لم يتجاوز "د.محمد حسين هيكل" نصف الحقيقة، حين وصف الصحفيين الذين يشيدون بحكومة "إسماعيل صدقي" بأنهم أقذر الصحفيين المصريين أقلاما، وأنهم يتناولون الكرامات والأعراض بما يندي له جبين الأدب، أما نصف الحقيقة الآخر الذي لم يقله، فهو أن هذا الإسفاف في الجدل بين الصحف والأحزاب السياسية، لم يكن يقتصر فقط علي الصحف والصحفيين الذين يساندون حكومة "صدقي"، ولكنه كان قد استقر خلال السنوات العشر السابقة، كتقليد من تقاليد الديمقراطية علي الطريقة المصرية، منذ وقع الانقسام داخل قيادة ثورة 1919، بين اليعاقبة المتشددين يقودهم "سعد زغلول" رئيس الوفد، والجيروند المعتدلين بقيادة "عدلي يكن" بسبب إصرار "سعد" علي أن يتولي بنفسه رئاسة الفريق، الذي تقرر أن يتفاوض مع وزير الخارجية البريطانية "اللورد كيرزون"، وعلي أن تكون لحزب الوفد أغلبية المفاوضين، وهو الانقسام الذي أعلنه "سعد زغلول" رسمياً في خطاب ألقاه في 28 أبريل 1921، في حفل أقيم في "شبرا" تكريما له بمناسبة عودته من منفاه، وصف فيه "عدلي" وأنصاره بأنهم من "برادع الانجليز". وخلال هذه السنوات العشر، تصاعدت حدَّة الجدل الحزبي بين الصحف المناصرة لكل حزب من الحزبين الرئيسيين اللذين تقاسما النفوذ السياسي وتبادلا تشكيل الوزارات، وهبطت إلي مستوي من الفحش سرعان ما اتسع نطاقه، ليشمل صحفاً غير سياسية، وجدت في هذا المناخ فرصة لكي تنشر الفضائح وتطعن في الأعراض وتبتز بذلك أعيان الريف ومياسير التجار في المدن. بل إن جريدة "السياسة"- التي يرأس تحريرها "د.محمد حسين هيكل"- لم تتعفف- في حمي الخلاف السياسي- عن الطعن في أعراض قادة حزب الوفد، وكتّاب الصحف التي تنطق باسمه، حين كانت تدافع عن الانقلاب الدستوري، الذي قاده "محمد محمود" بين عامي 1928 و1929، كما أن ذلك هو ما كانت تفعله الصحف الوفدية في ردها علي ما تنشره الصحف المعارضة للوفد سواء كان في الحكم أو كان في المعارضة. ولم يكن تحذير "د.محمد حسين هيكل" من أن يقود طعن الصحف في الكرامات والأعراض، إلي الإخلال بالأمن والنظام، نتيجة للجوء الذين تتناول الصحف أعراضهم بالطعن، إلي الانتقام من أصحابها، بعيدا عن خمس محاولات للانتقام من الصحفيين لهذا السبب وصلت احداها إلي حدّ القتل، لم تكن قد غادرت ذاكرة المصريين آنذاك. وكان "محمد المويلحي"- صاحب ورئيس تحرير مجلة "مصباح الشرق" الأسبوعية-هو أول الصحفيين الذين تعرضوا لهذا الانتقام، إذ كانت المجلة أحد منابر الهجوم الساخر والحاد، علي الشرائح العليا في المجتمع المصري، وخاصة ملاك الأراضي الزراعية، الذين كان "المويلحي" يأخذ عليهم أنهم يجمعون الأموال ولا يستخدمونها في صناعة ولا ينمون بها تجارة، بل ينفقونها علي إشباع شهواتهم الحسية.. ويبددونها علي المظاهر الفارغة. ولأن "مصباح الشرق" كانت تعتمد علي الأسلوب الساخر فيما تنشره، فإن ما كان ينشر فيها، كان يستفز الذين تسخر منهم، وكان "محمد المويلحي" صاحب قلم ساخر شديد القسوة في سخريته، وقد استثار تعريضه المستمر بالأسر الكبيرة كراهية