ما الذي يدفع فيلسوف ذائع الصيت وعالم اجتماع مرموق مثل جيل ليبوفتسكي للحديث والاهتمام بأمر مثل الموضة، يبدو للكثيرين كموضوع "ثانوي" أو عنصر رفاهية بحت تتمتع به الانسانية؟ كان ذلك السؤال هو اول ما شغلني عند التعرض لترجمة هذا الكتاب، ومع معرفتي بالفيلسوف من خلال ترجمتي لكتابه "المرأة الثالثة" الذي سبق أن صدرت ترجمته عن المركز القومي للترجمة في عام 2012، لم أندهش كثيرًا وإنما انشغلت بالبحث عن الأسباب. اشتهر ليبوفتسكي بالحديث عن سلوكيات الانسان في مجتمع ما بعد الحداثة أو بما أسماه مجتمع "الحداثة المفرطة" عبر الاهتمام بموضوعات تجلت في كتبه السابقة مثل "زمن العدم" (1983)، أو اللاحقة مثل "مجتمعات الاخفاق" (2006)، "السعادة المفارقة" (2006)، و"تجميل العالم" (2013) وصولاً لآخر كتبه "عن الخفة" (2015). حين التفت إلي موضوع الموضة كان حريًا به أن ينظر إلي نشأة الظاهرة بطرق جميع الأبواب المؤدية إليها ، أو بمعني أدق، المحيطة بها، فكانت البداية البديهية هي النظر في البعد التاريخي والذي بذل فيه مجهودًا ضخمًا وملحوظًا بجمع مادة دقيقة عن الطبقات الاجتماعية وأزيائها وأفكارها إزاء الملبس والمظهر، دون إغفال الجماعات محدودة الانتشار في أماكن متفرقة من العالم متناولاً تفاصيل مظهرها مرورًا بمرجعيات الزي الثقافية وفقًا لعادات تلك الجماعات وتقاليدها، وصولاً لأسباب تغير نمط الزي وأسبابه هو الآخر. كان للجانب الاجتماعي عنده، بصفته عالم اجتماع في الأساس، النصيب الأكبر في تحليله وعرضه. انتبه خاصة إلي أهمية عنصر التنافس بين الطبقات ونزعة المظهرية في نشوء وتشكّل وازدهار ظاهرة الموضة. فكلما ابتكرت طبقة النبلاء أو الطبقة العليا في أي مرحلة تاريخية زيا ما، كانت الطبقات الأقل تسعي، بعد بعض الوقت من ظهوره، لتقليده واستنزاله إلي طبقتها، وهو السلوك النابع من رغبة لاشعورية في الانتماء للطبقة الأعلي. بالطبع لم تكن الطبقة الأقل تستطيع في جميع الأحوال الاحتفاظ بتفاصيل وتكاليف الزي الباهظة بما لا يتناسب مع ميزانياتها وإمكانياتها المادية، فكانت تلجأ لتقليد مشوِّه بعض الشيء، مما يدفع بالطبقة الأعلي للتخلي عن الزي وابتكار آخر جديد تتميز به... لتستمر الدائرة الحلزونية. لم يتوقف الفيلسوف عند البعد التاريخي والاجتماعي وانتقل إلي مناطق أكثر اثارة في تاريخ الموضة مثل نشوء الماركات العالمية وكيف استطاعت أن تجذب في ركابها، رغم الأثمان الباهظة لأزيائها، عددًا متزايدًا من الزبائن والمهتمين بها. لم تلبث تلك الماركات أن ووجهت بصناعة الملابس الجاهزة التي انتشرت في جميع أركان العالم بشكل سريع وكانت تحاكي تصميمات الأزياء الراقية والماركات العالمية مع الاستغناء عن بعض التفاصيل، هنا يوضح لنا الكاتب كيف تطور هذا الصراع وكيف تم حسمه. ومع كون المؤلف لا ينتمي لعلماء الاقتصاد إلا أنه لم يستثنِ البعد الاقتصادي من عرضه بل وأفرد له صفحات عديدة، فنلاحظ جهدًا لافتا يقف خلف الأرقام والإحصائيات المختلفة والمتنوعة التي تدعم نظرياته وتفسر فرضياته، فكان كل فصل وكل فقرة مدعمة بما يمكن أن يقنعنا كقراء بمراحل تطور مسيرة الملبس. لم يغفل الكاتب الموضات الحديثة التي قلبت الموازين وفرضها الشباب في العصر الحديث علي بيوت الأزياء بميولهم للتحرر والنزعة العملية والتخفف من قيود ومعايير الزي القديم مسترشدًا بالأسماء والتواريخ المحددة، ومعبرًا عن أسلوب