تقوم الثقافة الجماهيرية بوزارة الثقافة، بإعادة طبع الكتب ذات القيمة الباقية، والتى تحمل نفحة من التأثير المستمر. وقد نفدت طبعاتها منذ صدورها، أحيانا من عشرات السنين، لكتاب مصريين أو عرب أوغيرهم.. وكثيرا ما يأتى الكتاب كهدية لاسيما أنه يصدر أحيانا - للأسف- بغير تقديم يشرح أهميته وأثره والظرف الذى أحاط بصدوره.. باستثناء الكتب التاريخية، التى تصدر فى سلسلة يشرف عليها أستاذ التاريخ الدكتور أحمد زكريا الشلق، إذ تحرص أن تقدمها للقارئ مع مقدمة حديثة مسهبة، تقود بها خطوات القارئ إلى عالم الكتاب..المفروض أن هذه الطبعة الجديدة من كتاب.. «نظرية الطبقة المترفة» تتجه إلى أجيال جديدة من القراء، سمعت بالكتاب ولم يتح لى اقتناؤه أو الاطلاع عليه.. ولا أعرف مدى اهتمام أو معرفة هذه الأجيال بهذا التراث القيم. ومن الجدير بالتنويه، أن سعر الكتاب رخيص، فى متناول أى قارئ، مهما يكن مستواه المالى، فثمنه لا يتجاوز ثمن فنجان شاى، فى مقهى عادى.
وكتاب «نظرية الطبقة المترفة».. من تأليف ثورشتاين فبلن وترجمة محمود محمد موسى ومراجعة إبراهيم سعد الدين وتذكرت الكتاب على الفور، بل إن طبعته الأولى فى مكتبتى - ولكن لن أستطيع العثور عليه - وقد اقتنيته عند صدوره، منذ ما يقرب من نصف قرن.
وأعترف أننى لم أقرأه، بين مئات الكتب التى يشتريها المرء ويكدسها، على أمل قراءتها ذات يوم.
وأغرانى عنوان الكتاب وموضوعه بالإقبال على قراءته، فور صدوره، هذه المرة.. أغرانى تساؤل حول مقاربته لموضوعه - موضوع الطبقات الاجتماعية - والذى تعرض لهزات بل زلازل من المتغيرات، خلال هذه العقود من السنين، كيف تبدو لنا اليوم ؟ حيث أصبح مفهوم الطبقة العاملة موضع مراجعة.
كان هذا الدافع قويا جعلنى أقبل على الكتاب بشغف وشوق.
وقد كانت قراءته بالنسبة لى مفاجأة.
وأعترف لك من البداية أنه من الكتب الصعبة، التى تحتاج من قارئها إلى كل طاقته من التركيز والاحتشاد.
بل ربما يكون من الكتب القليلة، التى قد تعين أن يعيد قراءته مرة ثانية.
ومهما يكن اختلافك مع آرائه وأفكاره، فإنك لا تملك غير الإصغاء إليها وتأملها.
فهو يشرح أفكاره، بإلحاح وتأن وبشواهد عديدة، معظمها من بنات إبداعه وملاحظاته الخاصة.
ونبه قارئه من البداية، أنه ليس فى حاجة إلى الإشارة إلى ذكر المراجع على كثرتها، لأنها تمتزج مع الوقائع والملاحظات الشخصية. فالأهم هو وضوح الفكرة وترابطها.
ويمكن تصنيف الكتاب بأنه من كتب الاقتصاد.. فهو يدور حول طبقة الأثرياء ومصادر قوتهم وأسلوب استهلاكهم ودورهم ومظاهر تأثيرهم على بقية الطبقات.
ولكنه أيضا أوسع من أن يكون كتابا فى الاقتصاد، بالمعنى المعروف. فمؤلفه فعلا صاحب نظرية فى طبيعة طبقة الأغنياء وسلوكهم والمنابع التى انحدروا منها.
وفى الفترة التى ظهر فيها هذا الكتاب، كان التحليل الماركسى للطبقات الاجتماعية هو السائد.
