تجربة السجن- رغم قسوتها- بالنسبة للمثقف والمبدع تجربة ثرية، علي مستوي الحياة والمواقف والكتابة أيضا، يراها البعض فرصة للتأمل، ويراها البعض الآخر حياة خاصة تتخلق داخل النص الابداعي- الذي يكتب بألم اللحظة وضراوتها عبر كلمات من لحم ودم، عن اشخاص وعادات وتقاليد مختلفة، وثقافة تتسم بالبعد الإنساني الحي، في السجن تولد »حكايات« تضيء ظلمة الزنازين، وتعيد بعضها تشكيل موقف المثقف من الحياة والإنسان. الكاتب والمؤرخ صلاح عيسي يري أن تجربة السجن بالنسبة للمثقف مثلها مثل أي تجربة إنسانية أخري يمكن ان تطرح ثمارها خارج السجن، كما يمكن ان تطرحها- بعد ذلك- بفترة طويلة ومن أهم الأعمال الأدبية التي كتبت في السجن رواية نجيب الكيلاني والتي تحولت إلي فيلم تحت عنوان »ليل وقضبان« سيناريو مصطفي محرم وإخراج اشرف فهمي، وكذلك قصيدة هاشم الرفاعي »رسالة في ليلة التنفيذ«، رواية »تلك الرائحة« لصنع الله ابراهيم التي كتبها في سجن الواحات، وكتابه الذي كتبه بعد أربعين عاماً من التجربة وهو »يوميات الواحات«. أما عن تجربته الشخصية فيقول عيسي انه سجلها في عدة أعمال ادبية كتب بعضها داخل المعتقل والبعض الآخر وضع خطته اثناءه. فمن الأعمال التي كتبها داخل الزنزانة مجموعة »شهادات ووثائق لتأريخ زماننا« ومجموعة »جنرالات بلا جنود« وكتابه الأول »الثورة العرابية«، بالاضافة الي المقالات التي كان يكتبها ثم يرسلها الي الجرائد من داخل محبسه لتنشر بأسماء مستعارة. حياة خصبة ويؤكد صلاح عيسي أن »السجن« من الممكن أن يكون حياة خصبة للمثقف وفرصة للقراءة والاطلاع والتفكير رغم ظلمة الزنازين وكبت الحرية، علي سبيل المثال فان المرحوم سيد قطب كتب اثناء وجوده في السجن بعد أن حكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما تفسيره »ظلال القرآن« ثلاثين جزءاً، والذي كان قد بدأه قبل دخوله، وكتب كذلك كتابين آخرين اهمهما »معالم في الطريق« والذي طبع ووزع وهو في محبسه. وكذلك كتب الشاعر احمد فؤاد نجم كثيرا من قصائده التي لحنت داخل السجن مثل »مصر يامه يابهية« و»كل ما تهل البشاير« و»ورقة من ملف القضية« التي قامت علي حوارية صوتية يبدأها بقوله »أنا شيوعي.. أنا مصري«. ويضيف عيسي قائلا: أذكر واقعة تاريخية ذكرها يوسف إدريس في حديث له وهي ان »احسان عبدالقدوس« حين دخل السجن استلهم روايته الشهيرة »الوسادة الخالية« ذات الطبيعة الرومانسية من وسادة السجن مع اختلاف الأجواء والأحداث، في حين كتب لطفي الخولي قصة اسمها »الصفيحة« عن المسجون الفقير الذي يبيع جسده للمساجين الأغنياء مقابل قروش بسيطة ونشرها في مجموعته »رجال وحديد«، كما كتب يوسف ادريس قصة »مسحوق الهمس« في السجن ايضا، عن مسجون في زنزانة يسمع اصواتا في زنزانة مجاورة فظل يدق علي جدار الزنزانة متصورا ان جدارها مشترك مع سجن. الإنسانية أولاً أما الناقد الكبير عبدالمنعم تليمة فيشير إلي أن تجربة السجن تجربة قاسية لأنها تخرج الانسان عن سياقه الطبيعي إلي سياق استثنائي. ويروي حادثة اعتقاله في السبعينيات قائلا: »لقد دق الجرس وكنت متوقعا اعتقالي، وكان ذلك قبل زواجي من د. رشيقة الريدي، وحين فتحت الباب وجدت عقيدين من أمن الدولة هما