فيرجينيا وولف كانت مصدر بهجة كبيرة في الحفلات. أريد أن أقول هذا في البداية لأن وولف، التي حلت ذكري وفاتها السبعون هذا العام، تمثّل غالبا علي أنها السيدة الكئيبة في الأدب الإنجليزي، فهي دائما حزينة وغاضبة وتنظر بشر من الركن المظلم في تاريخ الأدب، وبجيوب ممتلئة بالحجارة. بالطبع كان لديها فتراتها الكئيبة، ولكن أولا أريد أن أخبر أي أحد قد يكون لا يعرف، أنها عندما لم تكن تحت وطأة نوبات الاكتئاب المتكررة، كانت شخصا يتمني المرء أن تحضر إلي حفلته، فهي شخص يستطيع أن يتحدث بمرح عن أي موضوع. شخص يتألق ويسخر. ورغم كونها نسوية جريئة إلا أنها كانت تميل لنقد نفسها لأيام إن علق أحدهم بشكل سلبي علي ملابسها. ومثل عدد كبير منا كانت تعاني من مشكلة في مجاراة الموضة. وكانت أيضاً مضطربة بشكل كبير بسبب عملها، فقد كانت تميل لأن تري أن (تجاربها البينة) في الأدب ستوضع جانبا مع بقية العجائب والغرائب والجهود الصغيرة التي توضع في الأراشيف والمخازن. من بين الأسباب التي جعلت وولف تغرق نفسها من 70 عاما، في سن التاسعة والخمسين هو ثقتها في أن روايتها الأخيرة (بين الفصول) كانت فاشلة تماما. عندما تم نشر روايتي (الساعات) التي ظهرت فيها وولف كشخصية، أصبحت بشكل غير متوقع عارفا إن لم أكن محيطا وخبيرا بحياتها وأعمالها. كنت أندهش حين يتكرر ويأتيني شخص ما ويقول: نعم، وولف رائعة، ولكنها ليست جويس، أليس كذلك؟ هي ليست جويس، هي نفسها، كتبت فقط عن أناس من الطبقة العليا، ولم تكتب أبدا عن الجنس. أعمالها الكاملة لا تحتوي سوي علي قبلتين رومانسيتين واحدة في (رحلة إلي الخارج) وأخري في (السيدة دالاواي)، وبعد هذين الكتابين المبكرين نسبيا، لا توجد مشاهد جنسية من أي نوع. ولكن في الحقيقة فأنا أعتقد أنه مهما كانت التحفظات التي يطلقها الناس علي وولف، في مواجهة جويس، فعليهم أن يتعاملوا مع حقيقة أنها كانت تكتب عن الناس وعن التفاصيل الصغيرة التي كانت، في هذا الوقت، تخص النساء وحدهن. جويس كان لديه حس جيد في الكتابة غالباً عن الرجال. كامرأة كانت وولف تعرف إحساس العجز الذي يمكن أن يصيب المرأة التي ليس لديها الكثير لتفعله. وكانت تعرف، بل كانت تصر، علي أن الحياة التي تنقضي في الاهتمام بالمنزل وإقامة الحفلات ليست بالضرورة حياة تافهة تماما. ربما يكون لديهم شيء ليكتبوه عن حالة وولف العقلية المضطربة، وخوفها أن تكون هي نفسها من الشخصيات الأقرب لأن تُنسي ويتم تجاهلها. إن انفعلت أو استثيرت جدا فهي تقع في حالة من اليأس تصبح كلمة اكتئاب معها غير كافية. في فتراتها المستقرة، كانت رائعة في الحفلات. أما في الحالة الأخري فتكون محطمة تماما. تهلوس، وتهاجم أقرب الناس إليها، زوجها ليونارد تحديدا، وبحدة مميتة أكثر من تلك المتوافرة عند العباقرة، والتي كانت تتملكها عندما تفقد عقلها. في هذه الحالة لم تكن فيرجينيا مرحة علي الإطلاق. تلك الفترات السوداء كانت تمر دوما، غالبا في خلال أسابيع، ولكن وولف لم تكن فقط خائفة من النوبة القادمة، وإنما كانت قلقة أيضا من كون عدم استقرارها العقلي سيمنعها من الحفاظ علي عملها ككاتبة. بعد نشر رواية (ليل ونهار) وبسبب الرغبة في تجاوز نوبات وولف وللتقليل من استثارتها، انتقلت هي وليونارد لضاحية هادئة بريتشمند، وأسسا دار نشر في قبو منزلهما.. وولف وبشكل مفاجئ أصبحت لا ترد علي أحد، وأظهرت قدرتها علي كتابة روايات تشبه بعضها البعض. حتي