1 لا أحد يعرف سبب حرص صاحب البيت علي دخول المغارة. فليس معقولا أنه في كل مرة يأتي فيها لزيارة البيت والاطمئنان علي أحواله يحتاج إلي التقليب في الخردة، والتفتيش عن صامولة مثلا أو مسامير قديمة، أو تجميع قطع كاسيت متكسر. وليس معقولا أنه يطمئن علي عدم سرقة شيء إلا إذا كان يخفي كنزا لا أحد يعلم به، ويغير مخبأه باستمرار داخل المغارة. وكما حكي محمود أقدم السكان فإن المغارة كانت معدة لتكون سكنا للبواب. ثم صارت مخزنا تكومت فيه أشياء لا قيمة لها. وحينما عرض محمود علي صاحب البيت بأن يضمها إلي شقته ويزيد الإيجار، رفض وقال له يكفيه السطح يستمتع به كما يريد، كما أنه مازال يفكر في إحضار بواب. وحكي محمود أنه أحيانا ينادي عليه وهو داخل المغارة فلا يرد عليه إلا بعد تكرار النداء. ويخرج إليه متضايقا منه كأنه قطع عليه خلوته. ويعرف الجيران أنه متضايق من محمود دائما، فهو الوحيد الذي يشكو من تسلل الفئران من تحت باب المخزن، وينفي صاحب البيت وجودها بدليل أنه يمكث داخله ساعة أو أكثر كلما أتي دون أن يلحظ أي فأر. اعتبر السكان المخزن قضية تخص صاحب البيت ومحمود الساكن في الدور الأرضي. لكنهم كانوا يرددون أحيانا " المغارة " التسمية التي أطلقها عليه محمود. فتسمع أما تصيح في ابنها أن ينزل ليحضر لها ما وقع منها عند باب المغارة، أو أحدا يطلب من السباك أو الكهربائي أن يركن عجلته جنب المغارة. ويبتسم الجيران مجاملة لمحمود وهو يكرر وصف صاحب البيت بأنه آخر من تبقي من الأربعين حرامي، أو من عينوه بوابا علي مغارتهم بعد خروجه إلي المعاش. أما الأطفال فلم يستخدموا سوي المغارة، ولم يحذروا مثل الكبار من ترديدها أمام صاحب البيت. وكانوا يتضايقون من لحظة خروجه من المخزن، وصياحه في أحدهم المتواري تحت بير السلم " بتعمل إيه؟ " فيكشف بصياحه مخبأ الطفل أثناء لعبة الاستغماية. ويضطرهم إلي تضييع الوقت في الشجار حول إذا كانوا سيعيدون اللعبة من الجديد أم أن الدور علي من تم الإمساك به. ويظل صاحب البيت واقفا جوارهم يصغي لشجارهم. ولا يتوقفون عن الكلام حينما يقول كعادته رأيه، فمهما كان رأيه فلن يرضي به الجميع، بالإضافة إلي أنه ليس نفس الرأي الذي قاله في المرة السابقة. وحينما يتسحب أثناء ذلك أحد الأطفال محاولا دخول المغارة المفتوحة كان يقبض عليه وهو يصيح " بتعمل ايه؟ "، ويغلق الباب وينصرف أو يعاود الدخول مرة أخري بعدما يشير إلي الطفل الذي عليه الدور في اللعبة. 2 لم تكن المغارة في بالهم وهم عائدون مهدودين من اللعب. لكنهم فور رؤيتهم القفل مفتوحا. اتجهوا نحوها دون تردد. فلا تتاح لهم كل يوم مغارة صاحبها غائب، ويستطيعون أخذ ما يريدون دون استئذان. تخيلوا أنفسهم وقد فتشوا الصناديق في وقت قياسي وخرجوا حاملين أشياء لم تخطر في بالهم، ولم يجدوا مشقة في إخفائها وهم يصعدون إلي شققهم. المهم أن يكون كل منهم بمجرد دخوله المغارة قادرا علي لمح ما له قيمة قبل أن تصل إليه يد أخري، وأن يدفع بجسده من يمنعه من التقاطه، وأن يحافظ عليه وهو يكمل البحث حتي لا يتم خطفه أو يقع منه. تخوفوا من عودة صاحب البيت فجأة. أكد أشرف عدم عودته فهو أنهي زيارته منذ نصف ساعة وأكثر وبالتأكيد وصل الآن إلي شقته بالدقي. في كل مغامراتهم يكفيهم تظاهر أحدهم بأن الطريق أمان حتي يتظاهر الباقون باستعدادهم لأن يكملوا. لم ينشغلوا باحتمال أن ينفتح باب عم محمود. فهذا خطر