هناك موضوع رئيسي (تيمة)يتكرر في الأدب ويظهر بوضوح في الأوبرا الرومانتيكية ويتعلق بموت شخص علي درجة عالية من الجمال أو النقاء أو المعرفة، كان آسرا للآخرين بحبه، ومع الحب هناك الموت، إنه الموت الذي قد يحل سريعا ومحبطا لما كان سيصبح علاقة مكتملة (كما في لاترافياتا والبوهيمية ونوسكا والترافاتور ولويزا ميلر ومانون.) يأتي الموت أحيانا كراحة مبتغاة، فيبدو وكأنه الحل الوحيد لموقف ميئوس منه أو لعلاقة تآمرت الظروف ضدها. قد يموت الحبيبان معا، قد يموت أحدهما ويبقي الآخر حيا وميتا في الحياة، ويتم إعلاء أو إزكاء الإحساس بالمأساة غالبا من خلال تلك الحقيقة القائلة إن الشخص الذي يموت لم يكن موته ضروريا، أو لم يكن ينبغي أن يموت، حيث يموت هؤلاء الأشخاص بسبب سلطات متحجرة القلوب، أو بسبب قوانين أخلاقية صارمة، أو أنه قد أسيء الحكم علي سلوكهم، أو من خلال إحساس هائل بالذنب والحسرة والندم والفشل. وإذا سلمنا بأن واحدا من أهداف الدراما إنما يتمثل في محاولتها أن تحدث تأثيرا انفعاليا قويا لدي المشاهدين، فإن الموت هو الحادث المثالي الذي ينبغي تصويره أو تقديمه فيها. ليس هناك موضوع يمكن أن يكون مثيرا للاضطراب والقلق أكثر من الموت ذاته، موت شخص كان موضوعا لإعجابنا وحبنا، هكذا يكون الفن والأدب بمثابة إعادة وتكرار بروفة جنرال سابقة أو نوع من التصوير والتسجيل اللاحق عبر الذاكرة لخبرة الموت. هكذا يقدم لنا الأدب خبرة الموت، خبرة بديلة، خبرة من الدرجة الثانية لأنها خبرة متخيلة، خبرة فنية، ليست الخبرة الحقيقية الخاصة بالموت، لكنها خبرة تجسد الموت، تتذكره وترصده وتتوقعه، خبرة تساعدنا في استكشاف استجاباتنا ومشاعرنا وواقعنا في مواجهة هذا الموضوع، نوع من الرحلة الخاطفة التي نعد من خلالها أنفسنا للنهاية المحتومة الفعلية والواقعية كذلك.(1) إن الموت الخيالي يذكرنا بفنائنا وفناء الآخرين فنحن نري في الأدب أشخاصا يندمون علي ما أحدثوه من موت للآخرين، أو يأسفون لأنهم لم يعاملوهم بشكل طيب عندما أتيحت لهم الفرصة لأن يفعلوا ذلك. هناك فيما يرتبط بالموت أيضا تلك الفكرة المهيمنة المسيطرة المستحوزة التي تقول إن هذا الأمر يكون أفضل عندما يتوقف، هكذا يكون الموت هو النتيجة المترتبة علي إحباط عملية اكتمال الحب أو تحقيق الذات أو اكتمال الإبداع، الإخفاق علي المستويين الفردي والجماعي. 1- حضور الموت وغياب الحياة حضور كثيف للموت، للقتل، للانتحار، للهدم في رواية "الجبانات" للكاتب رشيد غمري، والرواية تبدأ بانتحار الراوي، الكاتب الفنان ثم انفتاح لبوابات الذاكرة في شكل دائري يسرد تاريخه الفردي والجمعي، علي ماضيه وحاضره، علي واقعه الذي يزخر بالموت حد الاختناق. هكذا يقول الراوي ص8: (قرأت خلال هذا الأسبوع عن خمس حالات انتحار: أربعة شباب حول العشرين كالمعتاد، ورجل في العقد الخامس أشعل النار في الحجرة التي يسكن بها. احترق هو وطفلاه..) هو مولع بالرسم والنحت والموسيقي وعشق النساء، مولع بالرحلات والثقافة