فسوف ينفذ منها وفيها الرصاص، وسوف تصل واحدة من طلقاته إلي فهمي نفسه، فيدخل في معارج استشهاده؛ تلاشيه في حلم الحشود الغاضبة، ليري "السماء منبسطة عالية (...) يقطر منها السلام".3 فضلا عن هذا التناول المرجعي لثورة، أو لثورات، كان لها شهودها وتاريخها وربما سياقاتها المحددة، تجسد نهاية رواية (الحرافيش) ثورة مأمولة، تلوح خارج الزمن، هي بمثابة خاتمة لحكايات/دورات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، وكلها تختزل زمنا طويلا تتري علي صفحاته، وتمر بدوراته، أجيال متناسلة متتالية. في نهاية الدورة/الحكاية الأخيرة بالرواية يستعيد "عاشور" الأخير "عاشور" الأول في الدورة/الحكاية الأولي، ويتجاوز تجربته في الوقت نفسه. وخلال هذه النهاية نشهد ثورة يتواري خلالها كل تمييز بين الواحد والكل، وبين القائد والمتبوعين، وبين الحقيقة والحلم. يلتقي عاشور الأخير الحرافيش في سوق الدراسة، وبهذا اللقاء "اشتعلت النار في كيانه كله". يؤكد لهم أنه، في هذا العالم، "لا يحيا إلا الأحياء"، وأن ما ينقصهم ليس الرغيف فحسب، وإنما أيضا القوة والثقة بأنفسهم. وإذ يكتمل شعور الفرد/الجماعة بهذه القوة وتلك الثقة، يواجه عاشور شخوصا هم بمثابة تمثيلات مجسّدة لظلم بدا أبديا بسبب اتصاله واستمراره. في وجوه تلك الشخوص سيجهر عاشور: "لا بد للظلم من نهاية". وأخيرا، سوف يتدفق الحرافيش "من الخرابات والأزقة، صائحين ملوحين بما صادفته أيديهم"، ليتساقط ويتهاوي أمام زحفهم المتسلطون القدامي والجدد، ويتساقط ويتهاوي معني التسلط ذاته. كانت تلك الغضبة الجماعية، بعبارات الراوي، "معركة لم تسبق بمثيل من حيث كثرة من اشترك فيها. فالحرافيش أكثرية ساحقة. وفجأة تجمعت الأكثرية واستولت علي النبابيت فاندفعت في البيوت والدور رجفة مزلزلة. تمزق الخيط الذي كان ينتظم الأشياء. وأصبح كل شيء ممكنا". ومن غمار هذه الفوضي، ومن قلب شظاياها، سوف تبزغ ملامح تومئ إلي زمن آخر، ثم سوف تستقر وتتشكل قسمات أخري لعالم ممكن جديد؛ فيه "لن يقع أحد تحت رحمة أحد"، وفيه يكون "العدل خير دواء"، وفيه تتساوي قيمة العمل وقيمة القوة، وفيه يصبح الجموع الذين تم استبعادهم، طيلة تاريخ غابر طويل، "قوة لا تقهر"، وأخيرا فيه يطمئن الجازع بما يبثه له قلبه عن مستقبل مهيّأ ممهّد، مفتوح لكل من "يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة"؛ وهي عبارة من عبارات كثيرة، دالة، تنتهي بها رواية (الحرافيش). هذه الثورة، التي ترنو إلي عالم خارج العالم، وتمسك أيضا بأطرافه وتدرك سبل تحقيقه، لا تتصل هنا بسياق تاريخي، وإنما يمكن أن تندرج في إهاب الأمثولة التي تصلح لكل تاريخ. هي شارة علي زمن مرتجي يتوج أزمنة الحرافيش جميعا، التي كانت وظلت دائما أزمنة جور وعدوان، ما كانوا وما ظلوا هم محض "حرافيش"، مظلومين معتدي عليهم. ومن هنا، فصياغة هذه الثورة الأخيرة، المأمولة، تجعلها لا تضع حدا لكل تسلط وجور فحسب، وإنما أيضا تفتح أفقا علي خلاص نهائي، وعلي حياة يبدأ فيها كل شئ، ويؤول فيها كل شئ، من وإلي براءة وطموح جماعيين مطلقين. ولعل هذه الثورة، بهذه الصياغة، في عمل يعد من أثمن ما كتب نجيب محفوظ، إن لم يكن أثمن ما كتب، تمثّل بلورة لتناولات أخري في أعمال متعددة له، ظلت فيها الثورة، المقرونة بملابسات واقع لم يتغير، بعدما يؤوب الغضب الجماعي إلي سكون، محض حلم مراود فحسب. 4 الثورة التي راودت عالم نجيب محفوظ، خلال تناولات مرجعية أو مأمولة، ظلت دائما تراود كتابته نفسها التي قطعت شوطا طويلا، عبر أكثر من نصف قرن، وتحولت تحولات كبري خلال ما يسمي "مراحل" أو "منظومات" قطعتها وانتقلت بينها رحلته الإبداعية. هذا كاتب لم ينأ أبدا، ولم ينأ عنه أبدا، هاجس المساءلة والتمرد والتجاوز، ولم تكف ولم تتوقف، في أي وقت، "ثورته" المتصلة علي ما كان قد كتبه من قبل. والذي يقرأ، من خارج زمننا، نصوص محفوظ كما بدت في رواياته التاريخية الأولي، أو نصوصه التي ظهرت في رواياته التي كتبها خلال الأربعينيات، يجد صعوبة في التنبؤ بأن من كتب هذه النصوص هو نفسه الذي سوف يكتب رواياته التي كتبها في الستينيات، وهو نفسه الذي سيكتب هذا النص، الذي أوردناه أعلي هذه المقاربة الخاطفة، أو هو نفسه الذي كتب قبل هذا النص (رأيت فيما يري النائم)، أو هو من سيكتب بعده (أحلام فترة النقاهة). وكأن الثورة أو الثورات التي لاح تناولها في بعض أعمال محفوظ جزءا من الاحتفاء بسياق استثنائي، ليس أكثر من وقت عابر بين زمنين، هو نوع من التعبير عن عالم ينتفض ويغضب أحيانا ليعود بعد ذلك إلي هدوئه المتصل المقيم.. كأن هذه الثورة أو هذه الثورات قد تحولت، في كتابة نجيب محفوظ نفسها، إلي ما يشبه القاعدة الأساسية السارية عبر الأزمنة جميعا، أو إلي القانون الأبدي الذي يحكم ممارسة الكتابة، ويجعلها مدفوعة دائما بثورة مراودة، متجددة، متوهجة، طوال الوقت.