لابد منه. ودائما شقق الأدوار الأرضية تقلقهم ويتمنون لو كان أصحابها مسافرين كل الوقت. وسيكون أهم جزء يتذكرونه ويعيدون حكايته قدرتهم علي الدخول والخروج، وتقليبهم في الصناديق دون أن يحس عم محمود. وسيتخيلونه بعد ذلك وهو يظن أن الحفيف الذي سمعه في المغارة إنما حركة الفئران السارحة فيه. في كل المرات التي تسللوا فيها إلي أماكن لم تكن الأشياء التي يعثرون عليها هي سبب سعادتهم فقط بل قدرتهم أن يفعلوا هذا رغم كثرة احتمالات انكشافهم. كانوا يشعرون أنهم صاروا محترفين في التسلل إلي أي مكان، وأنهم أخطر بكثير مما يتصوره أصحاب تلك المغارات. تقدم أشرف ومسك القفل ليرفعه. سمعوا صوت غناء إبراهيم وهو ينزل. وما إن أطل عليهم حتي أشاروا إليه بأيديهم أن يسكت. وبدت إشاراتهم كأنها لطمات علي وجهه. ابتسم وهو يري القفل في يد أشرف. " أنا نازل أقفله " اتصل صاحب البيت بوالد إبراهيم وأوصاه بالتأكد من أن باب المخزن مغلق. ومد إبراهيم يده ليأخذ القفل. صاروا الآن تحت رحمته. لن ينتظر أن يأخذ شيئا مما سيعثرون عليه. فلابد أن يضمن حقه قبل أن يصير شريكا لهم. ولن يقبل بأن يعدوه بأي شيء. كان يعرف أن أي وعد سيتراجعون عنه فور انتهائهم من المغارة. وسيقولون له إن الأمر من الأساس كان لا يستحق. وكلما كانت وعودهم بأشياء يحتاجها تأكد من أنهم يخدعونه. فجأة أعطاه أشرف القفل مظهرا عدم اهتمامه. راهنوا علي أن المفاجأة ستجعل إبراهيم لا يطلب الكثير، وسيرضي عبد الرحمن إذا لزم الأمر بإطالة فترة إعارة مجلة " تان تان " له. لكن إبراهيم اقترب من الباب وهو يقلب القفل بين يديه كأنه لم يتفاجأ. وبينما كان يرفعه ليثبته مكانه دفع أشرف الباب ودخل الثلاثة . ليست هناك احتمالات كثيرة لهذا الموقف. إما أن يصيح إبراهيم ليخرجوا وينبه في الوقت نفسه كل من في البيت، أو أن يطالبهم بالخروج ويتظاهر بأنه سيغلق القفل منتظرا أن يساوموه. استغربوا وقوفه صامتا ينظر إليهم. فالوقت أيضا ليس في صالحه، وقد ينفتح باب شقة عم محمود وتنتهي الحكاية. فكروا في أنه يحاول إظهار قوة أعصابه، وعدم قلقه مثلهم، وأنه صار أكثرهم خبرة بهذه المواقف. رفع إبراهيم يده نحو جرس باب عم محمود. ابتسم أشرف ساخرا. واندفعوا يفتشون الصناديق بسرعة. انطلق صوت الجرس. زقزقة عصافير ضعيفة. لم يتوقعوا أن يفعلها. خرجوا مسرعين. وتسابقوا في صعود السلم قبل أن ينفتح الباب. دخل إبراهيم وراح يفتش في الصناديق. كانت حركة يده السريعة تتحسب لظهور أي فأر ومهيأة لدفعه بعيدا عنها. عثر علي ميدالية مفاتيح انكسر طرف " ما شاء الله " المعلقة فيها، وقصافة سليمة بهت معظم الرسم عليها. لم ير أي فئران. وابتسم وهو يتخيل خروجها كلها وراء عم محمود الذي ذهب مع زوجته لزيارة ابنته. ولمح وهو يخرج ساعة أشرف التي وقعت منه دون أن ينتبه. التقطها ووضعها في جيبه. وأغلق القفل. ضغط علي الجرس مرة أخري كأنه يطلق زقزقة العصافير تحية له. كان كل منهم يطل عليه من الدور الذي يسكن فيه. مر عليهم أثناء صعوده واستهانوا بالميدالية والقصافة، وقالوا إنهم كانوا سيعثرون علي أشياء أفضل لولاه. وطلب منه عبد الرحمن إرجاع " تان تان " حالا. صعد وراءه أشرف بسرعة وقال له هامسا " الساعة وقعت مني جوه " . أبدي ابراهيم اندهاشه محدقا في وجه أحمد، كأنه واقف أمام مغارة مفتوحة ويستطيع أن يأخذ منها ما يريد. 3 " ما فيش سطح تاني. خلاص قفلته ". صاح صاحب