بدأت فترة كتابة أعمالها العظيمة والتي استمرت حتي موتها. هذه الحرية الجديدة كانت محورية لوولف كفنانة، ولكنها لم يكن لها تأثير كبير علي وقوعها المتكرر في نوبات الاكتئاب، التي ابتليت بها طوال حياتها. العلاج النفسي لم يكن حتي قد بلغ طفولته آنذاك في هذا الوقت نشرت هوجارث أخيرا الكتب المبكرة لفرويد ولم يكن هناك علاج متوافر لوولف. في العشرينيات كان يقال إن الاضطرابات النفسية سببها تلوث الأسنان، هذا الذي يصل بطريقة ما إلي المخ. خلعت عدد امن أسنانها، ولكن هذا لم يحل المشكلة. ورغم ذلك، وإن كانت وولف علي علاقة وطيدة بالحزن العميق أكثر من معظم الناس، إلا أنها مع ذلك، بتجل غامض للإرادة، كانت أفضل من الكثيرين في نقل البهجة الخالصة لكونها حية. اللذة العادية في الوجود ببساطة في العالم في يوم ثلاثاء عادي في شهر يونيو. وهذا واحد من الأسباب التي تجعلنا نحن الذين نحبها، نحبها بهذا الشغف.. إعجاب وولف بالعالم، وتفاؤلها به، هما تأكيدان يمكننا أن نثق فيهما لأنهما أتيا من كاتبة رأت أعماق الأعماق. في كتبها تظل الحياة عظيمة ورائعة واحتفالية؛ إنها تتجاوز أعمق الإحباطات. قرأت (السيدة دالاواي) لأول مرة وأنا طالب ثانوي بالمدرسة. كنت بطريقة ما متكاسلاً عن الدراسة، لم أكن صبيا من النوع الذي يختار كتابا مثل هذا ليقرأه. قرأته في محاولة يائسة لأثير إعجاب الفتاة التي كانت تقرأها في هذا الوقت. أردت، لأغراض عاطفية تماما، أن أبدو أكثر ثقافة مما أنا عليه. (السيدة دالاواي)، من أجل هؤلاء الذين لا يألفونها، تتعلق بيوم من حياة كلاريسا دالاواي، سيدة المجتمع التي تبلغ من العمر 52 عاما. تخرج في الرواية لتشتري احتياجاتها، وتقابل حبيبا قديما لم تعد مهتمة به، تنام القيلولة وتنظم حفلا. هذه هي الحبكة. في (السيدة دالاواي) تؤكد وولف علي أن يوماً في الحياة، حياة أي شخص، يحتوي، إذا نظرت له باهتمام كاف، الكثير مما يحتاجه المرء ليعرف كل شيء عن الحياة الإنسانية، شيء أشبه بالطريقة التي تظهر لنا فيها خريطة الكائن الحي كله عن طريق شريط الدي إن إيه. في (السيدة دالاواي) والروايات الأخري لوولف، نعرف أنه لا توجد حيوات تافهة، فقط طرق غير لائقة في النظر إليها. لم أكن، وأنا في الخامسة عشر، أفهم أي من ذلك. لم أفهم (السيدة دالاواي) وفشلت تماما في محاولاتي للظهور ذكيا أمام تلك الفتاة (ليباركها الله أينما كانت الآن.)، ولكن كان بإمكاني أن أري، حتي وأنا طفل جاهل وكسول، كثافة وسيمترية وقوة جمل وولف. كانت خبرتي الوحيدة مع الجمل قبل ذلك منحصرة في الجمل التقريرية. أما جمل وولف فقد كانت موحية. بدا أنه من الممكن أن تكون الكتب الأخري محتوية علي نفس العجائب. وكما اكتشفت فبعض الكتب تحتوي علي ذلك بالفعل. قراءة (لسيدة دالاواي) غيرتني، شيئا فشيئا، لأصبح قارئا. بعد عشرات السنوات من القراءة الأولي، التي جعلتني مرتبكا ومندهشا، والتي غيرتني، حاولت أن أكتب رواية عن وولف و(السيدة دالاواي). وصلت للفكرة وأنا قلق بشكل مفهوم. من جهة فالمرء إذا وقف بالقرب من شخص عبقري، فيكون أقرب إلي أن ينظر لنفسه كشخص أصغر مما هو عليه في الحقيقة، ومن جهة أخري فأنا رجل، ووولف ليست فقط كاتبة عظيمة ولكنها أيقونة نسوية، وهناك تأكيد طويل الأمد لإحساس أنها تنتمي للنساء. مازلت أريد أن أكتب كتابا عن قراءة كتاب. (السيدة دالاواي) علي الرغم من عدم فهمي العام لأغراضه الكبري، أظهر لي، في سن مبكرة