إذا جاز لنا استخدام أفعل التفضيل فإننا سنقول بثقة إن أفضل دساتير العالم هو الدستور الياباني. إنه الأصغر حجماً (23 صفحة) ومع هذا فإنه دستور لتمجيد الإنسانية، وقد علمتنا التجربة أن أفضل الحكماء من يعبّر عن أفكاره بأقل عدد من الكلمات. نعم يوجد إمبراطور ولكنه حسب المادة الأولي يستمد مكانته من إرادة الشعب الذي يملك السلطة السيادية، ووظائفه قاصرة ومحدودة، فمشورته تُلتمس ولكنه لا يؤدي سوي المهام المتعلقة بشئون الدولة المنصوص عليها ولا تكون له صلاحيات تتعلق بالحكم (المادتان 3و4)!! الدستور الذي تم إقراره في 3 نوفمبر 46 كان يهدف بالأساس إلي تجنيب اليابانيين ويلات الحرب: ".. وقد عقدنا العزم علي ألا نسمح أبداً مرة أخري بأن نتعرض لويلات الحرب من خلال تصرفات الحكومة، نعلن أن السلطة السيادية هي ملك للشعب ونسن هذا الدستور سناً راسخاً، والحكم أمانة مقدسة لدي الشعب، تُستمد سلطته من الشعب، ويُمارس ممثلو الشعب صلاحياته، ويتمتع الشعب بثماره، وهذا مبدأ عام من مبادئ البشرية يقوم هذا الدستور علي أساسه" (من مقدمة الدستور). كان هناك عزم علي حقن دماء اليابانيين والبحث عن سعادتهم والسعادة لا تكون في الحروب ولا في الخضوع لأوامر قادة لا يرون مصالح الشعب بشكل جيد. انظروا.. هذا جزء من حقوق الشعب وواجباته حسب الدستور الياباني: لا يُحال بين الشعب وتمتعه بأي من حقوق الإنسان الأساسية، وتُمنح لأبناء هذا الجيل والأجيال المقبلة حقوق الإنسان الأساسية التي يكفلها هذا الدستور للشعب وذلك باعتبارها حقوقاً أبدية غير قابلة للانتهاك (المادة 11). ويُحترم جميع اليابانيين كأفراد ويكون حقهم في الحياة والحرية والسعي إلي السعادة هو الاعتبار الأسمي في التشريع وفي الشئون الحكومية الأخري بقدر ما لا يتعارض ذلك مع الصالح العام (13). وجميع أفراد الشعب متساوون بموجب القانون ولا يكون هناك أي تمييز بينهم في العلاقات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية بسبب العنصر أو الجنس أو الوضع الاجتماعي أو المنشأ الأسري، ولا يُعترف بالنبلاء والنبالة ولا يكون أي منح لوسام شرف أو تكريم أو أي تشريف مقروناً بأية امتيازات أما المادة 15 فنحتاج إليها بشدة في دستورنا وهي تنص علي أنّ للشعب حقاً ثابتاً في اختيار مسئوليه العموميين وإقالتهم، وأن جميع المسئولين يعملون في خدمة المجتمع بأكمله لا في خدمة أي مجموعة منه، وأن حق البالغين في التصويت مكفول، وأنه لا يجوز انتهاك سرية الاقتراع في جميع الانتخابات، ولا يخضع المصوِّت للمساءلة علناً أو سراً. أما المادة 16 فتنص علي أن لكل شخص الحق في أن يلتمس سلمياً الانتصاف مما يلحق به من ضرر وإقالة المسئولين العموميين وسن القوانين أو اللوائح أو إلغاؤها أو تعديلها ولا يجوز التمييز ضد أي شخص بأية طريقة إذا تبنّي التماساً من هذا القبيل، ولتأكيد الحريات تأتي المواد 18 و19 و20 و21: لا يجوز إخضاع أي شخص للاسترقاق، ولا يجوز انتهاك حرية الفكر والضمير، وتُكفلُ حرية الديانة للجميع ولا يجوز أن تحصل أي منظمة دينية علي امتيازات من الدولة ولا أن تمارس سلطة سياسية، ولا يجوز إجبار أي شخص علي المشاركة في أعمال أو احتفالات أو شعائر وممارسات دينية، وتمتنع الدولة وأجهزتها عن التعليم الديني أو عن أي نشاط ديني آخر، وتُكفل حرية التجمع والانتماء إلي روابط فضلاً عن حرية الكلام والصحافة وجميع أشكال التعبير الأخري، ولا يجوز الحفاظ علي