شخصياً، لم أُفَاجأ بالمستوي الشعري لديوان حجازي الأخير، مثلما تفاجأ غيري من الأصدقاء الذين قرأوا الديوان، لأنني كنتُ قرأتُ بعض قصائده التي نشرها علي فترات متباعدة، وأيضاً، كنتُ قرأتُ تجربته الشعرية من خلال مجموعته الشعرية التي كانت نشرتها دار العودة، وكانت علاقتي بشعره جد باردة، لأنني لم أجد فيها ما يُسْعِفُني علي تَلَمُّس أفق شعري واعدٍ وبعيد. هذا ما كنتُ قلته لصديقي الشاعر حلمي سالم، ونحن نتجوَّل في أزقة فاس القديم، فأبدا تحفُّظَه علي بعض ما جاء في كلامي، مستثنياً بعض نصوص حجازي. كان الفرق بيننا طبعاً، في كوني نظرتُ إلي تجربة حجازي في سياق شرطها المستقبلي، أي باعتبارها تجربة لا تفتح طريقاً، أو هي بالأحري، تجربة تفي بشروط شعرية تحتكم لتجربة عامة، كانت تفرضها طبيعة المرحلة التي ظهر فيها حجازي، كما ظهر فيها غيره، لكنها لم تكن وَعْداً شعرياً بعيداً، ما جعل حجازي يبقي دون أحفاد، كما تَنَبَّه إلي ذلك الصديق الشاعر عبده وازن. بالعودة إلي الديوان، فعنوانه، ربما يكفي ليشي بما سيؤول إليه الباقي، كونه آتياً من الماضي، رغم محاولة حجازي إضفاء الحاضر علي ما هو آتٍ من الماضي. فالعنوان لا يفتح أفقاً في طريق الديوان، أو في الدخول إلي نصوصه، التي جاءت متفرقةً، لا ينتظمها خيط رابط، اللهم الوزن الذي ظل حجازي مخلصاً له، واللغة التي بدتْ طارئةً علي السياق الشعري الراهن، الذي خطا فيه الشعراء الآتين بعد حجازي مسافاتٍ مَيَّزت تجربتهم بجرأتها وعمقها. فحتي عندما سعي حجازي في ديوانه هذا أن يكتب بلغة قريبة من النثر، أو ذات نفس نثري، مثلما كان فعل محمود درويش في ديوانه "لماذا تركتَ الحصان وحيداً"، فهو لم ينجح في توليف شعرية الوزن، بشعرية اللغة التي ظلت خارج النفس الشعري، وبدت بعض النصوص التي سارت في هذا المنحي، خصوصاً النصوص المكتوبة عن الثورة، وهي حديثة جداً، غير قادرة علي استيعاب الحدث شعرياً . وهو ما جعل، ربما، من نثرية التعبيرات اللغوية، حتي لا أسميها صوراً، تبقي عاريةً من نَفَسِ الشعر، وما كشف، أيضاً، عن لا جدوي الوزن في ترويض اللغة، خصوصاً حين يكون الوزن مفتعلاً، أو لا داعي له، إذا كانت اللغة قادرةً علي نَحْت إيقاعاتها الخاصة، حيث المسافة بين النثر و الوزن، تبقي محض خدعة، أو مجرد فصل تاريخي، بين لغة للنثر وأخري للنظم. ظل حجازي، في كثير مما كتبه أو قاله في أكثر من مكان، يعتبر ما جاء بعد تجربة الشعراء الرواد، وخصوصاً ما سُمِّيَ ب "قصيدة النثر"، هي شعر ناقص، معتبراً الوزن "إضافة"، أو قيمة مضافةً، قياساً بالنثر الذي هو نِصْفُ شعرٍ. وحتي في فهمه للإيقاع، فهو ظل أسير تصورات كلاسيكية، تكتفي، كما بَيَّنْتُ سابقاً، في ردي علي كتابٍ له في الموضوع، بمعاجم فرنسية مدرسية، في الوقت الذي عملت فيه، مثلاً، الشعرية المعاصرة، علي الذهاب بمفهوم الإيقاع إلي ما هو أوسع من منظور هذه المعاجم، ومن منظور حجازي نفسه الذي ما زال يلتبس عليه المفهوم، كون الوزن، ربما، ما زال يمنع عنه رؤية الشعر في انسياباته اللغوية الفادحة، وفي تجسير العلاقة بين "النثر" و "الشعر"، لا "القصيدة"، التي هي ليس كل الشعر، كما أنها ليست مفرده. في ديوان "طلل الوقت"، يبدو هذا الوعي النظري للشِّعر، كما يتبنّاه أو يفهمه حجازي، عائقاً في فتح أفق الشِّعر، وفي الخروج من "القصيدة"، بمرجعياتها الشفاهية، الإنشادية، إلي مفهوم "الكتابة"، الذي مَيَّزَ تجارب شعراء، أتاحوا للوعي الكتابي أن يحضر في كتاباتهم، وأصبحت الصفحة إحدي الدوال