العقيد حمدي والعقيد نبيل، وقالا لي: نريد فحص المسكن، فسألتهما: هل لديكما إذن من النيابة فقالا: نعم، ووجدت الاذن موقعا من وزير الداخلية. فأخذت قرارا في نفس اللحظة بأن أحمي إنسانيتي من أي ظلم وجور، وسأقف بصلابة في مواجهة ذلك: وقلت ذلك لهما: افحصوا ماتشاءون وصادروا ماتشاءون لكن حذار من الجور علي إنسانيتي. وبالفعل ذهبنا إلي »سجن طرة« وهناك جاءني وكيل نيابة ليحقق معي وقال لي: اسمي عبدالمجيد محمود - الذي أصبح بعد ذلك النائب العام لمصر، وأضاف: لقد كنت مع النائب العام وكانت عنده كشوف المعتقلين فاخترت التحقيق معك بالتحديد، وذلك لأن برنامجك الذي دخلت به انتخابات اتحاد الكتاب ولم تنجح، أعجبني، فأخذته ودخلت به انتخابات أحد الأندية ونجحت. وقد كان »عبدالمجيد محمود« في تحقيقه معي نموذجا راقيا جدا حيث طلب لي سجائر وقهوة وعاملني بما يليق بإنسانيتي. ويؤكد د. تليمة: أيا كان الأمر فتجربة المعتقل تخرج الإنسان عن سياق حياته العادية، فهي خارج سياق الإنسانية - تماما، حيث تخرجك الي يد أخري إما أن تجندك أوتسحقك أو تصفيك جسديا أومعنويا وهذا أمر بالغ الخطورة. وتنبهت لذلك منذ اللحظة الأولي من أجل الحفاظ علي إنسانيتي فمن الممكن أن أفصل من الجامعة أو تحرق كتبي لكن الحذر كل الحذر من الاقتراب من إنسانية الإنسان. أصغر سجين أما الكاتبة المسرحية والروائية فتحية العسال فتشير الي ان سيرتها الذاتية »حضن العمر« مليئة بالقصص والحكايات التي عاشتها في السجون المختلفة. وتضيف انها مرت بتجربة السجن منذ سنوات شبابها الأول، فقد كانت اول مظاهرة تشارك فيها بعد قيام مظاهرة للمسجونين ضد ما كان يسمي بالمعاملة »أ« للمعتقلين الذين يحملون شهادات عليا الذين كانوا يعاملون معاملة خاصة في محسبهم حيث كانوا يأكلون لحما وخضارا، في حين ان المجموعة »ب« من المسجونين العاديين من العمال والفلاحين والطلبة كانوا ينامون علي »البرُش« ويأكلون »اليمك« وهو الخضار المطبوخ من أعشاب السجن. والعجيب أن الذين قاموا بالمظاهرة داخل السجن هم من المجموعة »أ« وكان من بينهم زوجها الروائي الراحل عبدالله الطوخي. وتقول »العسال«: شاركنا في المظاهرة ونحن في الخارج وذهبنا بمطالبنا الي اللواء محمد نجيب، وهناك رأيت جمال عبدالناصر للمرة الأولي، ولما بدأت أتكلم قال لي محمد نجيب: يا فتحية زوجك يريد تغيير القوانين الخاصة بالسجن. ويبدو أن »نجيب« قد »حطني في دماغه« وقتها، لأنني حين خرجت في مظاهرة بعد ذلك بأيام تم القبض عليّ، وكنت وقتها حاملا في الشهر التاسع، ووضعوني في »التخشيبة«، كنت امام احتمالين إما أن اضعف واما ان اقاوم، وانا داخل زنزانة قسم شرطة »قصر النيل«، فكتبت ببنزة شعري عبارة »ياعبدالله«: أنا دلوقتي حسيت بسجنك، وبكره لو خرجت للمظاهرة تم القبض عليّ مش هايهمني«. وبعد أيام تصادف وانا داخل هذه الزنزانة بعد خروجي منها احد المثقفين الذي تم تحويله الي »سجن مصر« وهناك قابل عبدالله الطوخي وأخبره عن العبارة المكتوبة. أما المرة الثانية التي دخلت فيها »التخشيبة« فكانت بعد ذلك بتسعة اشهر بعد ان خرجت في مظاهرة ضخمة ضد »الأحكام العرفية« وكنت قائدة هذه المظاهرة فاخذوني الي قسم المطرية، وكنت أحمل ابني