المتتبع لمسيرة الأدب المصري في السنوات العشر الأخيرة سوف يلاحظ أن السمة الفارقة والمميزة لهذه المسيرة هي تعددية وتنوع الأشكال والأجناس الأدبية، حيث تتواجد جنبا إلي جنب أشكال مختلفة من الشعر وأنواع متعددة من الرواية وكذلك ألوان عديدة من القصة القصيرة. كل تلك الأشكال والأجناس تعمل معا وتتطور بخطوات متباينة لتصنع مشهدا لا يخلو من تركيب وزخم حقيقيين. يبدو لي أن تنوع وتعدد الأشكال الأدبية في الآونة الأخيرة هو ما شكل النهاية الطبيعية لمرحلة الأجيال الأدبية. لقد دأب المهتمون بالشأن الأدبي في مصر في الماضي علي وصف كل مجموعة من منتجي الأدب في فترة زمنية معينة بوصف محدد، ونتج عن ذلك ما عرف بنظرية المجايلة. لكل عشر سنوات جيل: جيل الستينيات وجيل السبعينيات وجيل الثمانينيات وجيل التسعينيات، علي أساس أن لكل جيل سمات جمالية معينة. في الحقيقة لم يرق هذا التقسيم للعديدين وأنا منهم لأسباب كثيرة، ولكن من الممكن الآن من وجهة نظري حل هذه المعضلة علي النحو التالي: أولا، يمكن فقط تمييز جيلين وهما جيل السبعينيات وجيل التسعينيات، علي أساس أن جيل السبعينيات يمثل نهاية مرحلة تميزت بشكل عام بالأحادية الجمالية. ويمثل جيل التسعينيات الخروج علي هذه الأحادية والبداية الأولي لما تم تكريسه في السنوات العشر الأخيرة من تعددية وتنوع في الأشكال والأجناس الأدبية. ثانيا، تتضح مسألة الأجيال هذه أكثر علي مستوي منتجي الشعر، حيث تمت الإطاحة بقصيدة التفعيلة وما صاحبها من تصورات لصالح قصيدة النثر، وأصبح واضحا للجميع استحاله تتبع مسألة الأجيال هذه علي مستوي الرواية والقصة القصيرة. ثالثا، انتقلت هذه الروح سريعا من مجال الشعر إلي مجال الرواية، حيث حدث ما تم الاصطلاح عليه بالانفجار الروائي، أما الشعر نفسه فقد انزوي جانبا في وقت لاحق لصالح إنتاجا وفيرا من الأعمال الروائية. وأخيرا، تغير موقع ذات الكاتب تجاه العالم، فذهب إلي غير رجعة ذلك النبي (المهزوم أو المنتصر) لصالح ذات تكتب عما تلمسه وتحسه، ذات لا هي مسئولة عن الذوق الرفيع ولا هي حارسة لكهنوت الأدب وحفظ أسراره، ولا هي أكثر وعيا بخصوصية حضارية فارقة من متلقي عليه دائما أن يلوم نفسه وينتظر فيض البرج العاجي. إذن ظهرت ذات جديدة تكتب عن خيباتها وضياعها وعدم فهمها وعدم تحققها، وهي في نفس الوقت ذات محبة لذاتها كما هي، محبة لكل ما هو إنساني. يبدو لي أن نظرية المرحلتين (السبعينات وما قبلها، والتسعينات وما بعدها) تتطابق أكثر من نظرية المجايلة مع التغيرات التي حدثت في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية المصرية. لقد تبدل نظام الحكم في مصر من نظام قومي إلي نظام جديد، ليست لديه مصلحة مباشرة في فرض أنماط ثقافية أو جمالية معينة، بل علي العكس له مصلحة في إضفاء جو من السماح الديمقراطي، وإطلاق الحريات الفردية، وفي نفس الوقت يمارس تدخلا كثيفا علي المستوي الاقتصادي (لضبط إيقاع تحرره)، وكذلك علي المستوي السياسي (الأمني بالذات) لإجهاض وتفتيت أية محاولات للتغيير. أدي التدخل علي المستويين الأخيرين إلي إحداث استقرار اقتصادي وسياسي وثبات مجتمعي . بالتأكيد إن هذا الاستقرار في ظل وجود الهامش الليبرالي لهو محفز في حد ذاته علي التعدديه الجماليه . بالطبع لم يكن النظام القومي الناصري يفرض توجهات جمالية