(يأتي الموت أحيانا كراحة مبتغاة؛ فيبدو كأنه الحل الوحيد لموقف ميئوس منه، أو لعلاقة تآمرت الظروف ضدها، بل قد يموت الحبيبان معا، وقد يموت أحدهما ويبقي الآخر حيا وميتا في الحياة؛ ليتم إزكاء الإحساس بالمأساة من خلال تلك الحقيقة القائلة بأن الشخص الذي يموت لم يكن موته ضروريا، أو لم يكن ينبغي أن يموت).. في فلك هذا المعني الجلي دارت أحداث رواية رشيد العمري "الجبانات"، الصادرة مؤخرًا عن دار كيان للنشر والتوزيع، بالقاهرة. ويتابع العمري مفسرًا ذاك الإحساس بأنه: "قد يموت هؤلاء الأشخاص بسبب سلطات متحجرة القلوب، أو بسبب قوانين أخلاقية صارمة، أو من خلال إحساس هائل بالذنب والحسرة والندم والفشل، أو أنه قد أسيء الحكم علي سلوكهم". لتظهر تلك التيمة الأساسية، التي تتكرر دومًا في الأدب، بأن واحدا من أهداف الدراما يتمثل في محاولتها أن تحدث تأثيرا انفعاليا قويا لدي المشاهدين، فليس هناك موضوع يمكن أن يكون مثيرا للاضطراب والقلق أكثر من الموت ذاته.. وهكذا يكون الفن والأدب بمثابة إعادة وتكرار بروفة سابقة أو نوع من التصوير والتسجيل اللاحق عبر الذاكرة لخبرة الموت؛ ليقدم الأدب خبرة الموت الفنية التي تساعد علي استكشاف استجابات واقع المتلقي في مواجهة (الموت)، ليبرز خلال التتابع السردي نوع من الرحلة الخاطفة التي يعِد من خلالها المتلقي نفسه للنهاية الواقعية. لتحكم "الجبانات" حلقة التواصل بين الموت وفكرة التوقف والسكون، ليصبح الموت النتيجة المترتبة علي إحباط عملية اكتمال الحب أو تحقيق الذات أو اكتمال الإبداع، أو حتي الإخفاق علي المستويين؛ سواء الفردي منهما أو الجماعي. فتتناول الرواية هوس الحب والموت؛ إذ تدور أحداثها في عالم الفن التشكيلي، من خلال بطل الرواية المهووس بالجسد الأنثوي، والمعقد تجاه علاقته بالمرأة، وتدور الأحداث في عدة أزمنة يتنقل عبرها العمري بدءاً من الربع الأخير للقرن التاسع عشر، وحتي السنوات العشر الأخيرة؛ متناولًا الواقع السياسي والاجتماعي، إضافة إلي ظواهر الانتحار بأبعادها النفسية والاجتماعية. وتدور مشاهد الرواية - والتي تقع في ستين فصلًا - داخل أتيليه للنحت، وفي أروقة المسرح والصحافة ومقاهي وسط البلد، وتعد أولي تجارب الغمري النثرية بعد ديوان شعر ومعرض تشكيلي "حفريات الجسد". وتأتي صفحات الرواية متضمنة عبر خبايا سطورها حضورًا مكثفًا للموت، والقتل، بل والانتحار، إذ تبدأ بانتحار الراوي، ليتبعه انفتاح بوابات الذاكرة لتسرد تاريخه الفردي والجمعي.. حيث يقول الراوي: "قرأت عن خمس حالات انتحار: أربعة شباب حول العشرين كالمعتاد، ورجل في العقد الخامس أشعل النار في الحجرة التي يسكن بها فاحترق هو وطفلاه.. لتتراءي السمة الغالبة علي العمري، ليتبدي الوجه الآخر له؛ المولع بالرسم والنحت والموسيقي بل وعشق النساء، والمولع بالرحلات والثقافة والمعرفة، إلا أنه لا يشعر - حتي ولو لحظة - بالارتواء؛ لتراه دائما مثل تانتالوس الذي حكمت عليه الآلهة بسبب جرم ارتكبه أن