أي رقابة ولا يجوز انتهاك سرية أي وسيلة من وسائل الاتصال. أما المادة 35 فهي نقيض المادة 179 في الدستور المصري التي تبيح قانون الطوارئ: "لا يجوز المساس بحق جميع الأشخاص في أن يكونوا آمنين في ديارهم وأن تكون أوراقهم ومتعلقاتهم آمنة من المداهمات وعمليات التفتيش والحجز إلا بناء علي أمر قضائي صادر لوجود سبب كاف ويصف بالذات المكان الواجب تفتيشه والأشياء التي يجب ضبطها، وتجري كل عملية تفتيش أو ضبطية بناء علي أمر قضائي مستقل صادر عن موظف قضائي مختص. ومحظور تماماً ممارسة التعذيب من جانب أي موظف عمومي وكذلك العقوبات القاسية (36) ويتمتع المتهم في جميع القضايا الجنائية بالحق في الحصول علي محاكمة سريعة وعلنية أمام محكمة نزيهة، وتتاح له الفرصة الكاملة لتمحيص جميع الشهود ويكون له الحق في إحضار الشهود لصالحه إلزامياً علي النفقة العامة (37) ولا يجوز إجبار أي شخص علي أن يشهد ضد نفسه، ولا يسمح بالاعترافات التي يُحصلُ عليها بالإجبار أو التعذيب أو التهديد أو بعد فترة اعتقال أو احتجاز مطولة كدليل من أدلة الإثبات، ولا تجوز إدانة أي شخص أو معاقبته في القضايا التي يكون فيها اعترافه هو الدليل الوحيد ضده (38) ويجوز لأي شخص في حالة تبرئته بعد إلقاء القبض عليه أو احتجازه أن يقاضي الدولة للحصول علي حقه (40). وفي الفصل الرابع يكون البرلمان أعلي جهاز من أجهزة سلطة الدولة وهو الوحيد الذي تصدر عنه القوانين، ويتكون من مجلسي النواب والمستشارين.. ويجوز لرئيس الوزراء وغيره من الوزراء، في أي وقت، المثول في أي مجلس من مجلسي البرلمان للتحدّث عن مشاريع القوانين بصرف النظر عما إذا كانوا أعضاء في المجلس أم لا، ويجب أن يمثلوا عندما يكون مثولهم لازماً لتقديم أجوبة أو تفسيرات. وفي الفصل الخامس تُخوّل السلطة التنفيذية لمجلس الوزراء، والأهم (يجب أن يكون رئيس الوزراء وغيره من وزراء الدولة مدنيين) ويكون مجلس الوزراء مسئولاً مسئولية جماعية في ممارسة سلطته التنفيذية أمام البرلمان، ويتولي مجلس الوزراء إدارة القانون إدارة أمينة، وإدارة الشئون الخارجية، وإبرام المعاهدات لكن عليه قبل ذلك أن يحصل علي موافقة البرلمان أو لاحقاً تبعاً للظروف، وإدارة الخدمة المدنية طبقاً للمعايير التي يحددها القانون. أما الفصل السادس فيختص بالهيئة القضائية.. حيث تُخوّل السلطة القضائية الكاملة لمحكمة عليا ولمحاكم أدني يحددها قانون، ويكون جميع القضاة مستقلين في ممارسة ما تمليه عليهم ضمائرهم ولا يكونون ملتزمين إلا بهذا الدستور وبالقوانين، وتكون المحكمة العليا هي الملاذ الأخير حيث لديه سلطة البت في دستورية أي قانون أو أمر أو لائحة تنظيمية أو محرر رسمي، وتًجري المحاكمات علناً وتصدر الأحكام فيها علناً، وفي حالة ما إذا قررت محكمة بالإجماع أنّ النشر سيُعرِّض النظام العام أو الأخلاقيات للخطر يجوز إجراء محاكمة سرية، علي أن تجري علناً المحاكمات المتعلقة بالجرائم السياسية، والجرائم التي تشمل الصحافة أو الحالات التي يُخشي فيها انتهاك حقوق الناس. والآن إلي المادة (97) الأكثر جمالاً في صياغتها والتي تعبّر عن الطريقة التي تمت بها صياغة الدستور: حقوق الإنسان الأساسية التي يكفلها هذا الدستور لشعب اليابان هي ثمار كفاح الإنسان علي مر العصور في سبيل الحرية، وقد صمدت تلك الحقوق أمام اختبارات شاقة كثيرة وهي ملك للجيل الحالي وللأجيال المقبلة ولا يجوز انتهاكها في أي وقت من الأوقات.