من بين الخطايا والحماقات العديدة التي ارتكبتها، وما أكثرها، أنني تأخرت كل تلك السنين عن بيروت، ما أفدح أن تزور مدينة كهذه وأنت في السادسة والستين، وتكتشف أن بيروت التي أحببتها بل وعشقتها علي مدي ستة عقود كبرت مثلك وأصابها ما يشبه الوهن. أبادر إلي القول أن ما أكتبه الآن ليس سوي انطباعات عابرة، عابرة جدا لأنني لم أمكث أكثر من أسبوع واحد، أفنيت أغلبه في القاعة المخصصة لجلسات تستمر طوال اليوم، أثناء انعقاد ملتقي الرواية العربية الذي نظمته الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية أشكال ألوان. لكنني كنت أعرف بيروت من قبل، أعرفها جيدا، وأسهمت بقوة في تكويني ورافقتني منذ مطلع الشباب .فيروز مثلا التي سمعتها وأنا أعيش رجفات أول حب، مجلة ودار الآداب اللبنانية وكتب سارتر وسيمون دي بوفوار وهربرت ماركيوز، دار الطليعة وابن رشد والتنوير ومجلة الحرية ..وغيرها، ترجمات هيمنجواي وفوكنر وشتاينبك..أفضال بيروت علي الواحد لا يمكن حصرها .بيروت التي فتحت ذراعيها للمقاومة الفلسطينية، وما زالت حتي الآن تقاوم الغطرسة الصهيونية، بيروت محمود درويش وترحيل المقاومة الفلسطينية إلي المنافي . بيروت الحرية التي لم نكن نعرفها .بيروت التي تحملّت عبء مكاتب لكل الأحزاب والمنظمات والحركات الماركسية السرية، وعبرها كنا نتعرف ونتعلم ونقرأ التحليلات وكتب فرانز فانون وريجي دوبريه وبليخانوف، إلي جانب كل ما تصدره الحلقات والحركات اليسارية العربية. بيروت أيضا هي خفة الدم والروح والحرية مرة أخري، هي الفضاء الطبيعي الذي طالما حلمت بأن أعيش في ظله.أظن أن جيلي وأجيالا أخري سبقتني ولحقتني تدين لبيروت بأفضال تطوّق أعناق الجميع.جيلي تحديدا يتذكر عقد السبعينات وجانبا من ثمانينات القرن الماضي، عندما قاطعنا دون اتفاق مسبق كل مجلات ومطبوعات الحكومة ورفضنا النشر فيها لأن القائمين عليها هم من أمثال يوسف السباعي وثروت أباظة وصالح جودت ومن لف لفهم ، وأمضي أغلب أبناء هذا الجيل قرابة عشر سنوات من المقاطعة الصامتة كشكل من أشكال الاحتجاج، وهاجرنا بقصصنا وقصائدنا ومقالاتنا إلي صحف ومجلات بيروت التي فتحت ذراعيها لنا . وهكذا كان الحب بيني وبين بيروت هو أول ما شعرت به تجاهها، هو نوع من العشق الذي لا يتوقف ولا تخفت جذوته، ولأن ما بيني وبينها وثيق إلي هذا الحد، ظللت أحمل لها العشق ذاته بعد أن تراجعت وأصابها الوهن، مثلما تراجع الجميع وأصابه الوهن، إلا أن الواحد يستثني مدينة بهية وجميلة إلي هذا الحد ممن أن يصيبها الوهن. سافرت إذن إلي بيروت وأنا أفكر في كل هذا، ولا يمكن أن يتخيل أحد حجم الفرحة والبهجة والسعادة التي تملكتني وأنا أحمل حقيبتي وأستعد لمغادرة الطائرة في بيروت. أما ما جري بعد هذا فهو ما سوف أستكمله في الأسبوع المقبل إذا امتد الأجل.