مباشرة، ولكنه دفع المجتمع إلي الدخول في تحديات كبري مثل بناء ما اسماه اشتراكية والصراع العربي الإسرائيلي أدت إلي توحيد الذائقة. توحيد الذائقة الجمالية والنفسية وطمث الفروق الفردية كان بكل تأكيد هو المظلة التي حمت الأفكار المحافظة التي ما زلنا نعاني منها حتي الآن. أما بخصوص النظام الجديد فلم يعد أفراد المجتمع متشابهين، فالأيدلوجيات الكبيرة لأسباب كثيره أصبحت في حاجة إلي مراجعة ولم تعد قادرة علي لم أي شمل . صحيح أن جزيئيات أيدلوجية صغيرة تتمخض أحيانا عن مطالب مثل استقلال القضاء ومناهضة التعذيب ومقاومة التوريث، مطالب مثل هذه ما تزال قادرة علي عمل حراك ما، لكن هذه المواقف هي في النهاية ذات طابع نخبوي لا يخلو من عبثية ما. وحتي لو نجحت تلك المطالب فهي ليست من نوعيه التحديات الكبري القديمة ولا يمكنها علي أية حال أن ترقي إلي درجة التوحيد القياسي للذائقة الجمالية. ملامح التعددية والتنوع يبدو أن نصيب المجال الشعري في هذا المقام كان أقل من نصيب الرواية، ولكن ملامح التعددية والتنوع واضحة هنا أيضا. فقد عادت مثلا بعض الأصوات التي تدعو إلي الشعر العمودي، وهناك بقايا قصيدة التفعيلة، ولكن بشكل عام يسود المشهد بالتأكيد قصيدة النثر. علي أن شعر العامية، وبالذات قصيدة نثر العامية، كاد أن يختفي من المشهد. لكن اللافت للانتباه أن قصيدة النثر قد قطعت شوطا لا بأس به، وخصوصا علي يد ياسر عبد اللطيف وأحمد يماني وكذلك محمد خير. ولكن هناك تجربة فريدة كادت أن تشكل فتحا جديدا لقصيدة النثر، ألا وهي (بالأمس فقدت زرا) لتامر فتحي. جدير بالذكر أن قلة التعددية والتنوع علي هذا المستوي هي ما أدت إلي احتدام الصراع بين المنتجين في هذا المجال، فظهر المتحلقون حول مؤتمر قصيدة نثر رسمي ومتحلقون حول مؤتمر قصيده نثر موازي بدون فروق جمالية تذكر، حتي أن بعض الناس قد انتقل من هنا إلي هناك بسهولة تامة. أما علي مستوي الرواية فأصبح مستحيلا أن تلاحظ مثل تلك الاحتدامات حيث كان نصيب هذا المجال من التعددية والتنوع وافرا، فلا مجال لمقارنة رواية خيال علمي مثل (يوتوبيا) لأحمد خالد توفيق برواية سيرة ذاتية علي سبيل المثال. وإن كان ممكنا عمل تلك المقارنات داخل كل لون علي حده. وكما قلت سابقا، إن ملامح التعددية والتنوع في مجال الرواية كانت أكثر وضوحا، فبالإضافة إلي النص الروائي التقليدي ظهرت أنواع جديدة مثل الخيال العلمي والفانتازيا. بخصوص النصوص الروائيه التقليديه سوف نلاحظ ظهور أبنية روائيه غير تقليدية ، مثل (كلبي الهرم كلبي الحبيب) لأسامة الدناصوري و(الفاعل) لحمدي أبو جليل.حيث يقوم البناء هنا علي تقنية الرقعة التي تتكون من الكثير من المربعات الصغيرة ويتم إنارة تلك المربعات بنظام معين ليُخلق في النهاية عالم بديع. وهناك المتتاليات السردية مثل (قهوة علي مالك) لمجاهد الطيب، الذي يبدو أنه قد لجأ إلي هذا الشكل الروائي للتحرر النسبي من البناء الصارم للرواية التقليدية. ظهر نوع روائي جديد قائم علي السيرة الذاتية مثل (سندروم) لإبراهيم البجلاتي و(ألم خفيف) لعلاء خالد، وأعتقد أن هذا اللون الروائي يختلف عن السيرة الذاتية. فالراوي هنا لا يقوم بالبحث عن خيط رهيف "يلضم" شظايا حياته ليري سيرته بانتظام ما كما في السيرة الذاتية، ولكنه هنا يري نفسه نقطة في مسيره عائلة ممتدة أورثته