وهكذا مر عام علي رحيل الأب الروحي والصديق الغالي الدكتور نصر حامد أبوزيد شيخ القبيلة المصرية في مدينة لايدن. وفي هذا العام حدثت حوادث وتغيرات سياسية جذرية غيرت وجه مصر، بلده الذي كان دائما في خاطره، و تلك الأحداث وإن لم يكتب له أن يعيشها بين أظهرنا، فكأنها كانت دائما في مخيلة أحلامه في كل وقت. إن أول شيء خطر في ذهني في يوم نجاح الثورة المصرية المباركة وأنا أتابع الأحداث من هنا في لايدن هو اسم الدكتور نصر، وفي تلك اللحظات كم تمنيت أن يكون بيننا ليكون أول من أتصل به هاتفيا لأشاركه تلك المشاعر، وإذ بي أتصل بالدكتورة إبتهال يونس هاتفيا، والتي كانت بالمصادفة قد وصلت إلي القاهرة عائدة من لايدن في نفس اليوم، وإذ بها تبكي لأن نصر ليس معها ليشاركها تلك اللحظة. وبالرجوع إلي الجرائد الهولندية وسيرته الذاتية - والتي نشرت أولا بالألمانية بتحقيق نفيد كرماني وترجمت بالهولندية والإسبانية، والتي للأسف لم تترجم إلي الآن إلي العربية، وجدته يحدث القارئ عن حلمه المصري والعربي الكبير في لقاءات صحفية عدة. علي الرغم من غضبه من مصر وما فعلته معه في أول أيام القضية كان يقول: "أشعر وكأن مصر هي أمي التي قررت فجأة أن تهجرني، و أنا لا أخجل أن أقول: إن الطفل في داخلي مجروح جرحا عميقا. وأحاول جهدي أن لا تتحول هذه الحادثة إلي صدمة نفسية. يجب علي الجميع أن يعلم أنني مصري حتي النخاع!" "إذا اتصل بي أي مصري مقيم أو عابر في هولندا للقاء أقول له: أهلا وسهلا هل تستطيع المجيء في التو؟ وزملائي هنا يتعجبون لماذا لا أخاف بعد كل هذه التهديدات التي تلقيتها، لكن لا أعرف لماذا يجب علي أن أخاف، أنا أؤمن أن الموت سيأتي أينما كنت." إن قصة أبي زيد التي كان يطرحها في سيرته الذاتية لم تكن لمجرد الانتقام من أحد، ولكنه كتبها لتكون حلما لفكره ولوطنه: "كم أحلم أن يكون هذا الوجه القبيح لبلدي مصر ما هو إلا قناع، وأن مصر يوما ما ستخلع هذا القناع وتقول لي ضاحكة: لقد أخفتك حقا، ولكن بعدها سأجلس معها سويا لنضحك علي هذا الماضي الحزين." إن قصص أبو زيد الذاتية المصرية تقرأها وأنت تضحك أحيانا، وأحيانا تسيل الدموع علي خدك، وتقرأ الكتاب وأنت تشم رائحة ساندوتشات الفول والطعمية التي تعود أن يبدأ بها يومه أيام كان طالبا في كلية الآداب في القاهرة مقابل قروش زهيدة. بعد أحداث الاعتداء علي السياح الأجانب في الأقصر عام 2003 كتب الدكتور نصر مقالا في إحدي الجرائد الهولندية الكبري يوصي السياح الهولنديين بعدم التوقف عن زيارة مصر بسبب تلك الأعمال، موضحا أنها أعمال فردية ولا تمثل الشعب المصري بأي شكل كان. كانت مصر تعيش دائما في داخل نصر، كم كان يتمني أن لا تتحول مصر إلي مقبرة له يدفن فيها في أواخر أيامه وحسب. كان علي يقين أن معاناته في حياته ما هي إلا مثال مبسط من معاناة كثير من المصريين غيره الذين يبدأون حياتهم بالبحث عن رغيف العيش وتربية إخوتهم اليتامي بعد وفاة الأب. إن الغربة التي كتبت عليه هي نفس الغربة التي كتبت علي جيل بأكمله في الداخل والخارج. وأما عن مصر التي عاشها فقد كان دوما يقول عنها: إن مصر بحالتها هذه قد فقدت جيلا بأكمله، مصر التي عاشها هي كالقطة التي تأكل أطفالها الصغار، وبعدها تشتاق إلي ولادة المزيد والمزيد لتأكلهم من جديد. لقد كانت الفكاهة والدعابة المصرية جزءا أصيلا من شخصية وقلب الدكتور نصر، لقد كان من عادته أن يشاهد الأفلام الكوميدية القديمة ليتذكر مصر الماضي و يكسر غربته وليضحك من قلبه، إن خوفه الدائم لم يكن من العيش في الغربة، ولكن الخوف كان يكمن في أن تتحول مصر نفسها إلي غربة رغم بعده عنها. وفي سنوات الغربة الأولي كان يحن دائما إلي الرجوع، يشتم رائحة العشب وفرن خبز والدته الذي كان يجلس فوقه بعد أن يبرد وهو طفل صغير في بيت والديه، ويسمع في خياله صوت الآذان من قحافة، وهو في الحقيقة بين جدران مسكنه المتواضع في هولندا. وقبل أشهر قليلة من وفاته رحمه الله- كتبت NRC وهي من أكبر الجرائد الهولندية علي لسان الدكتور نصر: "إن المجتمعات العربية قد ماتت أخلاقيا و روحيا، لأن أنظمتها لا تقدم أو تطمح إلي أي حراك أو تغيير اجتماعي، وإن الحكومات العربية تحرص علي تجهيل شعوبها وأن لا تتعلم أن تكون لها آراء مستقلة"، "هناك فرق شاسع بين التعليم الذي يجعلك تستطيع أن تفكر والتعليم الذي يرغمك علي الطريقة التي يجب عليك أن تفكر بها " "إن الجيل الجديد يبحث عن أجوبة لأسئلة ملحة، ولا يجب أن ننتظر أن يستمر وضع المجتمع علي هذا الشكل؟" "أنا كعالم وحالم يجب أن أبقي متفائلا، كيف يتسني للعالم الذي فقد حلمه في بصيص أمل المستقبل أن يستمر في عمله دون طموح أو حلم؟! يجب عليك أن تؤمن في قدرة إمكانيات البشر في تغيير حياتهم في أي مجتمع كانوا، وعندها لن يكون هذا التغيير في مصلحة الأنظمة الحكومية الحالية ولا في مصلحة الغرب." وبالفعل فإن هذا التغيير الذي كان يرجوه في مصر والعالم العربي قد حدث وما زال يحدث بالفعل، ونسأل الله أن يكون المستقبل مشرقا للأجيال القادمة كما كان الدكتور نصر وغيره من الشرفاء المخلصين الذين رحلوا عن عالمنا يتمنونه لأمتهم و بني جلدتهم من بعدهم. أستاذ مساعد الدراسات الإسلامية جامعة لايدن