يقف في وسط الماء، ثم يرتفع الماء إلي شفتيه ثم إذا حاول أن يشرب غيض الماء وهبط، ليظل دائمًا في عطش دائم.. فهو دائما في متاهات الحقيقة المطلقة. إلا أن المتتبع للحدث السردي في الرواية، يتضح له جليا تكرار الحديث عن الموتي والجبانات؛ فيري "الجبانات البلدة"، و"الجبانات المقابر الفعلية"، أو "طقوس الدفن ومعتقداته"، وكذا "الماضي المدفون تحت أرض الحاضر"، أو "التاريخ والكنوز المدفونة في أرض الجبانات وتحت أرضيات بيوتها"، والجماجم والعظام وجنازة الأم، التي يقول عنه الراوي: "لا أتذكر منها سوي رائحة ماء الورد التي سكبتها جدتي علي العتبة في وداعها"، إضافة إلي الأم المتوفاة التي تزو ابنها متشحة بالأبيض والأسود. أما عن الحضور الجارف للأب مع غياب الأم بموتها، فيكاد يكون غامضًا؛ إذ يتبدي ذاك الأب - الذي لا يذكره الراوي إلا نادرا دون أن يسبق اسمه بالأستاذ عبد الحميد - في الرواية بصورة الغائب وضميره؛ وفي ذاك الصدد يقول الراوي: "لم أكن أرتاح لوجوده كثيرا.. مناقشاته في الفن لم تكن تعجبني.. أشعر باحتباس مشاعري وأفكاري في غيابه.. كنت أشعر بعينيه تراقبان ما أرسم مما جعلني هذا أتحرج من رسم ما يخطر ببالي".. ليظهر الحاجز أو بعد المسافة بين الابن والأب؛ الأمر الذي تتبعه عدة تساؤلات: هل هي كراهية من الابن تجاه الأب، أم رغبة رمزية أو فعلية في قتل الأب، أم أنها رغبة في إزاحته لأنه دائما في حالة حضور؟! وفي المقابل يتجلي الاستحضار الدائم للأم، أو الولع ببديلتها (زوجة الأب) "راجية". ولا يغفل رشيد العمري خلال تتبعه للحدث، أن يلفت إلي الانتماء السياسي للأستاذ عبد الحميد، والذي يبدو مسئولا عن هذا الاتجاه؛ فيقول: "هو رجل الأصول والتقاليد، الذي أحب أمي وتزوجها ولما رحلت تزوج نقيضتها".. وفي سياق آخر يلمح إلي أنه: "رجل الاتحاد الاشتراكي، وحزب مصر، والحزب الوطني، وكل الأحزاب الحاكمة.. أظنه النشاز الوحيد في هذه السلسلة.. أظنني أنتمي إلي أسلافي أكثر مما أنتمي إليه". أما عن الماضي في "الجبانات"، فإن حضوره يتبدي جارفًا؛ إذ يبدو جليا في الصور المعلقة علي الحوائط، وفي سير الموتي وحكاياتهم، وفي الأوراق التي تكتبها الأسرة وتحرف فيها وتبدل، بل وفي الشخصيات؛ فيظهر في شبح العم (ياسر) الذي عاد ليتراءي أمام عينيه من جديد، كما يظهر كذلك في الأوراق القديمة التي توارثتها الأسرة وحكيت عنها الأساطير. فخلال التآلف الحدثي للرواية، تتضح قوة الماضي؛ حيث يعتقد أهل الجبانات أن الذهب لا يزال مخفيا تحت الزقاق ودكان الحاجة (عايشة). أما مسرحية "المحورجي"، والتي وردت خلال الرواية، فتعد تنويعة بين المأزق والتساؤلات الوجودية الأساسية المطروحة ضمن الرواية، ورغم ذاك فإن الأحداث يكتنفها الفكر الصوفي والإنساني الباحث عن الحقيقة والحب والدين ومفهومه الراقي والعميق، بعيدا عن الخلافات والتعصب والدموية.. لتعبر عن روح هذه المرحلة الانتقالية التي نعيش فيها مرحلة الصراع من أجل أن نصبح في حالة سياسية أفضل.