نسبيا، ما الذي يمكن فعله بالحبر والورق. مع تشككي الكبير، قررت أنه من الأفضل أن تخاطر بالدخول في نار محرقة من أن تكتب كتابا وأنت تعرف أنك قادر علي كتابته. هكذا بدأت. روايتي (الساعات) أساسها هو إعادة سرد معاصرة ل(السيدة دالاواي). تساءلتُ كم ستتغير شخصية كلاريسا دالاواي عن طريق عالم يكون لدي الناس فيه مدي واسع من الإمكانيات. هذه الفكرة أثبتت أنها مجرد فكرة جيدة ولكنها لم تدفعني للكتابة، نحن بالفعل لدينا السيدة دالاواي، سيدة دالاواي الرائعة، من في العالم يريد واحدة أخري. حاولت أن أكتب الكتاب بحبكة مزدوجة، أبدل فيه بين الفصول التي تتحدث عن السيدة دالاواي المعاصرة والفصول المتعلقة باليوم الذي في حياة وولف والذي بدأت فيه كتابة الكتاب؛ عندما بدأت وهي متشككة ومضطربة في وضع الجمل الافتتاحية للكتاب الذي سيبقي إلي الأبد. حاولتُ حتي كتابة قصة وولف في الصفحات ذات الأرقام الفردية وقصة كلاريسا في الصفحات ذات الأرقام الزوجية، بحيث يقبلان بعضهما في كل مرة تقلب الصفحة. مثل هذه الأفكار يكون لها معني أثناء الوحدة وأنت في مكتبك أكثر مما تظهر للناس. ولكن رغم تضمين العنصر الثاني ظل الكتاب غير مضبوط. ورفض أن يتلاءم مع الأداء الأدبي. ظل بعناد فكرة رواية أكثر منه رواية بالفعل. ما مشكلتي إذن؟ جلست علي الكمبيوتر، تخيلت كلاريسا دالاواي، وتخيلت وولف صانعتها وهي تجلس خلفها، وتلقائيا تخيلت بعدها أمي وهي جالسة خلف وولف. كما فكرت في الأمر، بدأت أتعامل مع أمي علي أنها الشخصية المنطقية الثالثة. أمي كانت ربة منزل، من نوع النساء اللواتي دعته وولف ب "ملاك المنزل"، وهي وهبت، مثل العديد من الملائكة، نفسها لحياة كانت صغيرة جدا عليها. كانت دائما تبدو لي كملكة أمازونية، أُسرت وأحضرت إلي الضواحي، حيث أجبرت علي العيش في سجن لم يكن ليحتويها، ولكنه احتواها جبرا. أمي كانت تتخلص من مشاعرها الغاضبة بالتركيز علي كل تفصيلة ممكنة. كان يمكنها أن تقضي نصف نهارها لتختار مناديل المائدة المناسبة للحفل. كان تحضر كل وجبة بشكل رائع، ولكنها تظل قلقة إن كانت أخفقت. حتي أن الجراثيم قررت في النهاية عدم دخول المنزل تماما، لأنها عرفت أنها لن تجد مكانا فيه. جالسا أمام الكمبيوتر، تساءلت؛ إن محوت الهدف الأعظم بالنسبة لامرأة يكون رواية، وبالنسبة لأخري يكون منزلا نظمته جيدا وحافظت عليه بحيث منعت التلوث والحزن من الوجود فيه فأنت تقوم في الحالتين بنفس الجهد. هذا هو الأمر. بدا بشكل أساسي أن أمي ووولف مرتبطتان بمهمتين متشابهتين؛ الإثنتان تسعيان نحو مثل مستحيلة، والاثنتان لم تشعرا بالرضا، سواء بكتاب أو بكعكة، في الحالتين لم يرضيا رغبتهما في الكمال، هذا المعلق بعيدا عن المتناول. وهكذا أعدت تسمية أمي بلورا براون أصبح الكتاب ذا حبكة ثلاثية، وانطلقت من هنا. ربما تكون وولف أعظم مؤرخة لحيوات النساء. نساؤها لسن سيدات شهيرات لديهن سمعة. ومهاراتهن أقرب للمهارات النسائية التقليدية. السيدة دالاواي مثل السيدة رمزي في (نحو المنارة) هي مضيفة مثالية. الاثنتان لديهما موهبة كبيرة في تنظيم حفل غداء، ويستطيعان مساعدة أي شخص ليشعر بالارتياح، ويتأكدا من كون الطعام وتنظيم الأطباق في حالة مثالية. ولكن الرجال في رواياتها هم الذين يبدون سخيفين بعض الشيء. بينما يعمل الرجال ويعبرون عن قلقهم ويندبون حظوظهم في العالم، تبث النساء الحياة في الرجال وفي عائلاتهن وفي بيوتهن. النساء