والمعرفة، لكنه لا يشعر أبدا بالارتواء هو دائما مثل تانتالوس في الميثولوجيا الإغريقية الذي هو في عطش دائم، وقد حكمت عليه الآلهة بسبب جرم ارتكبه أن يقف في وسط الماء، ثم يرتفع الماء إلي شفتيه ثم إذا حاول أن يشرب غيض الماء وهبط، وهو دائما في ممر جريدة (الحقيقة المطلقة) أو بالأحري في متاهاتها حيث (سيناريوهات عديدة للانتحار تومض أمام عيني منذ شهور وفي أي مكان) ص 10 في الرواية حديث متكرر عن الموتي والجبانات ( الجبانات البلدة، والجبانات المقابر الفعلية) وعن طقوس الدفن ومعتقدات الدفن، عن الماضي المدفون تحت أرض الحاضر، عن التاريخ والكنوز المدفونة في أرض الجبانات وتحت أرضيات بيوتها، عن صور وأسرار وأشخاص ماتوا وما يزالون أحياء، موت الحاجة عايشة بائعة الحلوي، والجماجم والعظام وجنازة الأم التي (لا أتذكر منها سوي رائحة ماء الورد التي سكبتهها جدتي علي العتبة في وداعها) ص 13 والأم الميتة التي تزور ابنها متشحة بالأبيض والأسود، بالرداء نفسه دلاله علي الماضي الذي يزور الحاضر ويسكنه، ينتابه ويروده ويقلقه، ثم انقطاع صور الأم وحضورها، ومحاولته استحضار تلك الحالة برهبة وتأنيب ضمير ص13 2- الحضور الجارف للأب مع غياب الأم بموتها، ومع اختفائها من أحلامه وذاكرته، بل وحتي أثناء حياتها هناك ذلك الحضور الجارف للأب، هذا الأب الذي لا يذكره الراوي إلا نادرا دون أن يسبق اسمه بالأستاذ عبد الحميد والحديث عنه دائما بصورة الغائب وضميره.. (لم أكن أرتاح لوجوده كثيرا. مناقشاته في الفن لم تكن تعجبني. كنت أشعر باحتباس مشاعري وأفكاري. وفي غيابه كنت أشعر بعينيه تراقبان ما أرسم. جعلني هذا أتحرج من رسم ما يخطر ببالي) ص16 هناك حاجز ومسافة بين الابن والأب، هناك كراهية من الابن تجاه الأب ورغبة رمزية أو فعلية في قتل الأب، رغبة في إزاحته لأنه دائما في حالة حضور، حضور كرقيب أو سلطة أو عقاب مسلط دائما علي عقل الراوي وأفكاره ووجدانه، وكأنه عقدة أوديب تظهر وتتجلي واضحة في عبارات وأفعال كثيرة تدل علي الرغبة في إزاحة الأب أو حتي قتله، وفي الاستحضار الدائم للأم، أو الولع حد زنا المحارم ببديلتها زوجة الأب راجية. الانتماء السياسي للأستاذ عبد الحميد يبدو مسئولا عن هذا الاتجاه فهو.. (رجل الأصول والتقاليد الذي أحب امي وتزوجها ولما رحلت تزوج نقيضتها)... (رجل الاتحاد الاشتراكي وحزب مصر والحزب الوطني وكل الأحزاب الحاكمة.. أظنه النشاز الوحيد في هذه السلسلة. أظنني أنتمي إلي أسلافي أكثر مما أنتمي إليه.) 3- الانتماء للماضي كما قلنا سابقاً فإن للماضي حضوره الجارف في الرواية: يظهر الماضي في الصور المعلقة علي الحوائط، يظهر في سير الموتي وحكاياتهم. يظهر في الأوراق التي تكتبها الأسرة وتحرف فيها وتبدل، تظهر فيما تحمله المقابر والأضرحة من أسرار. يظهر في شبح العم ياسر الذي عاد ليتراءي أمام عينيه من جديد ص21، يظهر كذلك في الأوراق القديمة التي توارثتها الأسرة وحكيت عنها الأساطير. قوة الماضي (يعتقد أهل الجبانات أن الذهب ما زال مخفيا تحت الزقاق ودكان الحاجة عايشة، ويعتقدون أن الرجل الكبير ص موجود ومختبئ، ويعتقدون أن سالم عائد إلي أملاكه ليعيد بناء الصوامع ويعيد أرض الرجل وحكمه علي الجبانات أرض الأجداد، يعتقدون ذلك رغم مرور كل تلك السنوات). 