1 الدخانُ اللعينُ يسبحُ في رأسِيَ ما شَاءَ، وصوتُ فيروزَ "أنا لحبيبي"، بينمَا نائمٌ أنَا علي شرشفٍ أخضرَ، بلونِ الحقولِ التي ركضتُ فيهَا طفلاً، أطاردُ فراشاتٍ حقيقيةً. منثورةٌ زهورٌ بيضاءُ عليه؛ مشغولةٌ بإتقانٍ. أنا الذي تمزِّقُنِي متغيراتٌ، وذكرياتٌ، وأحاسيسُ.. كُتِبَ لي أنْ أُقَضِّيَ عمريَ كلَّهُ أطارِدُ فراشةً تنأَي! 2 الغرفةُ المظلمةُ ملأي بتفاصيلَ أُنثويَّةٍ: مرايَا متعددةُ الأحجامِ والأشكالِ. علبُ ماكياجٍ، وقواريرُ عطرٍ. فساتينُ قصيرةٌ بأكتافٍ عاريةٍ. أحذيةٌ خفيفةٌ ورياضيَّةٌ وذواتِ رقابٍ. أباجوراتٌ راقصةٌ. دُمًي. بيجاماتٌ بورودٍ ورسومِ أطفالْ. .. .. .. الغرفةُ المظلمةُ ملأي بتفاصيلَ أُنثويَّةٍ تلكَ المغلقةُ علي رجلٍ وحيدٍ.. مُحبطٍ! 3 تقولُ الفواجعُ ما لم يقلْهُ الإِسفلتُ اليوميُّ: إن النهارَ عادَ طويلاً كما كانَ، وإن بالليلِ الجديدِ مُتَّسعًا للنُّعاسِ، وإنني لابدَ أن أحتاطَ مما يفعلُهُ بي دخان التفَّاحِ، وخببُ المتدارَكِ، وأن أعودَ تدريجيًّا إلي شرابِ الأعشابِ المغليَّةْ.
تقولُ الفواجِعُ إنني خفيفٌ لأنني تخلَّصتُ من منغِّصَاتٍ كدَّرتني، فقرأْتُ "العمي" لجوزيه ساراماجو (الذي ماتَ وتركنِي حيًّا)! وإنَّني ثقيلٌ، لأنني أقفُ الآنَ حيثُ لا تقفينَ أقرأ "الوصمةُ البشريَّةُ" لفيليب روثْ فأرتدُّ إلي فواجعِي.. سالمًا. 4 خمسونَ سنةً لا تكفِي لأتأمَّلَ. لأعرفَ سِرَّ انتِثارِ أشياءِ اللهِ علي هذا النحوِ. لأسألَ: هل كانَ ينبغِي أن أكونَ هنا؟ هلِ انطبعَتْ قدمِي علي أيِّ دربٍ سلكتُهُ؟ لماذَا ضَحِكْتُ حينَمَا كان ينبغِي أن أبكيَ؟ ولماذَا خذلتنِي الدمُوعُ التِي تفضَحُ الأبجديَّةَ؟ هل اكتشفْتُ أن خمسينَ سنةً لا تكفي لطرحِ مجرَّدِ سؤالٍ؟ لمداواةِ لحظةِ العدمِ التي تمتدُّ، تحتلُّ أشياءَ اللهِ جميعَهَا؟! خمسونَ سنةً لا تكفي، رُبَّمَا، لأضعَ كفِّي في كفِّ امرأةٍ، امرأةٍ واحدةٍ، تريدُ أن تتركَ كفَّها في كفِّي! 5 كمْ ساعةً غافلتُ الضوءَ وفرحْتُ في هذا العمرِ المنذورِ للحزنِ الكثيف؟ كمْ لحظةً؟! .. .. .. مازلْتُ جالسًا علي مقعدٍ خيزرانيٍّ بمقهَي أراقبُ عمالاً في ملابِسِ لاعبِي الكرةِ وأطفالاً علي دراجاتٍ ورجالاً يهمسونَ في هواتِفَ نقَّالةٍ ويمتصُّون الدُّخانِ وسياراتٍ تجوبُ الطرقاتِ، أو تنتظرُ بكسلٍ جوارَ الرصيفِ وفتاةً تعبثُ في كفِّ فتيً يسندُ رأسَهُ الحليقَ علي رأسِهَا الملفوفِ بطرحةٍ حمراءَ. بينما أنتظر، بلهفةٍ، فتاةً: لا تداري شعرَهَا بأقمشة ملونةٍ، ولا تفرحُ حينما تراني! 6 الزهورُ التي رصَّهَا "فان جوخ" علي هيئةِ هرمٍ مقلوبٍ، فوقَهُ حراسٌ مدججونَ بحنوِّ العُطرِ يطغَي الأصفرُ الداكنُ عليه بدرجاتٍ متفاوتةٍ، بينما الأحمرُ الزاعقُ خجولاً يتوارَي في الأسفلِ فارضًا إيقاعَهُ علي الخلفيَّةِ السوداءْ.
الزهورُ التي رصَّهَا "جوخ" في مزهريَّةٍ، كأنَّمَا تفردُ شراعَهَا علي ليلٍ ساكنٍ. كأنَّمَا تنشرُ عبيرًا يتجاوزُ الزمانَ والمكانَ، يهفُو إلي كفِّ حبيبتِي تلكَ.. التي قالتْ لي توًّا إنَّ لديهَا أسرارَهَا!