بعض أفرادها، مما جعلهم يخططون للتحرش به والعدوان عليه. وحدث في عام 1902 - أن التقي "محمد المويلحي" ب"محمد نشأت" أحد أبناء تلك الأسر، في حانة "دركوس" فدارت بينهما مناقشة حادة، حول ما نشرته "مصباح الشرق" عنه وانتهت المناقشة بأن رفع "محمد نشأت" يده، وصفع "المويلحي" صفعة شديدة علي قفاه، وعندما ذاعت أنباء تلك الصفعة، في الأوساط الأدبية، أثلجت صدور الكثيرين من الأدباء والشعراء والأعيان، ممن كانوا يكرهون "المويلحي" بسبب ما كان يوجهه إليهم من نقدات ساخرة. وكان من بين هؤلاء "الشيخ علي يوسف" صاحب جريدة "المؤيد" الذي كان بينه وبين "المويلحي" وصحيفته معارك متواصلة، فما كادت أنباء الصفعة التي تلقاها "المويلحي" علي قفاه تصل إلي "الشيخ علي" حتي خصص زاوية يومية في صحيفته بعنوان "عام الكف" لتكون ساحة لكل من يريدون هجاء محرر "مصباح الشرق" اشترك في تحريرها عدد كبير من أعدائه، كان من بينهم "أمير الشعراء" أحمد شوقي، الذي كان "المويلحي" ينقد شعره بقسوة، فكتب قصيدة يهجوه فيها يقول مطلعها "خدعوه بقولهم فيلسوف.. حتي رنت علي قفاه الكفوف". وبعد أقل من عامين وقع "علي يوسف" في مطب قصة زواجه المشهورة عندما اعترض نقيب الأشراف السيد "عبدالخالق السادات" علي زواجه بابنته لأنه غير كفء لها، من ناحية حسبه ونسبه، فرد عليه "المويلحي" بفتح باب في "مصباح الشرق" اتخذ له عنوان "عامل كفؤ".. (صلاح عيسي/ هوامش المقريزي/ دار القاهرة للنشر والتوزيع/ القاهرة 1983/ص190). وبعد أقل من عشرين عاما علي هذه الواقعة، وفي صيف عام 1922، تعرض "سليمان فوزي" - صاحب ورئيس تحرير مجلة "الكشكول" - لعدوان مشابه.. ولنفس السبب، وكانت "الكشكول"- كما ذكرت مجلة "اللطائف المصورة"- قد دأبت منذ صدورها عام 1921، علي مهاجمة "حزب الوفد"، وزعيمه "سعد زغلول"، وأصدقائه وأنصاره، بنشر النبذ والصور الكاريكاتيرية بقصد الطعن والتشهير والحط من كرامة العظماء والمشاهير.. ومما زاد الطين بلة - كما أضافت "اللطائف المصورة" تقول - إن "الكشكول" قد طال بطعنه وقدحة السيدات المصريات كتابة وتصويراً. وطبقا لرواية "اللطائف المصورة" فقد ظن أحد القضاة السابقين الذين تألموا من فداحة ما تنشره "الكشكول" أن خير رادع له، هو مقاضاته، إلاّ أن هذه التجربة، أكدت لآخرين، "أن هناك من الخلائق ممن لا يساس بغير العصا"، وكان ذلك ما فعله "محمد أفندي بكري"- المهندس بالمساحة- الذي توجه إلي محل "صولت الحلواني" والتقي "سليمان فوزي" وناقشه حول سفالة مقصده من الحط بقدر زوجات قادة حزب الوفد، وأقاربهن بنشر صورهن الكاريكاتورية بأسلوب تنفر منه العقول السليمة، ولما احتدت المناقشة، أمسك "بكري أفندي" بتلابيب صاحب "الكشكول" وقبض عليه بيد من حديد، ودفعه أمامه إلي أن ألصقه بحائط المكان، وهناك أخذ يكيل له اللكمات بغير عد أو حساب، وكانت ضرباته مؤلمة، افقدت صاحبنا شجاعته الأولي، عندما غدر ب"بكري أفندي" فأخذ يصيح ويستغيث، وينادي "يا شاويش" وتجمهر الناس حولهما، ولكن "بكري أفندي" لم يترك "فوزي" إلا بعد أن أشبعه وزوده بما ظنه كافيا له في المستقبل، ثم نبذه نبذ النواة، اشمئزازا منه وشفقة عليه. وفي تعليقها علي الواقعة، تمنت "اللطائف المصورة"- التي سبق وتعرضت لهجوم ضار من "الكشكول"- لو أن صاحبه الذي "ذهب إلي محل صولت ليأكل عنده الحلوي فأكل العلقم" أن يأخذ مما حدث له عبرة فيلجم لسان "الكشكول" ويكف عن التهجم علي كرام الناس حتي لا يظن الغرباء أن الصحافة مبتلاة بآفة التهجم علي هدم كرامة وشهرة رجالنا المعروفين وأفرادنا الذين يشار إليهم بالبنان".. (اللطائف المصورة - 8 أغسطس 1922). لكن ما حدث، لم يردع "سليمان فوزي" عما كان ينشره، كما لم يردع غيره، ففي عام 1927 تعرض "أحمد أفندي شفيق" صاحب جريدة "المطرقة" للضرب في أحد الأندية، وهو ما تعرض له كذلك "أحمد أفندي كمال الحلي" صاحب جريدة "ثمرات الفنون" ولكن في الشارع، وضرب معه "محمد زكي باشا" الكاتب المعروف. ونسبت "الكشكول" هذه الجرائم - التي وقعت بشكل متتابع ليس بين الواحدة والأخري غير زمن قصير - إلي "صعاليك الصعيد الذين لا يعرفون الصحفيين ولا يعرفهم الصحفيون" ولكنهم "مجرمون مأجورون من أجلاف الوجه القبلي، يستأجرهم الأنذال الجبناء الذين لا يجرءون علي مواجهة خصومهم للفتك بمن يتخيلون أنه عدوهم.. وليس الصحفي عدو أحد، غير السفالة والسقوط في هوة العار". وفي الجانب المهني من المشكلة استبعدت "الكشكول" البحث فيما إذا كان الصحفيون يخطئون حين ينتقدون المتهتكين من أعيان الفلاحين وأهل الحضر، أو لا يخطئون، أو ما إذا كان من حق الصحف أن تراقب أكلة حقوق الضعفاء، أو ليس لها أن تراقبهم، قائلة "إن الذين يرتكبون هذه الجرائم، ليسوا المجني عليهم ممن تنشر الصحف عنهم، ما يثير حفيظتهم ويدفعهم للعدوان علي الصحفيين، ولكنهم مأجورون، مجهولو الأصل، ممن لا تعني الصحف بنشر أسمائهم، أو تتبع أخبارهم". ومع أن "الكشكول" أكدت أنها "لا تحب أن يتعرض الصحفيون للشخصيات، ولا ترضي لكرامة الصحافة أن يشتغل بها من يتخذها كرباجاً يضرب به الناس، إلاّ أنها - مع ذلك - لا توافق علي أن ينتقم أحد لنفسه وفي البلد حكومة تعاقب كل خارج علي القانون"، وطالبت "كل من تنشر عنه الصحف ما ينقص من قدره، أو يمس كرامته، أو يؤذي عرضه، أن يلجأ إلي القضاء ليقتص له من الصحف التي تنشر عنه ذلك، "إلاّ أنها فرقت "بين الرجل الذي ثأر لشرفه فضرب الصحفي، وبين الذي يلجأ إلي استئجار بلطجي ليقوم عنه بهذه المهمة"، لأن من يفعل ذلك "يثبت أن كل ما نشرته الصحف عنه صحيح، وأنه نذل يعتدي اعتداء يخجل أن يأتي بمثله الحوذي والحلاق وماسح الأحذية فهو حقير حتي في نظر نفسه"، ومن كان كذلك لم يحجم عن "المخازي" التي تنشرها عنه الصحف (الكشكول- يناير 1927). ولم تنكر "الكشكول" أن مصر تصدر فيها أوراق كثيرة تسمي "جرائد" ليس فيها من معاني الصحافة غير الشكل الظاهر من بعيد، أما جوهر ما تنشره فهو "دروس في الدعارة والسفه والبعد عن المروءة والانغماس في الوقاحة التي لا تطاق"، وهي صحف كما قالت "تصيب الصحافة بالدنس وتلحق بسمعة