ولكن أصالة الكتاب، والنظرات الخاصة لصاحبه، والتحليل المتميز، تجعله إضافة جديدة. وجوهر التحليل أن الطبقة الاقتصادية الأغنى، أو المتربعين فى أعلى السلم، أو الخمسة مائة الأكثر ثراء فى المجتمع، هى طبقة غير منتجة من الناحية الفعلية. وهى لا تعرف العمل بمعناه الفعلى والمباشر.
فالفراغ هو العامل الحاكم فى حياتها وسلوكها وتقاليدها.. هذا الفراغ يتمثل فى كل خطوة من الخطوات، وكل مظهر من مظاهر الحياة التى يصوغون هم مبادئها، وتنشر بها منهم بقية الطبقات : العمارة، الأزياء، الشعائر. إلخ
ويرتبط بهذا الفراغ ملمح آخر أقوى، هو الإسراف، وبمعنى أصح التبديد، الإسراف المظهرى، إنها لا تستهلك ما تحتاجه فقط، إنها تتفنن فى هذا الاستهلاك، تفننا مذهلا، وتخترع لهذا الاستهلاك أهدافا غير حقيقية، وتنجح فى إقناع بقية الطبقات بالسير وراءها..
إنها ترسخ قيمة عامة أن حسن السمعة والاحترام يرتبط بهذا الفراغ والإسراف غير المبرر، و«أن التبديد من علامات علو المقام».
وعلى مر الأيام يصبح التنافس المالى والتحاسد الطبقى هو المحرك الرئيسى لسلوك الجميع. والكتاب الذى نتحدث عنه، قائم على ضرب الأمثلة على هذه السمات التى تطبع هذه الطبقة المترفة.
أمثلة تتبدى للقارئ كأنه يراها لأول مرة.. وهى التى تصنع أصالة الكتاب وتفرده.
اسمع رأيه فى تربية الكلاب مثلا : «فالكلب فى رأيه من أقذر الحيوانات الأليفة وأحطها عادات، وهو يتقرب إلى صاحبه بطريقة ملؤها الخضوع والمداهنة، وهو بذلك يستعرض حب السيادة عند الإنسان. وهو لا يؤدى غرضا نافعا».. ويتعجب لما يتفنن به الناس عن جمال شكله ورشاقته. كما يرى أن السلالات التى استولدوها، فى غاية القبح، وتتدرج أسعارها كلما زادت غرابة أشكالها.
ويختم هذا الرأى بقوله : إذا كانت القيمة التجارية لهذه الكلاب، بسبب نفقاتها الباهظة، فإن قيمتها عند الذين يقتنونها كدليل على تبديد المال وقال كلاما قريبا من هذا عن تربية الخيول والقطط.
والأسباب الحقيقية وراء هذا الاهتمام، الذى يراه يندرج تحت بند التبديد والشذوذ والضياع.
بل يعيده إلى أسباب ضاربة فى أعماق التاريخ الإنسانى.. وقد كان المفكرون منذ عهد الفلاسفة اليونان إلى اليوم، يعترفون بدرجة من البطالة، والإعفاء من مزاولة أنواع من العمل التى تسد الاحتياجات اليومية، يعترفون بها على أنها من مستلزمات الحياة اللائقة والجميلة.
وعقد فصلا خاصا، يثبت فيه أن تطور الملابس والأزياء، دليل ناصع على حرص هذه الطبقة على البطالة وتبديد المال والوقت.