حياة ونمط تفكير أجيال استطاعت فرض ذائقتها علي خريطة الموضة. المدهش في الكتاب أنه لا يتوقف عند نمو الموضة وتطورها في مجال المظهر فقط بل ينتقل بنا إلي الحديث عن موضة الاجهزة والأدوات التي تستخدمها العائلات في البيوت والحياة اليومية، لنجد أنفسنا نعبر معه فوق جسر منطقي يربط بين ذوق الانسان المعاصر في الزي وفي باقي تفاصيل حياته اليومية لنكتشف مبررات وجيهة تحكم الاختيارات في كافة المجالات. يتميز أسلوب الكاتب بالصعوبة، كعادة الفلاسفة، في تركيب العبارة واختيار المصطلحات، فينطبق عليه ما يقوله معظم النقاد "يستخدم أسلوبًا دقيقًا ومركبًا في الحديث عن أشياء بسيطة" إلا أنها وإن بدت بسيطة في ظاهرها فهي معقدة في عمقها، كما أن رحلة التفكير الفلسفي هي ما تستوجب هذه الصعوبة الاسلوبية. لذا، لم تكن ترجمة الكتاب بالأمر الهين، خاصة أنه ينتقل بين مستويين في الكتابة: مستوي التنظير ومستوي السرد التفصيلي لأسماء وتواريخ وغير ذلك، فكان من الضروري المحافظة علي المستويين في لغة الترجمة أي اللغة العربية. تعتبر ترجمة كتاب "مملكة الموضة" الخطوة الثانية بالنسبة لي في مسيرة نقل فكر هذا الكاتب إلي العربية، بعد ترجمتي لكتابه "المرأة الثالثة"، أول كتاب يترجم للمؤلف إلي اللغة العربية، قناعة مني بأهمية أن تشتمل المكتبة العربية علي كتاباته لما لها من خصوصية علي مستوي الموضوع والاسلوب، ولافتقاد المكتبة العربية لمثل تلك الموضوعات بهذا العمق في التناول. كما يري ليبوفتسكي أن المكتبة الأوروبية أيضًا لا يوجد بها كتابات كافية في موضوع الموضة منذ كتاب رولان بارت الشهير "نظام الموضة" (1967) الذي لم يتناول كل جوانب الموضوع كما فعل ليبوفتسكي، غير انه اعتمد علي كتاب بارت كمرجع في بعض أجزاء كتابنا. ترجمة العنوان الأصلي للكتاب هو: مملكة الزائل ، الموضة ومصيرها في المجتمعات الحديثة، إلا أننا عند الترجمة آثرنا تفضيل لفظ الموضة في العنوان الرئيسي كونه هو الموضوع الأساسي، مع الاحتفاظ بصفة الزوال الغرائبية التي تعد مصدر الدهشة في محتويات الكتاب في السطر اللاحق. وما يقصده ليبوفتسكي بالزوال هو الخسوف الذي يلحق بظهور موضة ما، ويعقبه شروق جديد لموضة أخري، إذن، فهو زوال يتجدد. من هنا يتضح لنا أن اهتمام الكاتب بموضوع الموضة نابع من قناعته بضرورة سبر أغوار ماضيها وتاريخها بهدف فهم الرسم البياني المتذبذب لمسيرتها وما شهدته من تقطعات عبر مسيرتها، وللتأكيد علي كونها لا تتميز بالخفة التي يعتقدها الكثيرون، بل يتحكم فيها ويحركها أطراف عدة ومسارات تتجاور أحيانًا وتتقاطع أحيانًا أخري، مثلها مثل ظواهر أخري تؤخذ علي محمل الجد ربما أكثر منها. لم يمر الكتاب عند ظهوره في فرنسا مرور الكرام، بل حظي باهتمام كبير من قبل المهتمين والمشتغلين بالموضة، فاعتبر كمرجع فريد في الأبحاث المنصبّة علي الموضوع. كذلك حقق الكتاب مبيعات مرتفعة وطبع طبعات عديدة منها طبعات شعبيّة، وهو ما يثبت اهتمام القاريء العادي به، وربما يرجع ذلك إلي ما بالكتاب من تفسيرات مثيره لسلوك الانسان العادي وما يولي من اهتمام بمظهره دون ان يتوقف أمامه بالتساؤل. وقد اخترنا هنا هذا الجزء الذي يبدأ فيه الكاتب اسهابه في شرح جذور ونشأة ظاهرة الموضة والاهتمام الشديد بالمظهر، وهو من الأجزاء النظرية التي تتوازي مع أجزاء أخري عملية يتضمنها الكتاب الذي يصدر قريبا عن المركز القومي للترجمة.