تحتفظ ذاكرة الإنسان بمشاهد عصية علي النسيان، بعضها يرتبط بأحداث مهمة، أو أشخاص مؤثرين، أو مواقف مصيرية، وبعضها لايرتبط بأي شيء، حتي أنني أتعجب أحيانا من بعض المشاهد التي تحتل مساحة من ذاكرتي بلا مبرر معقول، ومن هذه المشاهد، مشهد لقاء أكثر من عشرين شاعرا، احتشدوا في بهو فندق متواضع افتُتح خصيصا لتسهيل إقامة ضيوف مؤتمر أدباء مصر "الأقاليم" بمدينة مرسي مطروح. كنا في مثل هذا الوقت (نهاية ديسمبر) منذ ثلاثة أعوام، وكانت حبات المطر تنقر زجاج الأبواب والشبابيك بقوة عند منتصف الليل، وبرغم هذا الطقس الشتوي القارس جلس الشعراء يلقون قصائدهم بحماس علي بعضهم البعض، لقد جاءوا من مدنهم وقراهم لينفتحوا بإبداعهم علي آخرين، فوجدوا سعادتهم الخاصة في أن يستمعوا إلي بعضهم البعض، بعيدا عن الأمسيات المدرجة في البرنامج، التي في الغالب يكون بها شاعر نجم، و"سنيده" يحظون بمشاركة النجم أمسيته إذا وافق بالطبع. في العام التالي، تكرر المشهد في مدينة ساحلية أخري هي الإسكندرية، وجلس الشعراء في الفندق الصغير يتبادلون الاستماع لأنفسهم بحماس أكبر، فالشعر كان عنوان المؤتمر.. كان الشعراء سعداء بالتواصل فيما بينهم، لكن داخلهم كانوا يتوقون إلي ماهو أبعد وأسعد، كانوا يعلقون أبصارهم علي شهرة أوسع تأتي بها آليات المؤسسة، وكانوا يراهنون علي اليوم الذي يقفون فيه أمام الميكروفون لإلقاء قصيدة أو قصيدتين، قد تفتح لهم أبواب النشر والشهرة، لقد ترسخ في عقولهم أن مفتاح بوابة المرور إلي النجومية مخبأ في "أدراج" المؤسسة، لذلك يجلسون في انتظار أن تفتح المؤسسة "أدراجها"، وتمنحهم الفرصة.. مازالوا يشعرون أنهم مبدعون "درجة تانية" باعتبارهم "أقاليم"، بل يؤكدون هذه النظرة العنصرية لدي "أدباء المدينة"، وينتظرون الصدفة التي تصنع منهم نجوما، ولا يصنعونها، وأنهم حتي يصبحوا أدباء كبار عليهم أن يستجيبوا لنداء النداهة، لسحرها، وإغوائها، أن يتركوا قراهم ويأتون إلي المدينة الملعونة، القاهرة، ويطرقون أبواب مقاهيها، زهرة البستان، الندوة الثقافية، الحامدية، ويمرون أمام ريش، يجلسون في الأتيلييه، يتذكرون أن هذه الأماكن جلس ويجلس فيها المبدعون، وأنه كي تكون مبدعًا عليك أن تمر عليها لتحصل علي "ايزو" الإبداع، يحكون أن عبد الرحمن الأبنودي، وأمل دنقل، ويحيي الطاهر عبد الله، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد عفيفي مطر ...."جابوا جون في مصر" عندما غادروا قراهم، مثلما تمني الفنان سعيد صالح في مسرحية "هالو شلبي"، لكنهم نسوا ارتداء "شراب أستك منه فيه"، فلو أنهم وصلوا إلي تلك المرحلة من الحداثة لتذكروا أن العالم عصفت به ثورة تكنولوجية غيرت معالمه القديمة، حفرت خطوطًا ومسارات جديدة، نسوا أنني أجلس بصحبة الكمبيوتر وأقرأ قصيدة لشاعر شاب من أسوان وآخر من العراق، ليس شرطا أن اقرأ وأعرف فقط مرتادي "زهرة البستان" أو التكعيبة أو "الندوة الثقافية"، يمكننا الآن أن نقرأ الشعر والقصص القصيرة لمن لا يعرف عنوان نادي القصة، ولا دار الأدباء، ولمن لا يتسكع في الأتيليه، أو يطرق ابواب اتحاد الكتاب، والمجلس الأعلي للثقافة، وهيئة الكتاب، أو لمن يتردد علي "ورشة الزيتون"، حتي يألفه المترددون، ويسمح له "حضوره الفيزيقي" بامتطاء المنصة ليقول مالديه. أدباء مصر، العالم تغير، أخرجوا من الأدراج المغلقة، التي تراكمت فيها الأتربة وغلفها العنكبوت، فالعالم الجديد الذي تعيشونه تبخر فيه كل شيء صلب كما قال "ماركيز"، فإلي متي تراهنون علي "الميري".. انطلقوا، واصنعوا مصائركم بعيدا عن حظيرة المؤسسة.