فملابس النساء تختلف عن ملابس الرجال اختلافا أساسيا فى نقطة واحدة. فملابس النساء تتمسك أشد وأوضح بكل المظاهر التى تدل على أن لابستها معفاة من القيام بأى عمل إنتاجى يتسم بالخشونة أو غير قادرة عليه.. ويحلل ملابس المرأة، وبالذات الكعب العالى والتنورة والمشد «فالمشد تشويه أساسى تتحمله المرأة، يهدف إلى تقليل حيويتها وجعلها باستمرار غير صالحة للعمل بدرجة واضحة». وكذلك ملابس الرجال : «فكثير من الفتنة التى تكتنف الحذاء الجلدى ذا اللمعة الدائمة، والقماش النظيف الخالى من البقع، والقبعة المستديرة البراقة، وعصا السير التى تزيد عظمة الرجل المهذب، إنما تأتى من دلالاتها القطاعة، على أن لابسها لا يستطيع وهو يلبسها، أن يمد يده إلى أى عمل، يفيد الإنسان فائدة مباشرة».
ثم يؤكد أن الأثر الجميل الذى تتركه فى نفوسنا الملابس الأنيقة النظيفة، يرجع أساسا - إن لم يكن دائما- إلى أن توحى بأن صاحبها يتمتع بالفراغ.. والمثل الذى ضربه حول الأزياء، بالتفصيل، واستطرد فيه إلى تغيير مبدأ الموضة التى تتغير كل عام، مجرد مثل من عدة أمثله، منها تربية الحيوانات، الذى أشرنا إليه، قبل قليل، والألعاب الرياضية، والمعابد الدينية ومبانيها الضخمة، وملابس رجال الدين، وغيرها من الأمثلة كثير.
رأيه أن الفراغ والبطالة والنفور أو احتقار العمل اليدوى هو مبدأ أساسى يطبع حياة الأغنياء، وبطالة هذه الطبقة، لا علاقة لها بالبطالة التى تشكو منها وتخافها الطبقات الأخرى.
فهى بطالة تاريخية موروثة، ولأنها تملك الكثير وتستطيع أن تشترى ما تشاء.
فهى طبقة ترث جيلا بعد جيل مبدأ أن الملكية والحيازة توفران لصاحبهما ما يريد وهو الانقسام الذى يبدأ منذ العصور البدائية بين الملاك والعبيد.
وحين يستعرض الباحث الكبير تاريخ «الفراغ»، يعود به إلى العصر البدائى، حيث رسخ التفريق بين أعمال البطولة وأعمال الكدح، وأعمال البطولة آنذاك تتمثل فى القنص والحرب، ويقول: «وفى كثير من الجماعات البدائية، يشتد تمسك الناس بهذا التفريق النظرى بين أعمال البطولة وأعمال الكدح، إلى درجة أن الرجل إذا قنص حيوانا، فإنه لا يجب أن يحمله إلى المنزل، بل عليه أن يرسل امرأة تقوم بهذا العمل المهين» .. وليست كل المؤلفات تنجح فى البقاء بعد وقتها، ولا يخبو نورها.. فهذا أمر معروف.
ويمكن لقارئ هذا الكتاب، أن يناقش كثيرا من أفكاره، ويتساءل عن هدف المؤلف من بسط فكرته.
ولكنه لن ينكر عليه عمقه ومهاراته فى تشخيص الظاهرة التى خصص لها بحثه. وكثيرا ما كان يكرر أن مما يقوله له جوانب أخرى، لن يتعرض لها. فهو يقصر بحثه على تأثير ما يقول على الجانب الاقتصادى.
مثلا استطراده فى إقناع القارئ بتفاهة ظاهرة أن قيمة الشىء أن يكون غالى الثمن، حتى لو لم يكن مفيدا أو جميلا بل إن غلو ثمنه يجعله جميلا، وأن المثل «كل رخيص حقير» ليس واقعيا. فالتشخيص الدقيق والمقنع يكفيه. وربما هذا ما كان يرمى إليه.. ومن هنا فلن يندم قارئه على الوقت الذى بذله فى تتبع الأفكار وجذورها.. والأجيال الجديدة من القراء، إذا أتيح لها قراءته والتعرف عليه، فإنها ستتعلم منه، المقدرة على التحليل، ومراجعة الآراء السائدة، وتفكيك الراسخ من القيم والمبادئ، حتى لو كانت موضع اقتناع الملايين.