»المواطنون الشرفاء» هم المواطنون الأساسيون الذين تتعامل معهم السلطة الآن في مصر. علي العكس من توقعات كثيرة في الشارع السياسي، تربط فعل التصدي للثوار ب»المواطنين الشرفاء»، فإن المواطنين الشرفاء، كما تصفهم السلطة، لا يدافعون عن أحد. من يتصدون للثوار، من »يدافعون عن النظام» بأيديهم هم في الغالب جماعات مصالح، بلطجية أو مأجورون أو معادون بحكم تكوينهم الفكري لمطالب الثوار. »المواطن الشريف» بحسب تعبير السلطة، لا يتحرك من بيته في الغالب. رأينا المواطنين الشرفاء وهم يجلسون في بيوتهم أثناء ثورة يناير يسبون الثورة، ورأيناهم في 11 فبراير وهم ينزلون الشوارع للاحتفال مع الثوار بسقوط مبارك. نري المواطنين الشرفاء طول الوقت وهم يخافون علي أبنائهم عندما يصبحون »متطرفين دينيا»، أو عندما يصبحون »شيوعيين»، الأمر سيان. نراهم وهم يلومون أبنائهم عندما يرتشون ويتم حبسهم، ويلومونهم عندما لا يرتشون فيفقدون موارد محتملة لحياتهم. الحالة الوحيدة التي لا يخشي فيها المواطنون الشرفاء علي أبنائهم عندما يعملون بوظائف محترمة ويتزوجون وينجبون. وتمضي الحياة. المواطن الشريف لا يميل للعنف الصريح، ولكنه لا يعترض علي العنف الناعم، المنهجي، المقدَّم جيداً، ويميل لتصديق أية نظريات تقوم بتبريره. ما لا يتسامح معه المواطن الشريف هو الشراسة والدماء، خاصة لو جاءت من أسفل، ولكنه لا يتحرك. الجهد الذي يقوم به هو جهد نفسي في الأساس، جهد يهدف إلي إقناع نفسه بأن الوضع دائما هو علي ما يرام، وإن من لا يجعل الوضع علي ما لا يرام هم الجماعات التي تقول إن الوضع ليس علي ما يرام. كل هذا كان واضحا في مذبحة ماسبيرو. مثلت مذبحة ماسبيرو صدمة كبيرة للمواطن الشريف. المواطن الشريف رأي بعينيه- دماء كثيرة تسيل بأيدي الجنود، ومدرعات تدهس بشرا، وسمع بأذنيه عن مقتل جنود بأيدي الأقباط. انحاز المواطن الشريف لما سمعه علي حساب ما رآه. الانحياز لأي كلمة، أي حرف، يؤكد له أنه علي حق، وعدم تصديق ما رآه بعينيه. الأيام التالية كانت حافلة بالمفاجآت. المجلس العسكري يواصل صمته بخصوص قتلاه، ويعلن أنه لن يعلن عنهم. والقناة الأولي تعترف بأن المعلومات بخصوص »ثلاثة قتلي من أفراد القوات المسلحة »كانت غير دقيقة. ما الذي يفعله المواطن الشريف؟ إنه ببساطة يلوم الضحية. هذه هي الوسيلة الأكثر أمانا لحفظ توازنه النفسي. يتم الدفع هنا بأن المتظاهرين كانوا في طريقهم لماسبير من أجل السيطرة عليه، والمذبحة الصغري منعت مذبحة كبري محتملة. بالمناسبة، المواطن الشريف يتابع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويتعاطف مع الفلسطينيين عندما تهدم إسرائيل بيوتهم. هل يعلم المواطن الشريف أن إسرائيل أيضا لا تعدم مبررات لهدمها بيوت الفلسطينيين؟ أن إسرائيل تقول إنها بيوت مخربين يستعدون لتفجير مواقع حيوية في إسرائيل. هل يعلم المواطن الشريف أن احتلال العراق وهو كان معارضاً له، لكنه لم يتحرك، بالطبع تم بذريعة السلاح النووي الموجود في العراق والذي يمكن أن يعرض العالم لكارثة. الشر دوما ما يتم تبريره. الشر المجرد من أية تبريرات غير موجود. يتم تبرير المذبحة التي وقعت بمنع مذبحة أكبر علي وشك الوقوع. هكذا، مع كل المذابح التي نعيش في ظلها، مع حبس الناشطين وتعذيب البشر والبلطجة والسرقة والمذابح، يتم تبرير بقاء قانون الطوارئ القانون الذي لم يمنع حالة الانفلات الأمني التي يصرخ بسببها المواطن الشريف كل ساعة بأنه يمنع مذابح أكثر هولاً. ما سيحدث لو عشنا في دولة قانون طبيعي هو شيء قادم من وراء الخيال، هولوكست جديد نحن في انتظاره. هذا ما يقوله المواطن الشريف وهو يبرر بقاء قانون الطوارئ، وفي نفس الوقت يرتعب خوفا من الانفلات الأمني الذي حدث في ظل بقاء قانون الطوارئ. السلطة دائماً علي حق، وعندما تتراجع السلطة عن مواقفها، فهي تصبح علي حق أيضاً. جميع من هاجموا اقتراح إجراء انتخابات رئاسية مباشرة بدلا من الاستفتاء، هللوا لمبارك في اليوم التالي عندما قرر إجراء انتخابات رئاسية مباشرة بدلا من الاستفتاء. تقنية »لوم الضحية » من أجل الاحتفاظ بالتوازن النفسي بعد المذبحة، ليست جديدة. المثال الذي سنستخدمه كخلفية هنا مأخوذ من أفظع مذبحة عرفها القرن العشرين، وأفظع استغلال للمذبحة عرفها نفس القرن. تم في إسرائيل عام 1950 سن قانون لمحاكمة النازيين وأعوانهم، ولكن الدولة الإسرائيلية الوليدة حينذاك لم تجد ضباطا نازيين يعيشون علي أرضها، كان هذا هو المأزق الإسرائيلي، القانون المعد لمحاكمة النازيين غير قابل للتفعيل. وبالفعل، فلم تحاكم إسرائيل ضباطا نازيين بمقتضي هذا القانون سوي ضابط واحد، هو أدولف أيخمان، بعد أن قام الموساد باختطافه في الأرجنتين. من الذي تمت محاكمته إذن بمقتضي هذا القانون؟ المفاجأة مذهلة، لقد تمت محاكمة الناجين من الهولوكست هم بأنفسهم. تم وصف بعض الناجين بأنهم »متعاونون مع النازيين» وتمت محاكمتهم. هؤلاء الناجون لم يكونوا متعاونين بما يكفي. حاكمت إسرائيل إلزا ترانك، المتهمة بضرب أسيرات يهوديات في معسكرات التجميع، ويحزقئيل اليجستر، الذي كان مشهورا بالقسوة ضد الأسري اليهود. ولكن كليهما، أليزا ويحزقئيل، كانا في النهاية مجرد ناجيين بسيطين، كانا يهوديين أسرهم النازيون وحاولوا إرضاء ضباطهم النازيين بممارسة القسوة ضد أقرانهم اليهود. مجرد حالة شر بسيطة، أما يسرائيل كستنر، وهو واحد من قادة مجالس اليهود في أوروبا المعروفة باسم اليودنرات، والمتعاون مع النازيين فعلاً، والذي قام بتسليم يهود للسلطات النازية مقابل نجاته هو ونجاة أسرته، فلقد تم تعيينه في إسرائيل متحدثا باسم وزارة التجارة والصناعة. هكذا، قامت إسرائيل بمحاكمة ناجين صغارا من الهولوكست وقامت بترقية متعاونين يهود كبار مع الألمان. علي طول السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، ظل الهولوكست هو الجرح النفسي الأكبر في النفسية الإسرائيلية. ومن أجل التغلب علي هذا الجرح، تم توجيه اللوم للضحية. شاع تعبير »الذهاب كالغنم إلي الذبح» الدال علي اليهود الذين تم حرقهم في أفران الغاز النازية. بل وشاع جدا خطاب التبرؤ من الماضي اليهودي الذي حدث خارج إسرائيل، باعتبار أن اليهودي ما قبل دولة إسرائيل كان ضعيفا، منحنيا، خانعا، مقابل الإسرائيلي القوي الذي عاد بالقوة إلي »أرضه». كتب بن جوريون قائلا إن التاريخ اليهودي قبل إسرائيل لا معني له، وإن التاريخ اليهودي الحقيقي هو تاريخ التوراه، ثم تاريخ دولة إسرائيل، وما بينهما غير موجود. قال بالحرف الواحد: »»بتأسيس دولة اليهود حدثت طفرة من مئات السنوات، وفي الحرب لأجل السيادة اقتربنا من أيام يهوشع بن نون، وأصبحت إصحاحات يهوشع أقرب وأكثر وضوحا للشباب من كل خطابات المؤتمرات الصهيونية. »الماضي القريب» لأسفنا الشديد، ليس موجوداً لأن يهود »الماضي القريب» تمت إبادتهم». هكذا أيضاً، في سعي الإسرائيليين لمداواة الصدمة النفسية للهولوكست، فلقد لجأوا للحل الأمثل، إلغاء الضحية، التبرؤ منها، لومها ومحاكمتها إذا أمكن. هذا مثال بسيط علي كيفية ترميم الصدمات النفسية بعد حدوث المذبحة. لأجل استثمار هذه الحيلة النفسية، تسارع السلطة دائماً لأن تبعد نفسها عن الصراع. بدلا من أن يصبح الصراع صراعا بين السلطة والثوار، فإنها تجعل الصراع بين مؤيدين للسلطة ومعارضين لها، أي، صراع بين طوائف الشعب المختلفة. رأينا كيف تم تجنيد الآلاف في موقعة الجمل ليحاربوا المصريين ولتقف السلطة »محايدة». رأينا كيف حاول التليفزيون المصري تحريض المواطنين الشرفاء علي حماية الجيش من هجمات الأقباط، رأينا كيف تم في البحرين وسوريا تسيير المظاهرات المؤيدة لتضرب المظاهرات المعارضة. هكذا يتمكن المواطنين الشرفاء من البقاء علي الحياد. فمن ذا الذي يسمح ضميره له بالمشاركة في حالة اقتتال أهلية؟! إذا حدثت الفتنة فالزم بيتك. والمواطنون الشرفاء دائما ما يلزمون بيوتهم، سواء حدثت فتنة أم لا، ولكنهم مع الفتنة يصبحون أكثر قوة إزاء نغزات ضميرهم. الصراع لا يعود صراعا بين سلطة وشعب، الصراع يصبح »فتنة»، وينبغي ان يلام كل من يشارك فيها، وبالتحديد من بدأها، أي، من قالوا لا في وجه من قالوا نعم. نقطة أخيرة بالنسبة لعمل الحيل النفسية: لأن الشر لا يتم تقديمه مجرداً، وإنما يتم تقديمه دائما وكأنه خيار عقلاني، فلقد صرح الشيخ حازم صلاح ابو إسماعيل من عدة أيام بآلية جديدة لحل مشكلة الجزية التي سيفرضها الحكم الإسلامي علي المسيحيين. قال إن الجزية مبدأ عادل، فهي تُدفع مقابلاً لعدم مشاركة الذميين في حماية البلاد، وبالتالي فقد اقترح أن يُعرض علي المسيحيين دفع ثلاثة جنيهات شهريا مقابل إعفائهم من التجنيد، لا أحد يمكنه الغضب من اقتراح كهذا، فجميع المواطنين المصريين يتحرقون شوقا لإعفائهم من التجنيد. وهذه هي رحمة الإسلام كما وصفها. لا أعتقد أن الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، الذي أحترمه لجرأته ولا أتفق مع أفكاره، قد سمع بقصة مئير كاهانا. ذلك الزعيم الإسرائيلي المتطرف وعضو الكنيست ومؤسس حركة »كاخ» اليمينية»، الذي اقترح أن تدفع للفلسطينيين مبالغ مالية معينة مقابل تركهم أراضيهم. كاهانا لم يدع صراحة لطرد الفلسطينيين، بل لتسهيل طردهم، وبشكل عقلاني تماماً (من ذا الذي يمكنه رفض مبلغ مالي كبير مقابل تركه لأرض مشتعلة بالصراع وباحتمالات الموت فيها؟!)، ولم يدع أبو اسماعيل لإلغاء تجنيد المسيحيين، بل لتسهيل إلغاء تجنيدهم، تمهيداً لتحويلهم فعلا إلي مواطنين من الدرجة الثانية، مواطنين مشكوك في ولائهم لوطنهم، بخطاب يبدو عقلانياً، وبابتسامة متسامحة. ما الذي يحتاجه المواطنون الشرفاء أكثر من هذا لتبرير حيادهم إزاء الشر؟