يذهب معظم الناس إلي المؤتمرات ليأكلوا أو ليشربوا أو ليشبعوا رغبتهم في النميمة، وهكذا كانوا في مؤتمر أدباء الأقاليم في مرسي مطروح، منذ سنوات. كانت فرصة الأدباء للاستجمام. ذهب معظمهم بالشورتات. ركبوا "العجل"، ومشوا حفاة علي الرمل فيما عدا بهاء طاهر رئيس المؤتمر، كان ينزل من الفندق مرتدياً بذلته الكاملة! ربما يراه البعض محافظاً، أو "محبكها شويّتين"، ولكنه غير معني سوي بصورة الشخص الملتزم التي يريد أن يكونها. لقد ذهب إلي هناك ليعمل، لا ليلهو. وهكذا كان أول الداخلين إلي قاعة الندوات وآخر المغادرين أيضاً، لا يفوّت مناقشة إلا ويتحدث، يذهب إلي الاستراحة، ويعاود في المساء تكرار ما فعله في الصباح، في الوقت الذي كان معظم الآخرين يجلسون في المقاهي! وبالطبع لا شيء يبدر عن الملتزم إلا بحساب، إنه لا يرغب أبداً في أن يسبب جرحاً لأحد، بنفس المنطق الذي يجعل الأقاويل المرسلة تؤلمه، غير أنه سيسبب لك إحساساً بالقلق دائماً، فأنت لا يمكن أبداً أن تعرف لماذا صمت فجأة. يضحك بعد أن يطلق دعابة، أو بعد أن يروي موقفاً طريفاً، غير أنه يصمت فجأة أحياناً، بعد أن تطلق بدورك دعابة، وتبدأ في محاولة تذكر كل حرف نطقت به، فربما كان هناك ما قيل وضايقه. وهذه حكاية دالة.. في جمعية عمومية لاتحاد الكتاب كان بهاء طاهر يجلس منصتاً باهتمام. كانت هناك مناقشة ساخنة، وكان سعيد الكفراوي يتحدث، بعدها نهض بهاء معترضاً علي ما يُقال وهاتفاً "كذب"، طارحاً دلائل علي صدق وجهة نظره، وسمعتها "كاذب"، وبالطبع كتبتها هكذا في تغطية للجريدة. جاء تصحيحه سريعاً، مؤكداً علي أمانة التغطية، فيما عدا حرف الألف الزائد الذي حول "كذب" إلي "كاذب". كان لا يرغب في إيذائي، أو إيذاء من طاله وصف "الكاذب"! يحسب بهاء كل حرف يقوله قبل أن ينطقه، فالتجريح والهجوم والمعارك الصاخبة ليست أهدافه، وهي ما دفعه إلي العزلة الاختيارية في منزله بالزمالك. في شقته بالدور 11 يمضي غالبية وقته بين مطالعة الأعمال الأدبية، والجرائد، ومتابعة التلفزيون. لا يشاهد في الأغلب إلا نشرات الأخبار. هي مرضه الذي لم يشف منه، برغم أنها تسبب له حالة مستمرة من الإحباط والاكتئاب، ولكن يبدو أنه جرّب أخيراً نصيحة بعض الأصدقاء بإغلاق التلفزيون أحياناً! التجمعات الثقافية فيها جميع أمراض المجتمع بالنسبة إليه، لا ينكر أن هناك مشاحنات كانت تحدث في جلساتهم، كان المقهي يجمعه بسليمان فياض وغالب هلسا وأبوالمعاطي أبوالنجا ومحمد البساطي وأمل دنقل ويحيي الطاهر عبدالله، يضحكون، ويحتدون، غير أنهم في اللحظة التي يغادرون فيها لا يحمل أحدهم كراهية للآخر. يضحك: "في اللحظة التي تدير فيها ظهرك للأشخاص، حالياً، تتمني ألا يتم طعنك، أو حتي تحميلك بما لم تقله". تحديد العالم، أو تقليص مساحة المعارف والأصدقاء أصبح "أكثر راحة بالنسبة إليّ". يقول، ويضيف "لم تعد الحياة في الخارج جيدة، من الممكن أن تتحدث ببراءة فيؤخذ كلامك علي محمل سيئ. المناخ رديء"! إنه منعزل ولكنه يقضي حياته وفق سياسة الانتقاء، بمعني أنه لا يخرج حالياً إلا لمقابلة أصدقاء معينين، مثل عبد الله السناوي، وجمال فهمي، ويحيي قلاش، في الأغلب يتقابلون في مقهي قريب من منزله في الزمالك، يتبادلون الرأي حول الأمور التي تجري في المجتمع. إنهم الأصدقاء الذين يشعر معهم بألفة، ومعهم نصار عبد الله، غير أن الأخير بعيد قليلاً، حيث يمضي حياته وعمله في