4- الروح الشبحية هنا اعتقاد بأن حل مشكلات الحياة إنما يكمن في يد الموتي، وأن مصائب الحاضر لن تحلها إلا أشباح تأتي من الماضي، هنا اعتقاد جازم بقوة الماضي وهيمنته علي الحاضر، هنا يقين بأن مفتاح اليوم يكمن في يد الأمس، وأن الحاضر لا يملك حرية لنفسه إلا بالماضي وشخوصه وأبطاله. هناك اختلاط في الرواية بين الحياة والموت، الفن والحياة والموت، الروح والجسد، البناء والهدم، تكوين التماثيل وتدميرها، وهناك قلق دائم لا يستقر له قرار وكأن هدف الحياة هنا هو الموت كما كان فرويد يقول، أو كما يقول الراوي كذلك ص 80: (ماذا وراء تلك الرجفة وذلك الجسد؟ قلت لها: أحيانا أراها كفخ. نستحلب الموت كي نحيا، وكلما حيينا أكثر كلما اقتربنا من النهاية. أية جمجمة تلك التي أبدعت القوانين علي هذا النحو؟) الراوي هنا متقلب ما بين حالتي البهجة أو الهوس والاكتئاب ومن ثم فهو أقرب إلي الحالة التي تسمي ذهان في الطب النفسي Manic _ Depressive Psychosis أي أصحاب المزاج الدوري الذين يتقلبون بين الهوس أو البهجة العارمة ثم الاكتئاب والانقباض حد الموت والانتحار دون أسباب ظاهرة لنا ودون تحكم أو إرادة منه علي هذه التحولات ودون أن يصل إلي مرحلة الذهان. 5- انتحار المثقفين والفنانين وقانون التكرار من الظواهر البارزة في الرواية ليس رصد الموت بشكل عام، الجبانات والمقابر والمعتقدات المتوارثة حول الموتي والموت والأضرحة، والجبانات والمقابر والعظام والجماجم وغيرها، بل أيضا ذلك الرصد للحضور الجارف للموت المتوارث عبر الأجيال والأجداد، الموت في الحاضر، هذا الانتحار المتكرر المتواتر للفنانين والمثقفين والمبدعين والبارزين. موت النحات جميل الزهيري (حامد الشيخ) الذي ألقي بأحسن أعماله الإبداعية في النيل ثم انتحر. انتحار رضوي شريف (أروي صالح)، انتحار عبدالحميد شتا.. انتحار خريجين كثيرين من الشباب. انتحار أصدقائه من المثقفين والمبدعين أو مطاردتهم وسحبهم واختفائهم، كل تلك المحاولات لخراب الروح، خراب الروح التي تتلاشي بتلاشي الأشكال ص156 (لقد تلوث الجميع. إنها أكبر عملية تخريب لروح شعب في التاريخ) ص149 هنا تكرار للموت، للانتحار، للاختفاء، للسجن، للمطاردة، لتخريب الروح، لقتل الروح، هنا تتجاوز الأمور المأساة والحالات الفردية لتصبح حالة اجتماعية، هنا لا يكون الموت موت الأفراد، بل موت الجماعات، موت الروح، موت المعرفة، موت الفن، موت العقل، موت الإبداع، هنا التكرار هو القانون، القانون الذي يتجاوز الأفراد ويعلو عليهم، هنا تكرار الموت الذي يبدو وكأنه يعلو علي الحياة، وكأنه ينفي الحياة، هنا مقبرة جماعية، هنا الهدم الدائم، وليست الجبانات قرية صغيرة محددة، ليست عددا من المقابر