ازدحام الصائمين على دكان بائع الطرشى في حديث شريف: "للصائم فرحتان، فرحة عند افطاره، وفرحة عند لقاء ربه". ولاريب في ان الصائم يفرح عند الافطار لكنها فرحة تعقبها في آخر الليل ترحة. فعند الافطار، ينتظر الصائم المدفع ليستمتع بما لذ وطاب من ألوان الطعام والنقل والحلوي والتبغ والشاي والقهوة. ومهما يكن مركز الصائم ومرتبته فهو لابد موسع علي نفسه وأهله، أو موسع عليه من ذوي اليسار والكرماء، في المأكل والمشرب، فمن حقه أن يفرح إذا دنا الغروب، ومن حقه أن ينتظر المدفع ومن حقه أيضاً أن يجزع إذا ولي الليل ويسهر حتي يتميز الخيط الابيض من الخيط الأسود، يدخن أكبر عدد ممكن من السجاير، و"يكركر" في الجوزة أو الشيشة حتي اللحظة الاخيرة، ويحتسي ما يسعه احتساءه من القهوة أو الشاي، وإذا كان الفصل صيفا تزود بما استطاع من الماء.. ومن يكن هذا شأنه حق عليه أن ينتظر "مدفع الرفع انتظار المغامر انتهاء السير إلي أقطار محفوفة بالصعاب. وسنصف لك فيما يلي مشاهد من حياة الصائمين قبيل الغروب. وقبيل الامساك (الرفع) من الطعام والشراب، تفرد بها الشهر الكريم. أولئك نفر من أولاد البلد، قعدوا في القهوة و"الجوزة" في أيمانهم، وفناجين القهوة مترعة أمامهم، ينتظرون المدفع، قد جاعت أجسامهم جوعا لايسده فاخر الطعام، وإنما يسده "نيكوتين" والتمباك، كافيين، القهوة ولاعليهم أن تصبر معدتهم نصف ساعة، وهم الذين يصومون النهار كله في غير رمضان وما طعموا غير رغيف وقليل من "الفول المدمس". وتلك سيدة عجوز قد أعدت الطعام وجلس أبناؤها وأبناء أبنائها تكاد عيونهم الزائغة تلتهم المائدة وما عليها. أما هي فقد وضعت "الكنكة" علي النار، ووضعت السيجارة بين الوسطي والسبابة، وعلبة الكبريت في حجرها، ترهف أذنيها وتحبس أنفاسها، وتنظر في الساعة بمعدل مائة مرة في الدقيقة، وفي كل لحظة تسأل. أو ترسل من يسأل: "هل ضرب المدفع؟!". وقد نري سائق الترام يمرق بقطاره، كالسهم لايقف علي المحطات الا مكرها، واذا اضطر إلي الوقوف زمجر وتريث لحظات، والكمساري يستحثه ويساعده علي الاسراع، وإلي يمينه أو يساره طبق الفول والعيش، أو قطعة الجبن والحلاوة الطحينية والزيتون وحزمة الفجل الأخضر العريض، يخشي أن يدهمه المدفع فيدهم المارة في أسوأ الظروف. ومن المشاهد المألوفة في الاحياء الوطنية قبيل الغروب ازدحام الزبائن أمام بائع "الفول المدمس" و "الطرشجي" بائع المخللات: هذا يصيح استعجالا، وذاك يشق طريقه إلي الإمام، وثالث قد فاز بمأربه فهو يقتحم الجمع الحاشد، وقد وضع أرغفة العيش تحت أبطه وحمل "السلطانية" فوق كفه، وراح يجري بأقصي سرعة، وربما اصطدم ببعض المهرولين إلي دورهم. وعلي نواصي الأسواق، وأمام القهوات والدكاكين، تعرض أطباق وسلطانيات البلح والتين والزبيب المنقوع في ماء السكر وصواني الكنافة ترمقها العيون بلذة وشره وصانع الكنافة دائب في اعدادها لانجاز الطلبات، فمن عادة أولاد البلد صنع الكنافة في آخر لحظة، لكن الطلب يشتد علي صينية الكنافة التي يصنعها كل صانع استعدادا للطواريء، إذ يتأخر كثير من العمال عن موعد الافطار في البيوت فيفطرون علي الكنافة "السوقي" أو التين والبلح والزيتون المنقوع. وللدور الداخلية المدسوسة في الحواري والمنعطفات، عيون وطلائع يخرجون إلي الشوارع يسألون: "هل ضرب المدفع؟ هل أذن الأذان؟!" وقلما يجابون بغير: "فاضل حبة صغيرة". لكنهم وان لم يسمعوا المدفع أو الأذان، فانهم يسمعون تهليل أهل الحي صائحين" هيه، هيه!! فطار، فطار!" فيكرون راجعين إلي أهلهم ببشري الافطار. ولايقتصر التهليل علي الشوارع والحارات، ففوق السطوح تصعد الأوانس والاولاد فيرهفون الآذان لاطلاق المدفع والأذان، ولايسمعه منهم انسان في بعض الأحيان، فيهبطون بدعوة أهل الدار: "أن أنزلوا فقد ضرب المدفع". مدفع الرفع أما مدفع السحور فصورة معكوسة لمدفع الافطار فها هنا علي القهوة قد خرج أولاد البلد لتدخين الجوزة الاخيرة، وهناك عجوز تصنع القهوة لشربها في آخر لحظة، وهذا فتي حدث قريب العهد بالصوم لم يرقد لكي يشرب من القلة فوق ما تسعه معدته ورب رجل أدركه النوم والسيجارة في يمناه والكبريت في يسراه، فيضرب مدفع الرفع ولايستيقظ إلا والشمس تكسو الأرض بساطا عسجديا. وإذا كان الموسم شتاء، تعب الكبار في ايقاظ الابناء. وقد يفوتهم هم أنفسهم طعام السحور. ومن الناس من يخرجون إلي المساجد للصلاة، ومنهم من يفدون عليها من القهوات القريبة، وناس يتأهبون للنوم، وسواهم قد نام منذ ساعات أو نام رغم أنفه وهو يغالب الكري. وحركة في البيوت.. ثم يهدأ الجميع ويأخذ النعاس بمعاقد الأجفان وتعود القاهرة والمدن والقري كالبيت المهجور.