هن التيارات الكهربية التي تسري في الغرف. النساء لسن فقط مصادر الراحة بل أيضا الحياة والاكتمال. النساء يعرفن أنه في النهاية، نحن نظل في حاجة إلي الطعام والحب، حتي بعد أن يأخذ وظائفنا الشباب، وتنتقل أعمالنا الأرضية إلي رفوفهم. وولف كانت، وهذا لا يفاجئنا، غير واثقة مما تكتب، حتي لو كانت تكتبه بشكل رائع. هي كانت تعتقد أن أختها فانيسا التي كان لديها أطفال وعشاق وشعور عام بالحرية في حين أنها هي الخالة الثقيلة والنحيلة والعقيمة (زواجها بليونارد كان ودودا ولكنه لم يكن مفعما بالعاطفة) التي تقضي حياتها في كتابة الكتب. كانت تشعر بهذا حتي وهي تكتب (غرفة تخص المرء وحده)، الوصايا النسوية القديمة، وولف كانت تطلب المساواة للنساء، وفي نفس الوقت، كانت قلقة لأن عقمها كان يعني أن حياتها كانت عبارة عن فشل. (الساعات) فاجأت كاتبها وناشرها ومحررها، لأنها فرت مما كان يبدو المصير الواضح، وهي أن تُقرأ (غالبا بعدم رضا) من عدد قليل من معجبي وولف وبعدها تسير بما جمعته من كرامة نحو أرفف الكتب المهجورة. ولكنها باعت بشكل جيد وبعدها وهي مفاجأة كبري للجميع، تحولت إلي فيلم من المعروف أنه ناجح. حيث لعبت فيه نيكول كيدمان دور فيرجينيا وميريل ستريب كلاريسا، وجوليان مور دور لورا. عدد من الناس سألني عما أعتقد أنه سيكون رأي وولف في الكتاب والفيلم. أنا متأكد أنها كانت ستكره الكتاب، فقد كانت ناقدة حادة. وربما سيكون لديها تحفظات علي الفيلم، وإن كنت أعتقد أنه كان سيسرها أن تري نجمة سينمائية من هوليود تقوم بدورها. أمي، الشخص الحي الوحيد الذي ظهر في الكتاب، لم يعجبها الكتاب، وإن كانت ادعت بشجاعة أنها تحبه. أنا، المخلوق الأناني، اعتقدت أنها ستكون سعيدة لفكرة أنني اعتبرت حياتها مهمة بما يكفي لتوضع في رواية. ولكن لم يكن يخطر ببالي أنها ستشعر بالاستباحة والخيانة، وأن حياتها لم تفسر بشكل صحيح. أيتها الأمهات، لا تنشئن أولادكن ليصبحوا روائيين. وأثناء تصوير الفيلم، أكتشف أن امي مصابة بالسرطان. لم يكن هذا معروفا لمدة طويلة، وحينما عرفناه كان قد مر وقت طويل. عاشت لمدة أقل من عام بعد التشخيص. كنت في لوس أنجلوس معها أثناء أيامها الأخيرة. اتصلت بسكوت رودين، منتج الفيلم، وقلت له: أنا لا أعتقد أن أمي ستكون قادرة علي مشاهدة الفيلم، هل يمكن أن ترتب لها رؤية أي شيء جاهز منه؟ رودين كان لديه عشرون دقيقة من المشاهد يمكن أن تعرض علي شريط فيديو، أحضره مندوب إلي منزل أسرتي، وضعته في التليفزيون في حين انتظر المندوب بهدوء في غرفة أخري. وجدت نفسي جالسا مع أمي المريضة والمحتضرة، نشاهد جوليان مور وهي تقوم بدورها، وكأن عملية تناسخها قد تمت وهي لا تزال حية. هذه حادثة صغيرة جدا بالنسبة لطبيعة الأشياء. إنها من مظاهر الرحمة الصغيرة. إلا أنه بعد عشر سنوات، لا زلت مذهولا من طبيعة الأحداث؛ فمن جهة لدينا وولف التي تبدأ روايتها الجديدة، القلقة من كونها لن تكون أكثر من كونها رغبة عن كتابة تجربة فاشلة أخري لإنسان آخر، مكتوبة بواسطة امرأة غريبة الأطوار أكثر من كونها عبقرية، كاتبة متطلبة تهتم بحيوات نساء عاديات في عالم محاصر بالمعارك والآلام، ومهدد بأن يفني كله. ومن جهة أخري، وبعد 70 عاما، لدينا أمي، المرأة التي ربما ومن الممكن أن تكون قد كتبت عنها، تري ممثلة متألقة تقوم بدورها، وتعرف (علي الأقل أتمني أن تعرف) أن حياتها تعني أكثر مما سمحت لنفسها أن تتخيل.