الصحفيين الوَضَر وهم براء من هؤلاء الدخلاء في هذه الصناعة التي يجب تنزيهها عن الصغائر والسفاسف والشناعات". واحدة من هذه الصحف هي "أبوشادوف" التي كان يصدرها "محمد أفندي شرف" وهي يومية تخصصت في نشر الفضائح الأخلاقية للشخصيات العامة، من الفنانين والكتاب والأثرياء وخاصة أعيان الريف.. وكانت تتبع أسلوباً في النشر، يبدأ بالإيماء إلي الفضيحة، علي سبيل الابتزاز ويتصاعد إلي حدّ التلميح ثم التصريح إذا لم يفهم صاحب الشأن المطلوب منه.. فهي تنشر مثلاً خبراً يقول: قالوا لفلان بك كيف وجدت دارك الجديدة.. فقال إنها "لطيفة". في إشارة إلي أنه يصادق فنانة اسمها "لطيفة". وتنشر عن فلان بك أنه عزم علي قضاء الصيف في "رأس البر" لما فيها من "الفوائد" الصحية. في إشارة إلي أنه من المرابين الذين يقرضون المال بالربا. ومن بين هذه الإيماءات كذلك، نشر خبر عن ثري معروف تذكر اسمه وتقول بأنه سيسافر قريباً إلي مدينة "تفليس"، في إيماءة إلي أن إعلان إفلاسه بات وشيكا، وعن آخر بأنه سيقضي الصيف في جزيرة "سيلان" في إشارة إلي إصابته بمرض "السيلان" الذي كان شائعاً آنذاك! وكان نشر أخبار من هذا النوع، هو السبب في مصرع "محمد شرف"- صاحب ورئيس تحرير "أبوشادوف"- إذ نسبت صحيفته إلي "أمين همام"- النائب الوفدي عن إحدي دوائر الصعيد- أنه يتردد علي بيوت الدعارة، وصالات الرقص والغناء ويقترض من المرابين، وهو ما استفزه، خاصة وأن خصومه السياسيين والشخصيين في الدائرة، والأسر التي تنافس أسرته علي المكانة الاجتماعية في بلده، أخذوا يروجون لما نشرته "أبوشادوف" عنه، فحرض أحد أتباعه علي التربص بصاحبها، فقتله.. وقبض علي القاتل، واعترف بأن النائب الوفدي هو الذي حرضه علي قتل الصحفي، وقبض عليه، وقدم الاثنان إلي محكمة الجنايات، التي حكمت علي المحرض بالسجن ثلاث سنوات، وعلي القاتل بالسجن عشر سنوات، وقضت بتعويض مدني قدره مائتا جنيه فقط لأسرة الصحفي القتيل. وعلقت مجلة "الكشكول" علي الحكم قائلة إنه "من الأحكام التي تم فيها التوفيق بين القانون والعقل والعدل والعواطف علي صورة لا يبلغ إليها القضاة إلاّ باستيعاب كل ما في القضية وكل ما حولها من الأمور والنظر إلي كل ما تقدمها وكل ما لابسها من الظروف".. ومع أنها عبرت عن أسفها لتخفيف العقوبة علي المحرض والقاتل، ولأن التعويض المدني عن قتل أحد الصحفيين كان ضئيلاً، إلاّ أنها وصفت الحكم بأنه "درس في الأخلاق والآداب، يعرف به أمثال المرحوم محمد شرف قيمتهم المادية والأدبية فيخففون ثورتهم علي الأعراض والآداب والأخلاق" وانتهت إلي أن عدم تغليظ العقوبة علي القاتل والمحرض ومضاعفة التعويض المدني لأسرة الصحفي القتيل، يمكن أن يكون سبباً لتمادي أصحاب الوريقات المشابهة لجريدة "أبوشادوف" في الطعن علي الكبراء والقذف في الأشراف ونهش الأعراض واختلاق الأكاذيب لتحقير الأغنياء ابتزازاً للأموال" (الكشكول - 20 مايو 1927 ومصطفي أمين- من عشرة لعشرين ص 210). فصل من كتاب "الصحافة المصرية في معركة الديمقراطية" يصدر قريباً.