التي ظلت منسية في تجارب "الرواد" الذين كان الوعي الشفاهي هو الوعي المهيمن في تجاربهم، ومن بينهم حجازي. حاول حجازي في "طلل الوقت"، أن يعطي الموضوع، أو الفكرةَ، أهميةً، قياساً ب "الشكل"، أو الإطار الفني، ما جعل، من الديوان يكون إشارةَ حياةٍ فقط Signe de vie، أي إعلان حضور، رغم أن حجازي لم يعد يكتب الشِّعرَ بشكل مُنْتَظِم، ما يشي بانحسار تجربته، وهو ما يؤكده هذا الديوان، بعد طول انتظار. يذكرني هذا بما حدث للشاعر المغربي الراحل، أحمد المجاطي، الذي توقف عن الكتابة لأكثر من عشر سنوات، وحين نشر قصيدة "الحروف"، بدا للمُهتمين والنقاد، أن المجاطي لم يخرج من سياق تجربته السابقة، وأن أفق انتظار القاريء خابَ، لأن شاعراً مثل المجاطي، كان مُتوقَّعاً منه أن يقود، ليس تجربته الفردية، بل تجربة الشعر المغربي، إلي أفق أوسع، وهو ما يمكن قوله علي حجازي، لكن أفق الشعر عند الاثنين لم يخرج من "زمن القصيدة"، ولم يَعِ ما عرفته أراضي الشعر من انشراح في شجرها. في هذا الديوان، كما قرأته، ثمة عودة لطلل الشِّعر، لماضيه، الذي هو القصيدة، بما ما مَثَّلُتْهُ من مظاهر، يبقي الوعي الشفاهي هو الأكثر تعبيراً عنها، والوزن، طبعاً، هو المظهر الأبرز لهذا الوعي، بما فيه تعبيرات إنشادية خَطابية، وبما فيه، أيضاً، من حنين لتجربة، مسافةُ الشِّعر اليوم، وربما في وعيها الكتابي، صارت أكثر اتساعاً مما يتصوره حجازي، وغيره ممن لم يخرجوا من الشعر الذي ما تزال الأذن، وحدها، هي مقياس تذوقه، والحكم علي قيمته الشعرية. في التجارب الشِّعرية الكبري، ثمة انتقالات تحدثُ عند الشاعر الواحد، تظهر في لغته التي غالباً، ما تعمل علي توسيع مجازاتها، وعلي توسيع إيقاعاتها، ما يكون له تأثير علي دوَالِّ النص المختلفة، التي لا تبقي أسيرة المعني الواحد، واللغة الواحدة، والإيقاع الواحد. لم يَرْهَن الشِّعر نفسه، عند كثير من الشعراء المعاصرين، بوعي شعريٍّ سَلَفيٍّ، فالمستقبل كان هو الأفق الذي يفتحه الشِّعر في طريقه، أعني النظر إلي الأمام، لا إلي الوراء، خصوصاً حين يصير هذا الوراء عائقاً في التقدم، أو صيرورة الوعي الشِّعري. فحجازي، لم يكتف بما كتبه إبَّان فترةٍ زمنيةٍ سابقةٍ، فهو كان، دائماً، في مواجهة الشعر الجديد، وفي مواجهة شعرياتٍ كانت تتخلَّق في سياق شعري، لم يستوعب حجازي خروجَه عن معايير الشِّعر، أو القصيدة، كما كتبها، وهذا، وحده، كان كافياً ليجعل من أفقه الشعري يبقي أسير سلفيةٍ، تجاوزها شعراء من نفس جيل حجازي، أو هُم . كانوا أكثر قدرةً من حجازي علي استيعاب ما جري من تحوَّل في الوعي الشعري، وفي هذه النثرية التي طغت علي العالم، بتعبيرٍ لميرلو بونتي، هذه النثرية التي هي نوع من تفكك العلائق بين الأشياء، أو تشظِّيها وانفراطها. فلا نسيج ولا وحدةَ، ثمة تفكُّك هو ما يُفضي لفهم طبيعة الأشياء، وإلي إدراك ما تُخفيه من دلالاتٍ. الشِّعر، بهذا المعني، هو إنصاتٌ لنبض الأشياء، ومراقبة دائمةٌ لِما يجري من متغيرات، وما قد يحدث من انتقال في الصُّوَر والمعاني، وفي طريقة النظر إلي الأشياء، أي إلي ما يحدث من انقلاب في العلائق بين هذه الأشياء، وفي "نسيجها"، وهو ما سينعكس حتماً علي طريقة التعبير، أي علي اللغة التي لم تعد هي ذاتُها التي كتب بها شعراء الأجيال السابقة، من العرب ومن غيرهم من شعراء العالم. لم يعد الشِّعر يأتِ من معيارٍ ما، بقدر ما صار الشِّعر، خلخلةً للمعيار، وانْكِتاباً يتخَلَّق إبَّان لحظة الكتابة، وليس بما يجري قبلها، أوخارجها.