أساطيرها بكل السبل وكأنها قدر لن يجدي الفكاك منه بقدر ما يجب تفهمه والتصالح معه في نهاية المطاف . يمكن النظر لهذا اللون كأنه إعادة تدقيق في مسألة تعريف الذات، وهو يلتقي هنا مع السيرة الذاتية ولكن من منظور أوسع. أخيراً و بعيدا عن روايه السيرة الذاتية ، هناك أمر جديد كل الجدة، إذ ظهرت روايتان كان بطلاهما متوافقين مع هوية جنسية خاصة مثل (بلد الولاد) لمصطفي فتحي و(بعد أن يخرج الأمير للصيد) لمحمد عبد النبي، علي أن هذا العمل الأخير كان أقل مباشرةً وأكثر جمالا. نعود إلي الموضوع الأساسي في هذا المقال، وهو مسألة الفنتازيا الناقصة. في الحقيقة، لا أقصد بكلمه ناقصة الحط من قيمة هذا اللون الجديد، إنما اقصد أنه حتي هذه اللحظه لم يظهر ما يمكن اعتباره نصا فنتازيا كاملا .حينها سوف يمكن رصد ما قد يكون خصوصية لنا قد تميزنا عما يسمي بالواقعية السحرية، والتي أراها وثيقة الالتصاق بتجربة أمريكا اللاتينية. وبما أن الفنتازيا هي النوع الأكثر شمولا فلا بأس من استخدامه مرحليا حتي تتضح الصورة أكثر مع ازدياد الاعمال في المستقبل. يمكن رصد البواكير الأولي لهذا اللون في (أن تري الآن) لمنتصر القفاش، وإن كان العنصر اللامنطقي - تكاثر الصور الفوتوجرافيه ذاتياً - قد ظهر علي استحياء وتماس مع الهلاوس المرضيه، وكذلك في روايه إبراهيم عيسي (أشباح وطنية) التي احتوت توظيفاً أخلاقياً مفرطاً للعنصر الفنتازي . كذلك في (أوان القطاف) لمحمود الورداني جاء واحد من المسارات الخمسة في الشكل الفنتازي أقصد المعمل الذي يتم ارسال الروؤس له دورياً لإعادة ضبطها ومن ثم اعادتها لاصحابها . في (سرير الرجل الايطالي) لمحمد صلاح العزب يمكن ملاحظه العنصر الفنتازي كعنصر فاعل و مؤثر، ولكنه تداخل مع الكثير من التهيؤات والأوهام، أما في عمله الأخير (سيدي براني) فالحيوات و الميتات الكثيره السابقه للجد هي عنصر فنتازي وأن قدمت منفصله تماماً عن بقيه النص وكأنها نصاً موازياً . القصة القصيرة كان لها نصيب من الفنتازيا هي الأخري . فالقصه التي تحمل عنوان (جماعه الأدب الناقص) لهيثم الورداني تنتمي لهذا النوع وكذلك القصتين اللتين لهما هذين الاسمين (مزرعه البنات) و (مع كنجارو) في مجموعه ايهاب عبد الحميد الأخيره (قميص هاواي). سوف اتوقف مع عمليين روائيين كادا أن يكونا فنتازيا كامله حقا. العمل الأول هو رواية (الغضب الضائع) لمازن العقاد ، والتي قد يكون ما احتوته من صفحات طويله مما يسمي بالنقد الاجتماعي، علاوة علي تعدد حلقات تطور العمل، هو ما جعل الملمح الفنتازي غير كامل. واخيرا، النص الجميل (كوكب عنبر) لمحمد ربيع ، فمن المؤكد أن المؤلف كان يقصد تماما الكتابة تحت هذا النوع حيث يتم تقديم العنصر الفنتازي كعنصر غرائبي من أول لحظه ويدور النص ككل في فلك هذا العنصر . لدي تحفظ وحيد علي استخدام صوتين مختلفين _ شاهر وسيد _ في تقديم العالم الروائي لان ذلك قد احدث كثيرا من الارتباك واعتقد ان راوي واحد انسب كثير بالذات لعمل فنتازي. باستثناء هذا التحفظ ، يعتبر كوكب عنبر بشكل عام عملا محكما، وهنا لم يعد العمل الروائي انعكاسا للواقع، بل تم حقن هذا الواقع بعنصر لا منطقي يتعايش مع العناصر الواقعية كمحاوله لتسليط الضوء علي تلك العناصر و حيث يحدث التناقض فيما بينهما ينشأ عالم روائي خلاب. عبد الحكم سليمان