سوهاج، وباستثناء المقابلات النادرة علي فترات، لا يمكن أن يمر يوم بدون اتصال بينهما. كتابه المفضلون يشبهونه، إنه يتحدث في الأغلب عن كاتب ملتزم: "أنا لا أعرف كاتباً جيداً علي المستوي الكتابي، وفي الوقت نفسه يكون سيئاً علي المستوي الشخصي". يضرب مثالاً طوال الوقت بأنطون تشيخوف. في سيرته يبدو أقرب إلي ملاك، برغم أنه ارتكب العديد من الخطايا والحماقات في حياته، ولكنه من المؤكد تطهر، كان مريضاً بالسلّ ومع هذا كان يعالج المرضي مجاناً، ولكنّ أصدقاءه يعترضون علي وجهة نظره تلك، ويضربون أمثلة بعظماء كان سلوكهم رديئاً، ومنهم دستويفسكي المقامر، والحسود، الذي يغار من بعض الكتّاب. يري بهاء أنّ الشرّ لم يكن متغلغلاً في سلوكه، وأن الغيرة الأدبية تكون مشروعة وحاضرة أحياناً، مرات عديدة يقول لي "الكاتب قد يكون مجنوناً، ولكنه لا يكون سيء السلوك أبداً"! زوجة بهاء، وهي سويسرية، قارئة جيدة لأعماله. وأنا أطالع غلاف الترجمة الفرنسية ل(واحة الغروب)، وكنا نتحدث عن مشهد الإسكندر وقتله صديقه المقرب، قال لي إن زوجته معجبة بذلك الفصل جداً: "اطلعت علي تلك الترجمة، وقرأت ذلك الفصل، وأعجبتها الترجمة"، أما ابنتاه فلا ينشر شيئاً بدون أن يعرضه عليهما. حكي لي سابقاً: "دائما ما تبديان ملاحظات ممتازة. يسر الصغيرة لم تقرأ لي حرفاً حتي بلغت السادسة عشرة من عمرها، وفوجئت وهي في سنة أولي اقتصاد وعلوم سياسية بأن أحد أعمالي مقرر عليها، سألتني ماذا تريد أن تقول من تلك القصة؟ فشرحت لها.. وبالمناسبة لم تخبر أستاذها بأنها ابنتي، وكانت النتيجة أنها حصلت علي أسوأ نمرة بسبب كلامي (!!)، والذين حصلوا علي الدرجة النهائية هم من كرروا كلام الأستاذ، فقالت لي: عمري ما هاسألك تاني، وكانت دائماً تسخر من المثقفين، حينما تراني خارجاً تقول لي: انت رايح حفل تأبين لواحد من زمايلك؟ لكنها فجأة بدأت تهتم بالقراءة، قرأت لآخرين خلافي، ثم قرأتني، وبالمناسبة أعجبتها جداً الرواية الأخيرة (واحة الغروب) وقبلها (شرق النخيل)، ثم إنها دائما ما تأتيني بعمل وتسألني: هل هذا الكاتب جيد؟ ولكني أقول لها: هذا العمل لم أقرأه، خوفاً من الموقف السابق، أما دينا فكانت تقرأ أدباً منذ كانت صغيرة". يمكنني أن أضيف سعد القرش ومحمد علاء الدين إلي دائرته الصغيرة، فهو يحبهما علي المستوي الشخصي والكتابي، ودائماً يأتي علي ذكرهما في جلساته الخاصة، غير أنه يقرأ لآخرين من جيليهما، وإذا أعجبه عمل لا يكف عن الحديث عنه. يبدأ في سؤال الشخص: هل قرأت كتاب فلان؟ تمهيداً لنصيحة بقراءته علي ضمانته الشخصية! بهاء متخوف فيما يتعلق بما يجري في الوطن. يحكي عن صاحب "كشك" قريب من المنزل. الرجل موجود في مكانه بالشارع منذ ربع قرن، ويعرف كل السكان الموجودين، ومن يترددون عليهم، ونشأت بينه وبينه صداقات، وحدث مؤخراً أن سيدة أجنبية كانت عائدة من سفر، وسلمت عليه، وقبّلته في وجنته. ورآه شخص "من إياهم"، بتعبير بهاء، وجاءه قائلاً له: "ياريت ماشوفكش في المسجد تاني"، ولكن الرجل لم يلتفت للتهديد وذهب إلي المسجد، ووجد الملتحي عند الباب يسأله عن سبب قدومه رغم أنه أصدر الأوامر له بعدم المجيء، فأخبره البائع بأنه لن يغادر المسجد، وأنه موجود في ذلك المكان منذ خمس وعشرين سنة، وهكذا قرر الملتحي مغادرة المسجد حتي لا يصلي مع شخص صافح أجنبية! يسألني بدهشة حقيقية: "تخيل؟!" ثم يطلق العنان لضحكته الممزوجة بحزن مقيم.