البيت وهو يخبط القفل بالباب. كان كلامه موجها في الأساس إلي عم محمود الذي أبلغ قسم شرطة العمرانية بعزمه علي بناء دور مخالف للرخصة. وتم استدعاؤه وكتب تعهدا بعدم البناء. كل ساكني البيت كانوا مقتنعين بما فعله عم محمود لكنه صار هو المسؤول فقط عن منع البناء. بدأ صاحب البيت في النزول . لم ينزل بسرعة. كان يتوقف عند بسطة كل دور. ويردد عدم فهمه كيفيكون البيت بيته ولا يستطيع البناء فيه. ويذكر الجميع بأنه كان سيبني سقف الدور الأخير بالخشب حتي يحافظ علي البيت. وماذا كان سيكسب لو انهار البيت؟ تكرار كلامه عند كل دور كان ينم عن إصراره علي أن يسمع الجميع، وفي الوقت نفسه يمنحه فرصة ليلتقط أنفاسه ويستعد لمعاودة الصياح. هل كان ينتظر خروج أحد السكان ليؤيد موقفه ويشاركه غضبه؟ كل من البيت ودون اتفاق مسبق لم يخرجوا. فتفكير الجميع استقر علي عدم التكلم معه أثناء نزوله، فلن يتراجع عن قراره بإغلاق السطح، وحرمان محمود من الصعود إليه كما اعتاد في كل مغربية، وأية محاولة لإقناعه بالعدول عن قراره ستزيد الأمر سوءا. وربما وهذا احتمال كبير أن يكون عدد منهم فكروا في فتح الأبواب، ودعوته إلي شرب الشاي وتبادل الحديث معهم، لكنهم كانوا يتراجعون مع اشتداد صوته وهو يهم بالنزول بعد أن استراح قليلا. بدا كأنه سيظل ينزل السلم اليوم كله. وكلما نزل دورا يأتيهم صوت كفيه وهما تخبطان بعضهما بعضا لتنفضا تراب الدرابزين الذي علق بهما. كانت هذه عادته دائما كأنه يعلن عدم رضائه أبدا عن نظافة البيت أو أنها اقل مما يريد. ازداد تضايق الأطفال من مشاهدة أفلام الكارتون دون صوت، خاصة مشاهد الانفجارات والصراخ والتكسير والقفز من المباني العالية. ظنوا أن قرار آبائهم بكتم الصوت لن يستغرق سوي دقيقتين. ثلاث، لكن الأفلام كادت أن تنتهي ومازال هذا الرجل يصيح. وكل الكبار يصغون ويترقبون ما سيحدث، ويعلقون علي صياحه همسا فيما بينهم، ويعزمون علي الخروج إليه لو شتم عم محمود، وفي الوقت نفسه يزجرون أي طفل يهم برفع صوت التليفزيون. لم تنته الحكاية كما ظن الكبار برحيل صاحب البيت. وجدوه قد عاد ومعه أحد العمال وطلب منه إخراج كل ما في المغارة. وصاح " حاشوف بقي فين الفيران دي " التي شكا محمود منها كثيرا. كان العامل في البداية يرص الأشياء بعناية. وعندما فهم الحكاية بدأ يرمي بها ولا يهتم باصطدام شيء بباب شقة محمود. تكومت كل الأشياء أمام الشقة. وغادر صاحب البيت بعدما أغلق باب المغارة. شق محمود طريقا ليمر منه وسط الركام. والتقط مسامير رآها صالحة للاستخدام. وصواميل قد تفيده في إصلاح شيء. تفهم السكان غضب محمود، ووعدوه بالتدخل لإنهاء المشكلة، لكنهم حذروه من تنفيذ فكرته برمي كل هذه الخردة في الشارع. وبالتأكيد سيعيدها صاحب البيت إلي مكانها مادام احتفظ بها كل هذه السنوات. كانوا يقولون هذا وعيونهم تفتش في الأشياء عما يقنعهم بأهميتها أو ما يصلح لأخذه. بعد أسبوع نجح السكان في إقناع صاحب البيت بفتح المغارة، وتبرع أحدهم بإحضار عامل ليعيد إليها كل الخردة. لم يلحوا عليه في موضوع فتح السطح. اعتبروه مشكلة ستحل بمرور الأيام وبعد أن يكف صاحب البيت عن تكرار " ما فيش سطح تاني ". أما أطفال البيت والشارع فقد افتقدوا الركام أمام الشقة، ونشبت شجارات كثيرة بينهم كلما حاولوا تحديد من فيهم كان خوفه أو قلقه السبب في عدم الحصول علي المزيد. قصة من كتاب " في مستوي النظر"