الموجودة علي أطراف القري، هنا الجبانات هي الوطن والموتي هم أفضل ما في الوطن، روح الوطن، وعقل الوطن، هنا كما يقول الراوي ص172: (لم أعد مقتنعا بفكرة أن أساعد نفسي، فأنا غير قادر علي فعل شيء، أنا أتألم فعلا، كما أن الجميع عجزوا عن تقديم شيء لي، سئمت اللعبة كلها، أنا مريض مستعصي الشفاء، أمرضني هذا البلد، حكامه ومحكوموه، الغرباء والأقرباء، العفن تفشي في كل شيء. لست وحدي. هناك العشرات انتحروا، المئات في الطريق، والملايين ماتت أرواحهم. إنهم جثث تمشي علي الأرض، جثث تعفنت أرواحها فباتت تقتات علي بعضها وتمارس حقدا أسود علي الحياة. لماذا يخلقنا الله لتقتات علينا تلك الوحوش الجشعة؟ لماذا يخلق الله هؤلاء الأغبياء الفاسدين ويتركنا لقمة سائغة في أفواههم؟).. إلخ الأفكار العدمية حول الموت والحياة. هناك روح شبحية حاضرة في الرواية، روح التذكر والموتي والمخطوطات والمقابر والماضي والموتي. عندما يسقط في النهاية ويرتطم جسده بالأرض ويصاب ويروح في غيبوبة يشبح مثل الشبح، حاضر وغائب، في حالة تقع ما بين الحياة والموت، تنتابه الأحلام والكوابيس، تحضر المسوخ في أحلامه وكوابيسه، ويهيمن الفزع والرعب علي روحه ولا يبقي سوي الموت. 6- تعدد مستويات السرد يظهر في الحكايات داخل الحكايات، وتعدد مستويات السرد ما بين نص بارز ونص غائر، نص بارز يعبر عن الحاضر ونص غائر يغبر عن الماضي، وكأن الكاتب هنا يستخدم تقنيات النحت البارز والنحت الغائر، تعدد مستويات للسرد ونوع من الخط (البنط) الذي كتب النص من خلاله حيث يكون البارز الأقرب إلي أعيننا والغائر أبعد نسبيا، ولكن هناك علاقة وتفاعل باستمرارية بين هذين المستويين للنحت مثلما هناك علاقة واستمرارية بين هذين المستويين للسرد. الغائر غالبا يتعلق هنا بالماضي والبارز يحمل الحاضر ولكن في سياق الماضي، فالحاضر هنا مسكون بروح شبحية، روح تجيء من الماضي وتسكن التاريخ، التاريخ الخاص بالأسرة أو الخاص بالأب والأم والأصدقاء، التاريخ الحاضر وتشير -مثل شبح هاملت- إلي وجود خراب في أرض الدانمرك، لكن الخراب هنا في أرض مصر، هنا الواقع ليس كما ينبغي أن يكون، هنا الزمن قد اختل كما يقول هاملت وكل شيء ليس كما ينبغي أن يكون كما يقول هيجل. وهنا إذن نقش بارز، نحت غائر ونحت بارز بمثابة واجهة أمامية للوحة وخلفية لها ولا انفصال بينهما كما في الفن الحديث. ملاحظات حول معمار الرواية : 1- فيما يتعلق بذلك الجزء الخاص بالمسرحية الموجودة داخل الرواية فإنه لم يضف كثيراً لها، ولم يوظف كما ينبغي (من ص45 _ 56) 2- و الأمر صحيح أيضاً فيما يتعلق بذلك الجزء الخاص بالموالد والشيوخ والذكر والمتصوفة وما بعدها من مناقشات فلسفية، هو أشبه بإضافات مجردة حول الموت والحياة، والموت والوطن، و هي لم تضف كثيرا إلي هذه الرواية. و علي الرغم من هاتين الملاحظتين تبقي هذه الرواية رواية متميزة ومهمة. (1)سيكولوجية فنون الآداء. تأليف جين ويلسون. ترجمة شاكر عبد الحميد. عالم المعرفة بالكويت 2000 77